ماذا يعني انتخاب هندوسي “ملون” رئيسا لوزراء بريطانيا؟

احتلت بريطانيا الهند عام 1758، ودام هذا الاحتلال 200 عام، لكن الأقدار ادخرت معجزة سياسية تاريخة لم ترد بمخيلة صانعي الأفلام الهندية المفعمة بالأسطورة والخيال، إذ أصبح هندي هندوسي رئيسا لوزراء بريطانيا بعد 75 عاما من رحيلها عن الهند.

يجمع رئس الوزراء البريطاني الجديد ريشي سوناك عددا من صيغ التفضيل، فهو أول بريطاني من أصل هندي، وأول صاحب بشرة سمراء، وأول هندوسي يتولى هذا المنصب في تاريخ بريطانيا ذات ماض استعماري واسع النطاق، ولا يزال محل نزاع.

وسوناك (42 عاما) هو أصغر رئيس وزراء بريطاني في التاريخ الحديث، وبالعودة إلى التاريخ البريطاني نجد شخصا تولى المنصب وهو في سن 24 عاما، وهو ويليام بيت، وذلك في عام 1783. بتوليه المنصب ينتزع سوناك اللقب الأصغر من توني بلير الذي كان يبلغ من العمر 43 عامًا عندما أصبح رئيسًا للوزراء في عام 1997.

من المفارقات أن يأتي وصول سوناك إلى أعلى المناصب السياسية في بريطانيا العظمى بعد احتفال الهند مؤخرا بمرور 75 عاما على نيل استقلالها عن الحكم الاستعماري البريطاني.

ومن المفارقات أيضا تزامن الحدث التاريخي المتوقع مع الاحتفالات الهندوسية بـ”مهرجان ديوالي”، أو مهرجان الأنوار، وهو أحد أهم المهرجات الدينية عند الهندوس، إذ يرمز عندهم إلى “انتصار النور على الظلام، والخير على الشر، والمعرفة على الجهل”.

كما يرتبط المهرجان بـ”آلهة الرخاء والحكمة وإزالة العقبات” عند الهندوس، إلى جانب العديد من التقاليد الأخرى كالاحتفال باليوم الذي عاد فيه راما إلى مملكته في أيوديا مع زوجته سيتا وشقيقه لاكشمانا بعد هزيمة الشيطان رافانا في لانكا، بعد أن قضى 14 عامًا في المنفى.

هندوسي “ملتزم”
كان طبيعيا أن يحظى وصول ريشي سوناك بحفاوة خاصة من الهندوس الذين يعتبرونه “هندوسيا ملتزما، إذ شوهد وهو يشارك في الاحتفالات الهندوسية بمهرجان ديوالي، كما تم تصويره وهو يضيء الشموع خارج 11 داونينغ ستريت للاحتفال بهذه المناسبة.

واقترح آخرون مازحين أن المهمة الأولى لسوناك بعد أن أصبح رئيسا للوزراء يجب أن تكون إعلان ديوالي -الذي يحتفل به يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول- عطلة وطنية في بريطانيا.

قال بعض الهنود على وسائل التواصل الاجتماعي إن بتولي سوناك رئاسة الوزراء سيجعل هذا العام أكثر خصوصية لمهرجان ديوالي، خصوصا وأنه شهد فوز الهند “الرائع” على غريمتها وجارتها “اللدود باكستان في لعبة الكريكيت في وقت متأخر أمس الأحد.

وعلى مواقع التواصل الاجتماعي بدت الحفاوة الهندوسية جلية حيث ربطت بين المصادفات السابقة، مع الإشارة إلى أن سوناك كرر اليمين رئيسا للوزراء على “بهاجافاد جيتا” الكتاب الهندوسي المقدس، وأجمعوا على القول بأن هذا العام هو الأكثر خصوصية.

تطلعات مودي
كان رئيس الوزراء ناريندرا مودي في مقدمة زعماء العالم الذين هنؤوا سوناك بتوليه رئاسة الوزراء في بريطانيا، وغرد مودي “أحر التهاني، وأتطلع عندما تصبح رئيس وزراء المملكة المتحدة إلى العمل بشكل وثيق معا بشأن القضايا العالمية، وتنفيذ خارطة الطريق 2030”.

كما أعرب مودي في تهنئته عن تمنياته بتعزيز “الجسر الحي” للهنود في المملكة المتحدة، و”تحويل روابطنا التاريخية إلى شراكة حديثة”.

