رد الشبهات عن القرآن الكريم.. أيهما أقدم الآرامية أم العربية؟

 

إن التفكير اللغوي عند العرب الأوائل الذين قعّدوا للغة العربية، قواعد وقوانين تحكم صياغتها الصرفية والصوتية، النحوية والدلالية، كان تفكيراً علمياً انبثقت عنه نظرية كبيرة تسمى في عرف المحدثين “النظرية النحوية العربية”.

وللدخول في صلب الموضوع مباشرةً، هناك من يخرج بشبهات تقول: إن اللغة العربية فرع من الآرامية؛ ما يعني التشكيك بلغة القرآن الكريم، مستندين إلى طرح بعض المفردات المتشابهات من المرادفات بين العربية والسريانية، ونرى أن هذا الجهد، إذا كان جهداً فكرياً علمياً بحتاً، فإنه يَصب في مجرى حرية الفكر والبحث، لكن عندما يصل إلى حدود التشكيك من واجب الجميع الدفاع ضمن الحجة الموثقة والدليل المؤكد، إذا كان وراء جهد الفكر هدفاً يتخطى حرية الفكر إلى دائرة التشكيك بأصالة لغة النص بغية إخراج فكر النص من نبعه الثقافي والتاريخي والجغرافي، فنحن أمام مناكفة عقائدية ليس لها علاقة بحرية الفكر والبحث، وهكذا جهد ليس أهلاً للنقد.

فمن المعروف أن اللغات السامية على اختلافها وتجذرها في القدم هي موجودة وبعضها حي إلى الآن، وهي لغة القدماء وتندرج ضمن الحضارات السابقة والتاريخ، بأن كان هناك حضارات سابقة تتحدث لغتها الخاصة بها، فكما نعلم أن السيد المسيح عليه السلام كان يتحدث الآرامية، وأن الإنجيل نزل بالآرامية بلغة السيد المسيح، لأن جغرافية المنطقة كانت تتحدث الآرامية في تلك البقعة الجغرافية، يقابلها في مناطق أخرى من يتحدث الكلدانية والآشورية والعربية والعبرية وغير ذلك.

وبما يتعلق بلغة القرآن، وعلاقة العربية بالسريانية والآرامية، هو أمر طبيعي من المنظور التاريخي، وخاصة تاريخ تطور اللغات وتشعباتها، وتاريخ اللغات السامية، بالتالي، عندما يتم الحديث عن أن القرآن متأثر وبه آثار سريانية وآرامية، فليس في الأمر استغراب ولا حالة غير طبيعية، ولا يعني هذا أن مصدر القرآن هو اللغة السريانية أو الآرامية، أو أن نبع القرآن، كفكر وعقيدة، من خارج دائرة مكة والمدينة، وللتنبيه والتنويه بهذا الأمر، فإن علاقة القرآن بالتوراة والإنجيل، وهي في أكثرها علاقة نقدية، لا تخرج لغة القرآن من دائرتها الثقافية – الجغرافية، فهذه اللغة، العربية القرشية، هي المخزون اللغوي الذي رسمت من مرادفاته لغة القرآن، فهذا الإشكال المودود لدى البعض، فمن المعروف أن اللغة الآرامية هي لغة الكتابات التي عثر عليها في شمال سورية الحالية التي ترقى إلى الفترة التي ما بين القرنين العاشر والثامن قبل الميلاد.

إن أقدم المكتشفات تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد واللقى المكتشفى كانت تكتب باللغة الآرامية، بحسب الاكتشافات الأثرية حول ذلك، ومن الطبيعي أن بعض اللهجات تأثرت في مكانٍ ما بحكم القوافل التجارية والاختلاط، فدخلت مفردات من لغات أخرى إلى اللغات الأصلية واندمجت معها، لكن هذا لا يجيز أن يُبنى عليها أن الأقدم وأنها الأصل المتجذر للغات الأخرى، على سبيل المثال، إن أغلب الدول العربية اليوم يسمون زوجاتهم بـ”مرتي” فما أصل هذه الكلمة؟ فهي كلمة اعتاد عليها كثيرون وبخاصة سكان بلاد الشام ومن ثم انتقلت إلى الدول الأخرى بما فيهم دول الخليج، نتيجة للاحتكاك بين الشعوب، فهذه الكلمة هي بالأساس كلمة آرامية وتعني “سيدتي”، وغير موجودة في قواميس اللغة العربية، وهي كلمة من مقطعين “مار” وتعني السيد، و”تي” ضمير الإشارة القريب للمؤنث باللغة الآرامية، فتصبح “مرتي” أي يا سيدتي.

