شبهات وردود.. هداية السُّنَّة “مؤقتة” وليست دائمة!

 

تَدْلِيس جديد يُدلِّسه منكرو السُّنَّة في العصر الحديث، هذا التَدْلِيس لم يقل به أحد من منكري السُّنَّة القدامى، يقوم هذا التَدْلِيس على التفريق بين دلالة السُّنَّة، ودلالة الأحاديث النبوية، فالسُّنَّة عند هؤلاء هي حياة النبي صلى الله عليه وسلم التي انتهت بوفاته، وبناء على هذا التعريف “الإبليسي” فقد ماتت السُّنَّة يوم أن مات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبموت السُّنَّة توقف دورها في الهداية والتوجيه!

أما الأحاديث النبوية، التي بين أيدينا فيتخلصون منها، بقولهم: إنها ليست كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي مفتراة عليه، ثم يعودون لبيان السُّنَّة فيقولون إنها فهم “شخصي” خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لِمَا نزل في القرآن الكريم، والعمل بهذا الفهم مقصور على فترة زمنية محددة هي حياة النبي صلى الله عليه وسلم من يوم بعثه الله تعالى رسولاً إلى يوم أن توفاه الله، فدور السُّنَّة كان مرتبطاً بوقت معين، وهذا هو معنى “السُّنَّة مؤقتة” عندهم(1).

وهم من خلال هذه الشبهة يريدون محو كل أثر قولي، أو فعلي، أو تقريري للرسول صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أن فهم النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن ليس ملزماً لغيره ممن جاء بعده من أجيال المسلمين، ولكل جيل أن يفهم القرآن فهماً جديداً خاضعاً للظروف والأحوال، فما كان من السُّنَّة في القرن السابع الميلادي في شبه جزيرة العرب لا يصلح للقرن الحادي والعشرين، ولا لمكان آخر غير شبه الجزيرة، فالزمان والمكان عاملان في إنتاج أفكار جديدة متطورة، أما الاحتكام إلى ما فهمه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من القرآن في زمانهم ومكانهم فهذا “تحنيط للإسلام”!

ويدَّعون أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يدونوا السُّنَّة والحديث لأنهم يعلمون أن السُّنَّة والحديث مرتبطان بزمانهم ومكانهم فقط، ولا يصلحان لزمان آخر ولا لمكان آخر، لذلك تركوا تدوين السُّنَّة حتى لا يتسببوا في إرباك من يأتي بعدهم من المسلمين(2)

بيان بطلان هذه الشبهة وتفنيدها

إننا عندما ننظر في هذه الشبهة نجد أن هؤلاء يركزون على أمرين:

الأول: أن السُّنَّة هي الفهم الشخصي للنبي صلى الله عليه وسلم لِمَا أنزله الله في القرآن الكريم، يعني نوعاً من تفسير القرآن صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم مع حصر السُّنَّة في أنها حركة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أن السُّنَّة –بهذا المعنى– لا بد أن تكون مؤقتة مقصورة على مرحلة تاريخية من مراحل التاريخ الإسلامي، وهي من بدء الرسالة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن خلال هذين الأمرين يريدون الوصول إلى هدف آخر أخطر من إنكارهم للسُّنَّة النبوية، هو أن معاني القرآن الكريم قابلة للتطور الدائم، وأن لكل جيل الحق في فهم القرآن الكريم حسبما يرى وما تمليه عليه الظروف غير مُلْزَم بفهم من سبقه للقرآن حتى لو كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام!

وهذا منهم زيادة تأكيد وتأصيل لقاعدة مدمرة وضعوها وأخضعوا لها القرآن الكريم كله، وهي: “القرآن ثابت الأصل، متغير المحتوي” يعني أسلوب القرآن لا يتغير ولا يتبدل، ولكن معانيه تتغير وتتبدل من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان، بل ومن شخص وآخر، فمكر منكري السُّنَّة هنا، ليس مقصوراً على السُّنَّة بل هو شامل للقرآن كذلك، وهذا كله غثاء في غثاء فلا السُّنَّة مرحلة مخصوصة من مراحل التاريخ الإسلامي، بدأت وانتهت، ولم تعد صالحة للحياة، ولا هي غير الحديث النبوي، فالسُّنَّة حديث، والحديث سُّنَّة، وما يقوله منكرو السُّنَّة في هذا المجال ما هو إلا افتراء ووهم في أذهانهم.

وليس القرآن متغير المحتوى، من النقيض إلى النقيض كما يدَّعي هؤلاء، يقول أحدهم للتدليل على صدق هذا التوجه: إن أقل قدر من العبادات يرضي الله.