ومع انخراط الهند وبريطانيا في المرحلة الأخيرة من المفاوضات المضطربة بشأن اتفاقية التجارة الحرة، سيكون هناك اهتمام كبير في الهند لمعرفة ما إذا كان سوناك، وزير المالية السابق في حكومة بوريس جونسون، سيكون قادرا على إتمام صفقة تجارية بسرعة.

ودخلت هذه المفاوضات مرحلة صعبة بعد أن أعربت وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان -وهي أيضا من أصل هندي- عن تحفظاتها على أن الصفقة التجارية لأنها ستزيد الهجرة إلى المملكة المتحدة وتتعارض مع أهداف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

كما تطمح حكومة مودي -إلى جانب التعامل مع المشكلات المحلية مثل ارتفاع تكلفة المعيشة والارتفاع الهائل في تكاليف الطاقةـ إلى العمل على إصلاح العلاقة مع بريطانيا والالتزام بتنفيذ خارطة الطريق 2030، التي تتوخى تكثيف العلاقات في المجالات الرئيسية مثل التعاون السياسي والدفاع والأمن والتجارة والصحة وتغير المناخ.

بائع أدوية
وُلد سوناك عام 1980 في ساوثهامبتون على الساحل الجنوبي لإنجلترا لأبوين من أصل هندي، ولدا في شرقي أفريقيا. نشأ سوناك في عائلة من الطبقة المتوسطة، وكان والده طبيب أسرة، وأمه صيدلانية، ويقول إنه ورث منهما روح العمل الجاد.

وعن تلك المرحلة، يقول سوناك “نشأت وأنا أعمل في المتجر، وأقوم بتوصيل الأدوية، كما كنت أعمل نادلا في مطعم هندي أسفل الشارع”، ويفخر بأن والديه ادخرا لإرساله إلى كلية وينشستر، وهي واحدة من أغلى المدارس الداخلية وأكثرها تميزا في بريطانيا.

وفي تلك المدرسة اختلط بالنخبة. أخرج المنافسون مؤخرًا مقطعا من فيلم وثائقي تلفزيوني عام 2001 حول نظام الفصل الدراسي، حيث قال سوناك البالغ من العمر وقتها 21 عاما إن لديه “أصدقاء أرستقراطيين، وأصدقاء من الطبقة العليا، ولدي أصدقاء، كما تعلمون، من الطبقة العاملة.. حسنا، ليس الطبقة العاملة”.

بعد المدرسة الثانوية، درس سوناك السياسة والفلسفة والاقتصاد في جامعة أكسفورد -وهي الدرجة المفضلة لرؤساء الوزراء المستقبليين- ثم حصل على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة ستانفورد.

عمل في بنك للاستثمار في الولايات المتحدة مديرا لصندوق التحوط، وعاش هناك، حيث التقى بزوجته أكشاتا مورتي. ولديهما ابنتان.

بعد عودته إلى بريطانيا، تم انتخاب سوناك لعضوية البرلمان للحصول على مقعد حزب المحافظين الآمن في ريتشموند في يوركشاير في عام 2015. وفي استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، أيد مغادرة الاتحاد.

عندما فازت “المغادرة” بشكل غير متوقع، انطلقت مسيرة سوناك السياسية، إذ شغل عدة مناصب وزارية صغرى، قبل أن يعينه جونسون وزيرًا للخزانة -رئيسًا للخزانة- في فبراير/شباط 2020، قبل انتشار جائحة كورونا.

لا يخفي سوناك إعجابه الشديد برئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر، ومع ذلك فقد صرف المليارات من أموال الحكومة لإبقاء الأفراد والشركات واقفين على أقدامهم خلال جائحة كورونا. وجعله برنامجه، الذي دفع رواتب ملايين العمال عندما تم تسريحهم مؤقتا، العضو الأكثر شعبية في الحكومة، وهو وضع صقله برسائل على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي قال المنافسون والنقاد إنها شددت على علامته التجارية الخاصة أكثر من الحكومات.

سيطلب الملك تشارلز الثالث الآن من سوناك تشكيل حكومة، ويصبح رئيسا للوزراء بعد تسلّم السلطة من ليز تراس اليوم الثلاثاء في مشهد مختلف عما كان عليه الحال في أوائل الشهر الماضي، حين استقبلت الملكة الراحلة إليزابيث الثانية تراس لتكليفها بتشكيل الحكومة، إذ اختفت سيدتان وحضر رجلان.

