الأوقاف.. الضرورة الغائبة في تونس

 

الوقف أو الحبس هو من الأمور المهمة التي تطرق لها الإسلام واعتمد عليها وعرفت مكانة كبيرة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم امتدت إلى العصور التي أتت بعده وتوسعت في أصقاع العالم ورافقت الإسلام حيثما حلّ.

وصلت ثقافة الوقف إلى تونس واعتمد بعد الله عليها في مجال التنمية وأوجه الخير ورعاية الأيتام والأرامل والتعليم وتعلم المهن في مختلف الفترات، وازدهر خاصة مع الدولة العثمانية، ليتواصل حتى في عهد الاحتلال الفرنسي، حتى تم إلغاء نظام الأوقاف، منذ ما سمي بالاستقلال من قبل الرئيس السابق الحبيب بورقيبة أثناء مسعاه القضاء على الإسلام بالحياة العامة، قبل أن يمتد ذلك المسعى إلى الحياة الخاصة، وقضية الإجبار على إفطار رمضان مشهورة ومعلومة، وقد استغل بورقيبة بعض الهنات كسوء الإدارة ليجهز على منظومة الأوقاف برمتها، بل المنظومة الإسلامية عامة وخاصة النمط المجتمعي الإسلامي بسمته في القرآن والسُّنة، وليس الانحرافات عن ذلك السمت. 

وكان على من سارعوا إلى إلغاء الأوقاف التريث والاتجاه نحو إعادة النظر في هذه المسألة وتنظيمها والعناية بها وحمايتها من التجاوزات حتى تحقق ما تهدف إليه وتمارس دورها الاقتصادي والاجتماعي والتضامني المهم، ولكن الأمر كان مبيتاً بليل للتخلص من كل ما يمت للإسلام بصلة وإحلال النظام الفرنسي مع بعض الاعتبارات التي أملاها الظرف، فالوقف لو يعطى حظه وتحسن إدارته يمكنه أن يلبي نفقات التعليم والصحة وغيرها من المجالات الأخرى، لا سيما في هذه الظروف التي تمر بها البلاد، كما يمكنه أن يؤدي دوراً كبيراً في معاضدة جهود الدولة من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية وتمويل المشاريع الصغرى من خلال منظومة القرض الحسن في التمويل الإسلامي.

وقد أعربت الكثير من البنوك ولا سيما التي تتعامل وفق مبادئ الشريعة الإسلامية أو ما يطلق عليها بالبنوك الإسلامية عن استعدادها لتقديم قروض بدون فوائد، وبدون قيامها بشراء لوازم الحرفيين بأسعار أكبر، لو كان هناك ضمانات من مؤسسات الوقف وبنوك الوقف الغائبة في تونس منذ أكثر من 70 سنة.

نظام بورقيبة استغل بعض الهنات كسوء الإدارة ليجهز على منظومة الأوقاف برمتها

مشروعية الوقف

في محاضرة نظمتها الجمعية التونسية لعلوم الزكاة تحت عنوان “الأوقاف.. تاريخها وأنواعها”، قدمها الشيخ الحبيب القلال، المدير التنفيذي لفرع الجمعية بصفاقس رئيس الهيئة الشرعية للمحاسبة في الزكاة، وحضرها عدد من الخبراء والأساتذة الجامعيين والطلبة، تم تعريف الوقف ومشروعيته وشروطه، وقد حاول القلال في المحاضرة جمع أهم التعريفات وأدقها.  

وأشار الشيخ القلال إلى أن الوقف جاء به الإسلام والدليل على وروده في الكتاب والسُّنة، كان إجمالاً في الكتاب وتفصيلاً في السُّنة، مؤكداً أنه لم يرد صراحة في القرآن، ولكن يمكن أن نجد له أصلاً عاماً في بعض الآيات، منها مثلاً: (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون: 61)، فكلمة الخيرات هنا لا تعني خيرات معينة، بل شاملة متعددة لا يمكن حصرها، شريطة ألا تكون مخالفة لقواعد الشرع، وهي عامة جداً، ومن هناك تدخل نية الواقف ويسارع للخيرات.

وقال الشيخ القلال: إن أول وقف في الإسلام هو مسجد “قباء” بالمدينة المنورة الذي ركزه الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما وصل إلى المدينة وجعله مركز كل شيء، القضاء والوزراء والتخطيط الحربي وغيرها، ثم إن ثاني مسجد شمله الوقف هو المسجد النبوي الذي بناه بعد أن استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة.

أما الوقف بالمعنى الاصطلاحي فكان بعد غزوة “أُحد”، حيث تم وقف 7 بساتين بالمدينة لرجل يهودي وهو مخيريق أوصى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين عزم على القتال مع المسلمين في غزوة “أحد”، وقال في وصيته: إن أصبت فأموالي لمحمد يدفعها حيث أراد الله، فقتل الرجل وحاز صلى الله عليه وسلم البساتين وتصدق بها؛ أي حبسها؛ وبالتالي هي أول عقار تم وقفه.