فالبعض اليوم من يدعون أنفسهم أنهم مثقفين وحداثيين، يقرأون بعض الكتب للمستشرقين ويحاولون تمريرها على مسامع العرب، ولا تنطلي على أي عربي هذه الأمور خاصة القارئ والفاهم للقرآن الكريم وعلومه ومقاصده، ومن واجب أي مسلم حق رد الشبهات عن كتاب الحق وعن أية محاولات تشويه من شأنها زعزعة الإيمان، فكما هناك فئات تحاول النيل من الأمة الإسلامية، يقابل ذلك أشخاص يدافعون بكل قوتهم عن هذه الأمة، ومؤخراً سمعت عن بعضهم يقول: إن اللغة الآرامية أقدم من العربية، وهنا لن أقول: إني غير مقتنع، فلو طرح أدلة علمية مقنعة حتماً كل إنسان سيقتنع بهذه النظرية، لكن مع غياب الحجة والدليل، فهذا أمر مغلوط وجب تصحيحه، ويتعلق بالجذور الآرامية للقرآن الكريم، فطرح هذا البعض نتيجة يزعم أنه توصل لها، مفادها، أن اللغة العربية هي لهجة أو فرع من اللغة الآرامية، ليس هذا فقط، بل زعموا أيضاً أنه حتى نفهم القرآن فهماً صحيحاً علينا أن نتعلم الآرامية، وكأن كل أمة “لا إله إلا الله” التي لا تعرف الآرامية لم تفهم القرآن فهماً صحيحاً وهذا التشكيك بحد ذاته مصيبة كبرى، هذا البعض يزعم أيضاً أن أكثر من 85% من مفردات القرآن الكريم هي آرامية.

ومن أسباب سوء الفهم الرئيسة في هذا الطرح، هو بسبب سوء التقسيم، فالتصور بحسب العلماء يتحقق بالتقسيم والتعريف، فإذا كان هذا التقسيم خاطئ، سيبُنى عليه كل شيء خاطئ وبالعكس، المشككون يقولون إن العربية قسم من الآرامية، بينما غالبية علماء اللغة قالوا: إن العربية قسيم للغة الآرامية، وللتوضيح أكثر، إن الكلمة تنقسم إلى اسم وفعل وحرف، بالتالي، الاسم قسم من الكلمة، وكذلك الفعل وكذلك الحرف، لكن الاسم قسيم للفعل وقسيم للحرف وكذلك الفعل، أما علماء اللغة، فيقسمون اللغات إلى أُسر، الأسرة السامية التي تنحدر منها الآرامية والآكادية والعبرية والعربية، فاللغة الآرامية هي قسيمة للغة العربية وكلاهما قسم من الأسرة السامية، بينما المشككون جعلوا من العربية قسم من الآرامية، وهذا خطأ، وفي ذلك مخالفة صريحة لما استقر عليه علماء اللغات، وهنا ليست مشكلة أن يخالف البعض السابقين لكن بشرط تقديم الأدلة والبراهين، فالتشابه الظاهر بين بعض مفردات الآرامية والعربية هذا ليس بدليل وإن كان صحيحاً، فالتشابه هنا أمر طبيعي لأن العربية والآرامية كلاهما من أصل وأسرة واحدة أي السامية، فاللغات السامية التي تنحدر منها اللغات المذكورة آنفاً هي نسبةً إلى سام بن نوح عليهما السلام، وهو الجد الخامس ليعرب بن قحطان، ووفقاً لهذا، فإن العربية هي الأقدم، ووفقاً لهذا التحليل، يمكن القول بأن القرآن الكريم يضم مفردات شبيهة باللغة الآرامية باعتبار الأصل السامي الواحد، لكن لا يمكن القول إن هناك حاجة للآرامية في تفسير القرآن فهنا الطامة الكبرى، فالقرآن عندما نزل بالعربية، كانت هذه اللغة في ذروتها وفي قمتها وما جاءت هذه المفردات إلا بعد أن أصبحت جزءاً من اللسان العربي ومن منظومته في التعبير، فعندما نقول إن القرآن عربي، أي أنه جاء بالخطاب والبيان والأسلوب والتركيب الذي يتماشى مع فهم العرب، وبنفس الوقت لا ينافي ذلك وجود مفردات أصولها غير عربية لكنها عرّبت.