ولو اكتفى المسلم بصلاة ركعتين في اليوم بدلاً من سبع عشرة ركعة موزعة على خمس صلوات واجبات جاز له ذلك، وفي لباس المرأة قال: إن ما هو مطلوب منها لكي يرضى الله عنها هو أن تستر “العورتين المغلظتين” ولها أن تظهر بعد ذلك خارج بيتها عارية لا تغطي شيئاً من بقية الجسد، وطالب آخر بأن تعتبر الأمة احتساء الخمور والزنا أفعالاً مباحة لا عقاب ولا لوم فيها شرعاً وقانوناً، اقتداء بالمجتمع الغربي المتحضر الذي لا يحرم مثل هذه الأشياء!

إن المسألة إِذنً مسألة عبث، أو إزالة للإسلام كله، وليست مسألة “تحنيط” للسُّنَّة النبوية، وهي روح القرآن بلا جدال، ومفاتيح كنوزه التي لا تنفد.

إن سُّنَّة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والتقريرية ليس فيها شيء قابل للتحنيط، أو العزل عن حياة المسلمين؛ لأنها مصابيح هدى في قلوب الأمة كالروح في الجسد، وصلاحية السُّنَّة لكل عصر ومصر أمر لا ريبة فيه وهي ظاهرة صالحة للعرض والاختبار الآن، وفي كل لحظة، سواء أُخِذَتُ العينة من العقائد، أو العبادات، أو المعاملات، أو الأخلاق.

أي مثال من السُّنَّة بهذه المجالات إذا نظرت فيه بوعي تجده يمزق حدود الظرفية الزمانية، والمكانية، التي يدَّعي منكرو السُّنَّة تقييدها بها.

أمثلة لصلاح السُّنَّة لكل زمان ومكان

– روى الترمذي بسنده عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا”(3).

تأمل هذه المعاني السامية التي تتجلى في هذا التوجيه النبوي، أنه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى ما يسمى الآن بـ”قوة الشخصية” واستقلالها، وألا تكون الأمة، ولا فرد منها عبداً للتقليد الأعمى، تعيش فاقدة التمييز والإرادة، لا بصر لها بالأمور، تجري وراء كل ناعق، لا تملك أن تقول “لا” ولا تملك أن تقول “نعم” وإنما تُسَلِم قيادتها لغيرها، وعندئذ لن تستطيع الأمة أن تحدد لها مواقف خاصة بها، ولا تعرف متى تقول “لا” ومتى تقول “نعم”، والفرد مثل الأمة في هذا الميدان، إما أن يكون كالريشة، تعبث بها الرياح كيف تشاء، أو يكون كالجبل الأشم، لا تنال منه عوامل الانهزام النفسي.

فهل هذا التوجيه النبوي السديد؟ وهل هذه التربية الراشدة ليست صالحة إلا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم هي صالحة لكل زمان، ولكل مكان، مهما تباعدت عن زمن النبوة وموطنها الأول؟

إن الأمة الإسلامية الآن أصابتها حالة مفزعة من الضياع، حين صارت “إمعة” لا موقف لها ولا رأي، حتى في الأمور التي تريدها لنفسها.

– مثال آخر في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ،  وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا، ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ، أَحَبُّ إليَّ من أن اعتكِفَ في هذا المسجدِ يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا، ومن كظم غيظَه ولو شاء أن يُمضِيَه أمضاه، ملأ اللهُ قلبَه يومَ القيامةِ رِضًا، ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى يَقضِيَها له، ثبَّتَ اللهُ قدمَيه يومَ تزولُ الأقدامُ”(4).

فهذا الحديث من جوامع الكلم، وهو تفجير لطاقات الخير الكامنة في أهل المروءة والفضل من الناس، وحين يتمكن هذا التوجيه من القلوب تصبح الحياة ساحة للتنافس في صنع الخير، ليكون صانع الخير مع الناس أحب عباد الله إلى الله، وفي شيوع الخير في المجتمع محو للشرور والأنانية البغيضة، التي تولد الضغائن بين الناس، حتى يصبح كل إنسان حرباً على الآخر، ويزول كل طعم جميل للحياة، ونسأل منكري السُّنَّة هذا السؤال: هل هذا الحديث أصبح الآن “عملة زائفة” أم هو روح فياضة بالتراحم والتآلف(5)؟

 

 

 

 

 

 

__________________________________

(1) “الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية”، (1/ 123).

(2) الكتاب والقرآن، المؤلف: محمد شحرور، (1/ 541).

(3) سنن الترمذي، تحت رقم (2007).

(4) أخرجه الطبراني في (المعجم الأوسط) (6026)، والمنذري في (الترغيب والترهيب) (3/265).

(5) أصل هذه الشبهات من كتاب: “هذا بيان للناس.. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية”، د. عبدالعظيم المطعني، مكتبة وهبة، طبعة 1420هـ/ 1999م.

Exit mobile version