أركان الوقف

أشار الشيخ حبيب القلال إلى أن أركان الوقف شرطه أهلية التصرف في المال، حيث لا يمكن أن يكون مصاباً بالخرف أو معتوهاً، وأن يكون من أهل التبرع مكلفاً رشيداً مالكاً لما تبرع به، كما ألا يكون محجوراً.

وشرط الموقوف عليه أن يكون محتاجاً لمنفعة الموقوف، أي أن يكون شخصاً يستحق ذلك بالفعل وينتفع به، ويكون الموقوف عليه إما لأعمال الخير أو للذرية.

وشرط الموقوف أن يكون مملوكاً للواقف، لم يتعلق به حق لغيره، كأن يكون له قضية في المحاكم لم يقع البت فيها أو ألا يكون استعماله في محرم أو مكروه وألا يؤدي إلى ضرر أو تأخير مصلحة.

الصيغة؛ وهي كل ما دل على إعطاء المنفعة ولو لمدة من الزمن لأنه لا يشترط فيه التأبيد، كان يقال: حبست أو وقفت أو صدقة على الفقراء والمساكين لا يباع ولا يرهن.

أنواع الوقف

أشار الشيخ القلال إلى أن أنواع الوقف تختلف باختلاف الاعتبارات:

– الوقف باعتبار فئات المستفيدين؛ وقف للمجاهدين أو للمرضى أو للفقراء أو للقراء.. إلخ.

– الوقف باعتبار أنشطته؛ وقف للمسجد أو لجامعة أو لتجهيز المستشفيات أو للسقاية أو القناطر أو المقابر.. وغير ذلك من أوجه الخير.

– الوقف باعتبار طبيعته؛ وقف لاستعمال عقار للسكنى أو أرض للزراعة.. إلخ.

– الوقف باعتبار مشروعيته؛ أي وقف يكون حلالاً.

ارتفعت الأصوات منذ الثورة على اعتماد نظام الزكاة وعودة الأوقاف مع تطوير ما يجب تطويره

– الوقف باعتبار مدته؛ الوقف المؤبد وهو جائز عند جمهور العلماء ووقف مؤقت عند بعضه؛ فالأول يقال: كيف يمكن أن يكون مؤبداً والمدينة قد تتسع، فمثلاً أوقفنا مستشفى لكن اقتضت الضرورة أن يُنقل، وقتها لا إشكال في نقله إلى مكان آخر، وهنا هو الفرق بين الفهم الجامد والفهم الصحيح، فالتأبيد ليس شكلياً بل مصلحياً.

– الوقف باعتبار اتصاله وانقطاع؛ مثلاً تقول: هذا وقف للفقراء فهو يبدأ بهم وينتهي بهم، ووقف منقطع الابتداء والانتهاء؛ مثلاً يقول أحدهم: اكتب كل ممتلكاتي لذريتي، لكن بعدها لا ينجب ذرية، وقتها يذهب الوقف للدولة، ووقف متصل الابتداء ومنقطع الانتهاء؛ مثلاً يقال: هذا وقف على فلان ما دام حياً، ووقف منقطع الابتداء ومنقطع الانتهاء؛ كالوقف على من يولد له ثم على الفقراء، هو وقف للأولاد وإذا انتهوا يخصص للفقراء.

– الوقف باعتبار غرضه؛ الوقف الذري (الأهلي)، وفيه مشكلات وتعقيدات كبيرة وكثيرة، وهو لا يجوز إلا حين يخاف الرجل من أن تتبدد الثروة، وأن الوارث غير صالح.

الوقف الخيري؛ وهو الواقف على المصالح الخيرية، ويشمل الكثير من الأمور، والفرق بينه وبين الزكاة التي تنحصر في 8 مصالح فقط يكون متعدداً وأشمل.

شروط الوقف

أكد الشيخ القلال أن خلاصة شروط الوقف، هي:

– أن يكون الواقف أهلاً للتبرع مالكاً لما سيقفه.

– أن يكون الوقف مالاً متقوماً، معلوماً، مملوكاً للواقف.

– أن يكون الوقف عيناً معلومة يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها.

– أن يكون الوقف على برّ كالمساجد والقناطر والأقارب والفقراء.

– أن يكون الوقف على معين من جهة أو صنف أو شخص.

– أن يكون الوقف مؤبداً أو مؤقتاً، منجزاً غير معلق إلا إذا علقه بموته فيصحّ ويكون وصية.

وينقسم ما يشترطه الواقف إلى قسمين؛ الشروط الجائزة؛ وهي التي لا تخالف الأحكام الشرعية وليس فيه إضرار بالوقف نفسه أو المستحقين أو المصلحة العامة للبلاد، ثمّ شروط غير جائزة؛ وهي الشروط المخالفة للشرع كنيّة حرمان البنات كما كان في الجاهلية.