علماء اللغات عندما يحكمون أن هذه اللغة جزء من الأخرى، لا يلاحظون تشابه المفردات وإنما يلاحظون الظواهر النحوية والصرفية، فإن خرج أحدهم للقول: إن المصاحف الأولى كتبت بغير العربية، نقول: إن القرآن الكريم أول ما كان يُتلى مشافهة ووصل إلينا بالتواتر، فكان التعويل على المشافهة والسماع وليس الكتابة، فأساس اللغة أنها نظام صوتي بعكس الكتابة التي هي نظام كتابي وبينما اختلاف كبير، فمن الممكن التحدث بلغة والكتابة بأخرى وهذا كان شائعاً قديماً.

بالتالي، إن موضوع القرآن وتضمنه كلمات آرامية يجب أن ننظر إليه بحذر وروية وبقدر من الشك، لأن هناك من يريد أن يبلغ رسالة بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استقى موضوع القرآن، نصاً وعقيدة وتشريعاً، من قسيس مسيحي في الشام، وهذا الأمر لا يستقيم إذا ما قارنا الكتب السماوية الثلاثة، ففي كل كتاب لغة وثقافة، التوراة تشع منه ثقافة مختلفة عن ثقافة الإنجيل والقرآن، وكذلك الإنجيل نستخلص من نصوصه السردية لحياة المسيح وأعماله ثقافة مختلفة عن ثقافة القرآن والتوراة، وهذا الاختلاف الثقافي يضع مفردات اللغة في درجة ثانوية أمام ثقافة النص، فأصالة النص لا نستدل عليها باللغة وحدها بل الثقافة هي الأساس للاستدلال، وثقافة القرآن هي ثقافة عربية أصيلة من نبع الجزيرة العربية في شطر الحجاز وامتداد المدن والقرى بين مكة والمدينة.

من هنا، إن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة المنسجمة مع اللسان البشري انسجاماً كبيراً، فعندما يقص علينا القرآن الكريم، قصة النبي آدم عليه السلام، عندما الله تبارك وتعالى علمه الأسماء كلها، أي علمه اللغات، وكذلك أسماء الأشياء، ففي هذا الخطاب القرآني نجد بأن اللغة العربية منسجمة مع لغة الملائكة، مع لغة النبي آدم وسائر البشرية، بالتالي، إن مباني ومعاني وقواعد والنطق اللساني في اللغة العربية تفوق أي لغةٍ أخرى، ومن البديهي أن الفرع لا يمكن له أن يكون أكبر وأعظم وأكثر من حيث المباني والمعاني من الأصل، فكل اللغات تفتقر إلى الميزات الكثيرة التي تحظى بها العربية التي أصلها من اليمن، فلو كانت اللغة الآرامية هي الأصل وهي اللغة الأم لتكلم بها الناس إلى اليوم، فالعربية هي الأصل وعمّت سائر اللغات لأن الله سبحانه وتعالى أذن لها بالظهور عندما أراد أن يجعل الرسالة الخاتمة على لسان أهلها، فأظهرها الله ومكنها وبانت محاسنها وانتشرت.

 

 

 

_________________

(*) كاتب ومفكر كويتي.

Exit mobile version