زيارة ماكرون للجزائر أنهت الجفاء دون اعتذار

 

“سياسية وأمنية بامتياز”، هذا توصيف يمكن إطلاقه على زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر، التي شهدت أول اجتماع أمني في تاريخهما على مستوى رئيسي البلدين وقائدي الجيشين، وتوقيع اتفاق شراكة متجددة، في خطوة من شأنها طي صفحة التوتر الحاد بينهما.

عاد ماكرون إلى بلاده دون أن ينطق بكلمة اعتذار عن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ولم يوقع اتفاقات لزيادة إمدادات الغاز الجزائري، ولم يعلن عن استثمارات بمليارات الدولارات، ولم يعِد حتى بزيادة عدد التأشيرات التي قلصها إلى النصف، ناهيك عن نفيه القيام بوساطة بين الجزائر وكل من إسبانيا والمغرب.

وبعد 3 أيام من الزيارة، تبيّن أن ماكرون لم يأت إلى الجزائر سوى لطي الخلاف مع قيادتها السياسية والعسكرية، ويريدها أن تكون حليفته الجديدة في منطقة الساحل بعد هزيمته أمام روسيا في مالي، وأن تقف في وجه الإمبريالية والتوسع الاستعماري الروسي في أوكرانيا، كما قادت في الستينيات والسبعينيات خاصة حركات التحرر ضد الاستعمار الغربي في أفريقيا والعالم.

لا اعتذار عن جرائم الاستعمار

انتظر كثير من الجزائريين إعلان ماكرون اعتذاراً صريحاً عن جرائم الاستعمار الفرنسي التي ارتكبت طيلة 132 سنة (1962 – 1830)، خاصة وأنه السياسي الفرنسي الوحيد الذي وصف الاستعمار بأنه جريمة ضد الإنسانية أو على الأقل التعبير عن ندمه وليس أسفه عن تشكيكه في وجود أمة جزائرية قبل عام 1830.

لكن ماكرون، الفائز قبل أشهر بولاية رئاسية ثانية وأخيرة، لا يبدو أنه تحرر من قيود اليمين المتطرف، وبدل التوبة والاعتذار فضل رمي الكرة في ملعب المؤرخين، من خلال تشكيل لجنة فرنسية جزائرية مشتركة لدراسة الأرشيف في الفترة الاستعمارية والثورة التحريرية (1962 – 1954).

وكتابة التاريخ المشترك مسألة سبق وأن ناقشها منتدى نظمته مجلة “ماريان” الفرنسية بالشراكة مع صحيفة “الخبر” الجزائرية، بمدينة مرسيليا الفرنسية في عام 2012، التي حاول اليمين المتطرف منعها بكل السبل، ما كشف حجم الخلافات الواسعة لقراءة وكتابة التاريخ المشترك بين الطرفين.

وسبق لماكرون أن كلف المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، المولود في الجزائر، بإعداد تقرير حول ملف الذاكرة، ولكن التقرير الذي أعد في يناير لم يتضمن أي توصية بتقديم اعتذار للجزائر، رغم العديد من النقاط الإيجابية.

واللجنة المشتركة للمؤرخين ليس لها أي دور تنفيذي، وإنما فقط الدراسة والنظر في الحقبة الاستعمارية للجزائر، والأهم من ذلك فتح باريس الأرشيف للباحثين بعدما كان مطلباً جزائرياً طيلة عقود.

كما أن التوقيع على إعلان الجزائر يتضمن اجتماع زعيمي البلدين كل عامين في إطار مجلس أعلى للتعاون، بشكل يسمح بإجراء حوار دائم حول جميع الملفات، “بما في ذلك المواضيع التي منعتنا من المضي قدماً”، وفق ماكرون، في إشارة إلى ملف الذاكرة، الذي يقف عثرة أمام تطور العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية بين البلدين.

فماكرون جاء إلى الجزائر دون أن يمتلك الشجاعة لإعلان الاعتذار، وما زال مكبلاً بتحالفاته مع تيار اليمين سواء داخل حزبه ممثلاً في نحو 60 نائباً أو خارجه، خاصة وأن الانتخابات البرلمانية لم تمنح حزبه الأغلبية المريحة لتشكيل الحكومة.

ناهيك عن أن الاعتذار ليس مجرد كلمة، بل تترتب عليه عدة إجراءات، بما فيه التخلي عن قانون تمجيد الاستعمار، الذي تم تبنيه في عام 2005، وإزالة أسماء وتماثيل شخصيات أدت دوراً إجرامياً خلال الحقبة الاستعمارية للجزائر، وإدانة لدور “الحركي”، وهم الجزائريون الذين وقفوا إلى جانب فرنسا ضد استقلال بلدهم، بالإضافة إلى تعويض عائلات ضحايا الاستعمار، على غرار ما فعلت إيطاليا مع ليبيا وألمانيا مع اليهود.

تأليب الجزائر على حلفائها

يمثل البعد الأمني ثاني أهم سبب لزيارة ماكرون للجزائر، فمكانة فرنسا بأفريقيا تترنح بعدما تحدتها إحدى أفقر الدول الأفريقية (مالي) وطردتها من أرضها، فيما تندلع المظاهرات والاحتجاجات في أكثر من بلد أفريقي للخروج من عباءة مستعمرتهم السابقة.

