بوساطة تركية.. اتفاق الحبوب الأوكرانية يجنب العالم احتمالات المجاعة

 

شهور طويلة مرت، وما زالت الحرب الروسية – الأوكرانية الحدث الأهم على أجندة السياسة الدولية، رغم أن أخبارها الميدانية في حالات مد وجزر مستمرة ومتعاقبة.

وبعيداً عن المعارك والنتائج العسكرية المباشرة، ما زال يُنظر للحرب من الزاوية الإستراتيجية كانعطافة مهمة في العالم وما يتعلق تحديداً بالنظام العالمي، إذ إنها -أي الحرب- دليل إضافي على انتهاء عصر الأحادية القطبية والسير قدماً نحو التعددية القطبية، ومن دلائل ذلك ليس فقط شن روسيا الحرب غير عابئة بالتهديدات الأمريكية والغربية، وإنما كذلك استمرارها حتى اللحظة دون إشارات على قرب وقفها أو تضرر روسيا منها.

على العكس تماماً، يبدو أن الدول الأوروبية هي المتضرر الأكبر من الحرب على الصعيد الاقتصادي على أقل تقدير؛ حيث ارتفعت أسعار الطاقة بشكل غير مسبوق، وقنَّنت موسكو صادراتها من الغاز للدول الأوروبية التي تعتمد عليها بشكل كبير في مجال الطاقة، فضلاً عن أن العقوبات التي فرضتها الدول الأوروبية وحلف «الناتو» على روسيا تؤثر بالاتجاهين، وربما أضرت بالدول الأوروبية أكثر من روسيا نفسها، ولهذا، ولأسباب أخرى عديدة، تراجعت قيمة اليورو إلى ما هو أدنى من الدولار في حدث ذي دلالة واضحة.

وكان من النتائج الاقتصادية المباشرة للحرب تعثر تصدير أوكرانيا لمنتجاتها الغذائية وخصوصاً القمح وعدد من الحبوب الأخرى، وهو ما تسبب بارتفاع كبير في أسعارها عالمياً ويهدد –في حال استمرار الحرب ووقف التصدير– بمجاعة عالمية، كما جاء في تحذير الأمم المتحدة على لسان أمينها العام «أنطونيو غوتيريش»، ولا سيما أن روسيا كذلك اتهمت الدول الغربية بالمساهمة في عرقلة تصدير منتجاتها الغذائية.

الدول الأوروبية المتضرر الأكبر من الحرب اقتصادياً لارتفاع أسعار الطاقة وتأثير العقوبات عكسياً

تُعدُّ أوكرانيا رابع أكبر دولة مصدرة للقمح على مستوى العالم، ولذلك فهي تسمى بـ«سلة الخبز» في أوروبا، كما أنها تنتج زهاء 42% من الإنتاج العالمي من زيت بذور دوار الشمس، و16% من الإنتاج العالمي من الذرة، و9% من الإنتاج العالمي من القمح. 

في المقابل، فإن روسيا هي أكبر مصدر للقمح في العالم، وتبلغ حصة الدولتين معاً زهاء ربع صادرات القمح العالمية (وفق أرقام عام 2019م)، وتوفران ما يقرب من 40% من احتياجات القارة الأفريقية من القمح، على سبيل المثال.

وقدرت كمية القمح الأوكراني المكدس والجاهز للتصدير قبل الاتفاق بزهاء 20 مليون طن، وكانت التوقعات تشير إلى وصوله ما يقرب من 75 مليون طن بعد موسم الحصاد للعام الحالي.

تركيا استفادت من موقعها الذي جعلها الخيار الأفضل لتصدير الحبوب الأوكرانية عبر ممر بحري آمن

لكل ما سبق، كان ثمة حاجة دولية لتأمين تصدير الحبوب، ولا سيما الأوكرانية، لتفادي مخاطر حدوث مجاعة أو أزمة غذاء عالمية، وكذلك لضبط الأسعار العالمية، ورغم تشجع الدولتين (روسيا وأوكرانيا) للأمر، فإن لكل منهما هواجسها الخاصة؛ فقد كانت أوكرانيا تخشى من انكشاف أماكن الألغام البحرية التي وضعتها أمام موانئها في البحر الأسود وهو ما يمكن أن تستغله روسيا للاستيلاء عليها، في المقابل، فإن موسكو كانت على حذر من تلقي كييف مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) إذا سمحت بحرية الملاحة والتصدير.

الوسيط التركي

هنا، في ظل هذا الخلاف المحتدم بين دولتين متحاربتين، كان ثمة حاجة لطرف وسيط يستطيع الحديث مع الجانبين ويحظى بثقة كليهما، وهنا جاء دور تركيا.

استثمرت أنقرة علاقاتها الجيدة مع كل من موسكو وكييف، وموقف الحياد الإيجابي الذي تبنته في الحرب الروسية الأوكرانية، وعدم مشاركتها في العقوبات الغربية على روسيا، والعلاقات الشخصية التي تربط الرئيس «أردوغان» بنظيريه الروسي والأوكراني وتحديداً «بوتين»، لممارسة دور الوسيط برعاية الأمم المتحدة.