وقف المنقول

وأشار الشيخ القلال إلى أن المنقول هو المال الذي يمكن نقله كالأثاث والسيارات ويقابله العقار والأراضي والبناءات، وهذا أبسط تعريف لهذه المسألة، ويرى جمهور العلماء أن الوقف يمكن أن يكون منقولاً، ويرى الحنفية أنه لا يكون منقولاً إلا بقيود؛ هي أن يكون تابعاً لعقار أو جرى به التعامل أو العرف، ثم يجب أن يكون الموقوف من الأموال الثابتة.

وقف النقود

تحدث الشيخ القلال عن أن النقود ليست من الأصول الثابتة، بل هي من الأصول المتداولة، هي من الأموال المثلية التي يمكن اقتراضها ولا تقبل الإعارة أو الإجارة.

وتحدث الشيخ أيضاً عن خطورة وقف النقود بسبب إمكانية تعرضه هذا الوقف إلى المماطلة أو العجز في السداد فيتناقص وربما يتلاشى، مؤكداً أن الراجح عند العلماء أنه يجوز وقف النقود للمصلحة مع الاجتهاد في عدم تعرض الوقف للتلف.

استبدال وقف

وأشار الشيخ القلال إلى أن استبدال الوقف يعني بيع عين الموقوف وشراء آخر يحل محله، وقد يكون من جنسه، وقد لا يكون، واختلف العلماء بين من يمنع استبدال الوقف حتى ولو أصبح خراباً، ومن يسمح بذلك مع التشدد؛ أي لا يجوز إلا إذا تعطلت منافع هذا الوقف.

دور الوقف

في حديثه عن دور الوقف في الحضارة الإسلامية، أكد الشيخ القلال أن لهذه المنظومة حضوراً مكثفاً وكبيراً، وأنها أدت دوراً كبيراً، وخصصت لها دواوين ووزارات، وكان لها وزنها الكبير في الدورة الاقتصادية والاجتماعية.

ففي الدولة الأموية، اهتم الأمويون بتنظيم الجهاز الإداري للدولة الممتدة؛ فأحدثوا الدواوين والإدارات، وعيَّنوا الموظفين، وفي ظل هذا التطور حدث تطور كبير في إدارة الأوقاف، فبعد أن كان الواقفون يقومون بأنفسهم على الأوقاف ويشرفون على رعايتها وإدارتها، قامت الدولة الأموية بإنشاء هيئات خاصة للإشراف عليها، وأحدثت ديواناً مستقلاً لتسجيلها.

أما في الدولة العباسية، فقد انتشرت الأوقاف المختلفة في كل أنحاء البلاد الإسلامية، وأصبحت إدارة خاصة مستقلة عن القضاء يقوم عليها رئيس يسمى “صدر الوقوف”.

وقد بلغ أشده مع الدولة العثمانية، حيث إن هذا العهد انتشرت فيه الأوقاف الدينية والخيرية في كل البلاد الإسلامية، وتطورت إدارتها، واهتم الفقهاء اهتماماً خاصاً في مختلف مؤلفاتهم وفتاواهم الكثيرة بهذه المسألة، أوقفوا للخيول التي جاهدوا بها وكبرت، بل وصلوا إلى وقف لاستبدال الأواني التي تكسر من قبل الخدم، وأيضاً لعب الأطفال والخانات، وأيضاً الإنفاق على الطلبة، وكذلك المستشفيات.. وغيرها.

وقد كانت في القرن الـ16 الميلادي أكثر من 20% من الأراضي تدخل ضمن نظام الأوقاف لدى الدولة العثمانية.

ثم عرض الشيخ القلال بعض الإحصاءات في القرن الـ18 الميلادي، بينت أن رجال الدولة أوقفوا 42%، والعلماء 16%، وأصحاب الطرق الصوفية 9%، والحرفيون 2%، وأصحاب المهن المختلفة 11%، والنساء 18%.

وختم بالتأكيد على أن الأوقاف لم تترك في البلاد الإسلامية ميداناً من الميادين الاجتماعية ولا أرضاً من الأراضي ألا ودخلتها وقدمت الخدمات إلى أهلها.

أخيراً، تعيش تونس اليوم أزمة غير مسبوقة، لو حافظت على الأوقاف التي صادرها نظام بورقيبة بدون وجه حق وهي غير قابلة للتصرف في غير الوجه الذي أوقفت من أجله لساعدت كثيراً في تخفيف وطأة الأزمة، وقد ارتفعت الأصوات منذ الثورة على اعتماد نظام الزكاة، وعودة الأوقاف مع تطوير ما يجب تطويره، وتكوين كفاءات للإشراف عليها وحسن إدارتها ومراقبتها، فتعاضد الدولة وتساعدها على النهوض وهي قادرة على ذلك بعون الله، ولكن ذلك لم يتم، فالبلاد لا تزال حبيسة الأجندات السياسية والأيديولوجيات والقراءة الضيقة للإسلام، ومع ذلك فالأمل لن يموت في أن تعيش تونس إسلامها؛ كل إسلامها، (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً) (الإسراء: 51).

Exit mobile version