ورغم غياب “تاء التأنيث” من صورة القمة السياسية والملكية في بريطانيا، فإنها حاضرة في الولايات المتحدة ومصدر فخر للهنود أيضا وهي كامالا هاريس نائبة الرئيس الأميركي جو بايدن (80 عاما)، فهل تدخر الأقدار مفاجأة أو سابقة سياسية في أميركا على غرار ما حدث في بريطانيا خصوصا للهنود الذين يفخرون بتوؤ شخصيات تمتد جذورها إلى الهند -التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة- مناصب سياسية قيادية في الغرب؟

وقالت صحيفة “الغارديان” البريطانية تعليقا على فوز ريشي سوناك بزعامة حزب المحافظين، ووصوله إلى كرسي رئيس الوزراء، بأن سوناك على وشك أن يصبح أول بريطاني ملون هندوسي في المملكة المتحدة يصل داونينغ ستريت، مشيرة إلى تطور المجتمع البريطاني متعدد الثقافات والأديان.

وتابعت بأنه “على الرغم من وجود زيادة ملحوظة في تعيين السياسيين الملونين في المناصب الوزارية العليا، بما في ذلك المناصب الرئيسية للمستشار ووزير الداخلية ووزير الخارجية، لم يكن لدى المملكة المتحدة رئيس وزراء ملون من قبل”.

ونقلت عن ساندر كاتوالا من مركز أبحاث المستقبل البريطاني، الذي يركز على الهوية والعرق، قوله إنها كانت “لحظة تاريخية” “ببساطة لم تكن ممكنة حتى قبل عقد أو عقدين”.

وتابع: “يظهر أن الخدمة العامة في أعلى منصب في بريطانيا يمكن أن تكون مفتوحة لأولئك من جميع الأديان والخلفيات العرقية، سيكون هذا مصدر فخر للعديد من البريطانيين الآسيويين – بما في ذلك العديد ممن لا يتبنون سياسة ريشي سوناك المحافظة”.

سوناك هندوسي الديانة، رغم أنه نادراً ما تحدث علناً عن عقيدته. وتم تسميته زعيما في مهرجان ديوالي الذي يحتفل به ملايين الهندوس والسيخ في جميع أنحاء العالم، تيمنا بالبدايات الجديدة وانتصار الخير على الشر والنور على الظلام.

قبل عامين، عندما كان سوناك مستشارًا، أشعل الشموع بمناسبة عيد ديوالي في داونينغ ستريت في وقت كانت فيه قيود كوفيد سارية.

وقال وقتها للصحيفة: “لقد كانت واحدة من أكثر اللحظات التي أفتخر بها أنني تمكنت من القيام بذلك على درجات سلم داونينغ ستريت، لقد كانت واحدة من أكثر اللحظات التي أفتخر بها في الوظيفة التي أمضيتها خلال العامين الماضيين (…) إيماني يمنحني القوة، ويعطيني هدفًا، إنه جزء من هويتي”.

ونقلت الصحيفة عن أستاذ علم الاجتماع والسياسة العامة بجامعة بريستول، طارق مودود، قوله: “مهما كانت آراؤه السياسية، فإن وصول سوناك إلى رئاسة الوزراء هو لحظة تاريخية للتعددية الثقافية والمساواة العرقية، لقد حدث ذلك في وقت أقرب بكثير مما كان يتوقعه أي شخص”.

وقالت الأستاذة المساعدة في السياسة البريطانية في جامعة نوتنغهام، نعمة بيغوم، إن تعيين سوناك “يظهر إلى أي مدى جاء تمثيل الأقليات العرقية في السياسة”.

وأضافت: “لقد زاد تمثيل الأقليات العرقية في حزب المحافظين بشكل ملحوظ منذ أن قام ديفيد كاميرون بتحديث الحزب، لكن غالبية الأقليات العرقية تواصل التصويت لحزب العمال”.

وتابعت: “سوناك كرئيس للوزراء ليس بالضرورة سببًا للاحتفال لجميع الأقليات العرقية. لا ينبغي استخدامه لدحض الوجود المستمر للعنصرية أو لإخفاء حقيقة وجود تفاوتات عرقية وإثنية منهجية موثقة جيدًا في السكن والصحة والتعليم”.

 

 

 

Exit mobile version