أوكرانيا تخشى من انكشاف أماكن الألغام البحرية التي وضعتها أمام موانئها بالبحر الأسود

وقد استفادت تركيا هنا من موقعها الجغرافي الذي جعلها الخيار الأفضل لتصدير الحبوب الأوكرانية عبر ممر بحري آمن (مقابل خيارات غير عملية تضمنت التصدير عبر الأنهار)، وكذلك مسار التفاوض السياسي الذي رعته بين الجانبين وتوّجته بلقاء وزيرَيْ خارجيتهما على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي في بداية الصيف.

وبعد أشهر من التفاوض ودور الوساطة التركي، وقع الجانبان، في 22 يوليو الماضي، اتفاقين منفصلين ومتلازمين بوساطة تركية ورعاية أممية في قصر دولمة بهجة التاريخي في إسطنبول.

قضى الاتفاق الأول، الذي وقعته أوكرانيا مع تركيا والأمم المتحدة، بتصدير الحبوب الأوكرانية انطلاقاً من 3 موانئ على البحر الأسود، وعبر ممر مائي آمن نحو مدينة إسطنبول حيث سيتأسس مركز تنسيق رباعي مشترك بين روسيا وأوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة. 

بينما يقضي الاتفاق الثاني، الذي وقعته روسيا مع تركيا والأمم المتحدة، بتصدير أسمدتها ومنتجاتها الزراعية.

دلّت موافقة الدولتين، والرعاية الأممية، والوساطة التركية، ومساهمة الولايات المتحدة والدول الأوروبية في تخفيف بعض العقوبات على روسيا مساهمةً في الاتفاق؛ دلت على أن الاتفاق كان في مصلحة الجميع ولم يكن فيه خاسر، وإن كان الإنجاز الأكبر سجل لأنقرة بطبيعة الحال حيث أثبتت قدراتها الدبلوماسية، وساهمت في توقيع اتفاق وصفه «غوتيريش» بالتاريخي بين دولتين متحاربتين وخلال استمرار الأعمال القتالية.

ورغم تشاؤم بعض الأطراف بإمكانية تطبيق الاتفاق، ولا سيما في ظل عدم جلوس الطرفين الروسي والأوكراني على طاولة واحدة، وقصف روسيا لميناء أوديسا الذي كان يفترض أن يكون الميناء الرئيس للتصدير بعد ساعات فقط من توقيع الاتفاق وقبل أن يجف حبره، فإن الاتفاق مضى في مسار الخطوات العملية.

سريعاً، أنشأت تركيا مركز التنسيق الرباعي الذي أوكلت له مهمات التنسيق والرقابة وتفتيش السفن، وانطلقت السفينة الأوكرانية الأولى محملة بالذرة نحو لبنان في الأول من أغسطس الماضي، قبل أن يتعدل مسارها نحو ميناء طرطوس في سورية.

وحتى 20 أغسطس الماضي، وصل عدد السفن التي غادرت الموانئ الأوكرانية بموجب الاتفاق إلى 27، وحملت حتى ذلك الوقت ما مقداره 656 ألفاً و349 طناً من الحبوب، وفق تصريحات وزير الدفاع التركي «خلوصي أكار»، وقد استمر عمل مركز التنسيق الرباعي المشترك في إسطنبول بالرقابة والتفتيش على السفن السائرة في الاتجاهين، من أوكرانيا وإليها، دون عقبات ملحوظة.

وبمجرد توقيع الاتفاق سرت إشارات إيجابية في الأسواق العالمية وتراجعت أسعار الحبوب المختلفة، وقد استمر مسار انخفاض الأسعار مع بدء تطبيق الاتفاق وإبحار السفن نحو مختلف الدول، والأهم من كل ما سبق أن الاتفاق أثبت القدرات التركية في إمكانية التوسط بين الجانبين المتحاربين، رغم فجوة الثقة الكبيرة بينهما، وهو ما زاد من رصيد أنقرة لدى كلا الطرفين وعزز من ثقتهما بها.

ولذلك، تعول تركيا على إمكانية إحياء وساطتها السياسية وصولاً لجمع الرئيسين «بوتين»، و«زيلينسكي» على طاولة حوار واحدة، بما يمكن أن يساهم أولاً في التوصل لوقف لإطلاق النار، ثم لاحقاً لاتفاق سلام شامل بين البلدين.

يبدو ذلك وفق المعطيات الحالية صعباً وضئيل الفرصة، لكن مرور الشتاء في ظل ظروف الحرب والعقوبات وتخفيض الغاز الروسي المتدفق نحو أوروبا يمكن أن يساهم في تعزيز رغبة مختلف الأطراف في إنهاء الحرب والتوصل لاتفاق ما، وحينها، مرة أخرى، سيكون لتركيا دور بارز لتمارسه بين الجانبين.

الإنجاز الدبلوماسي التركي، الذي خفض كثيراً من احتمال حدوث مجاعة عالمية أو أزمة كبيرة على صعيد عدد كبير من الدول الفقيرة، يبدو أنه رفع المعنويات شيئاً ما وشجع الرئيس التركي على القول: إنه بالإمكان التوصل لاتفاق سلام بين البلدين بنفس الآلية والنموذج، أي تفاوض بين الدولتين المتحاربتين بوساطة تركية ورعاية أممية، وهذا ما يبدو أن أنقرة ستسعى له، فهل تنجح مجدداً؟

 

 

 

 

 

______________________________

* محلل سياسي مختص بالشأن التركي.

Exit mobile version