والجزائر أحد النماذج الحية لتهالك النفوذ الفرنسي في أفريقيا، إذ خسرت ريادتها كأول مصدر للجزائر لصالح الصين، وأول زبون لصالح إيطاليا، وأول مستثمر لصالح تركيا، بينما تحتكر روسيا ثلثي صادرات السلاح إلى الجزائر.

لم يبق لفرنسا من نفوذ بالجزائر سوى بقايا لغة تتراجع أمام جيل عرّبته المدرسة الجزائرية، ولغة إنجليزية سيبدأ تدريسها بداية من الدخول المدرسي المقبل، وتأشيرات لعائلات مقسمة بين ضفتين، وأحلام شباب لمستقبل أفضل.

فماكرون، الذي أعلن قبل وصوله للجزائر انتهاء عهد الرفاهية في بلاده، لا يريد الاعتراف أن سياسة بلاده الاستعمارية في أفريقيا واستنزاف خيرات بلدانها وإفقارها ولّد في نفوس شعوبها العداء لفرنسا.

ويحاول ماكرون تحميل هذا العداء الشعبي لسياسات فرنسا بالجزائر وأفريقيا قديماً وحديثاً إلى ما أسماه شبكات تركية وروسية وصينية تحاول تشويه صورة فرنسا.

يرفض الرئيس الفرنسي في استعلاء وكِبر الاعتراف بجرائم استعمار بلاده في إفقار وتخلف هذه البلدان، التي لجأت إلى تركيا وروسيا والصين؛ للتخلص من النفوذ الفرنسي المستحكم على دواليب الحكم والاقتصاد في هذه الدول، ومحاولة الوصاية عليها والمساس بسيادتها وحقها في تنويع شركائها.

ماكرون يلجأ اليوم إلى الجزائر لمحاولة إقناعها بمحاربة الاستعمار الروسي لأوكرانيا مثلما كانت في طليعة البلدان التي قاومت الاستعمار الغربي في أفريقيا وغيرها من دول العالم.

بالمقابل، يعلن دعمه لاتفاقية الجزائر لإنهاء الحرب الأهلية في مالي بين الحكومة المركزية ومكوني الطوارق والأزواد، ويؤكد أن انسحاب القوات الفرنسية من مالي لا يعني الانسحاب من الساحل، أي أن باريس ما زالت جزءاً من الأمن والسلم في المنطقة.

والاجتماع الأمني، الذي ترأسه ماكرون والرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، وضم قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، الذي لم يكن مبرمجاً، يعكس توافقاً وتنسيقاً محتملاً حول عدة ملفات على غرار مكافحة الإرهاب وعصابات تهريب المخدرات والأسلحة والبشر، خاصة في منطقة الساحل.

وسبق هذا الاجتماع لقاءات ثنائية بين قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، حيث تطالب السلطات الجزائرية نظيرتها الفرنسية بتسليمها ضباطاً فارين وأعضاء في تنظيمات تعتبرها إرهابية على غرار، تنظيم “الماك” الانفصالي، ومنظمة “رشاد”.

تعثر مباحثات الغاز

على الرغم من تهافت عدة دول أوروبية على الجزائر لتأمين احتياجاتها من الغاز قبل فصل الشتاء بسبب أزمة الطاقة، واحتمال قطع الإمدادات الروسية، فإن ماكرون أوضح أنه لم يأت إلى الجزائر من أجل الغاز، ولا لمنافسة إيطاليا التي وقعت اتفاقية مع الجزائر لإمدادها بكميات إضافية من الغاز.

ففرنسا تعتمد بشكل أساسي على الطاقة النووية في إنتاج الكهرباء، بينما لا يمثل الغاز سوى 20% من مصادر الطاقة، منها 8 – 9% تستوردها فرنسا من الجزائر.

أشار ماكرون إلى أن مخزونات بلاده في حدود 90%، لكن ما لم يقله هو أن شركة “إنجي” الفرنسية تتفاوض مع الجزائر لزيادة حصتها من الغاز بـ50%، وفق قناة “بي آف آم” الفرنسية.

وعدم توقيع اتفاق بين سوناطراك وإنجي على زيادة صادرات الغاز الجزائرية إلى فرنسا، خلال تواجد ماكرون بالجزائر، أرجعه خبراء إلى مشكلة السعر وطبيعة العقود.

فسوناطراك تريد عقوداً طويلة الأمد، بالنظر إلى الاستثمارات الكبيرة التي يتطلبها استخراج الغاز وتسويقه، مع مراعاة ارتفاع أسعاره في السوق الدولية، بينما تفضل إنجي عقوداً قصيرة الأجل بأسعار تفاضلية.

وسبق لإنجي أن وقعت اتفاقاً مع سوناطراك، في يوليو الماضي، لتوريد الغاز الطبيعي إلى فرنسا عبر أنبوب ميدغاز العابر لإسبانيا، بعد مراجعة الأسعار، وتعزيز حصة المجمع الجزائري ضمن الواردات الخاصة الشركة الفرنسية.

وليس ذلك فقط، بل إن شركة توتال الفرنسية وقعت عقداً ضخماً بقيمة 4 مليارات دولار مع سوناطراك وإيني الإيطالية وأوكسيدنتال الأمريكية لـتقاسم إنتاج النفط والغاز في حقل بمنطقة بركين، جنوب شرقي الجزائر.

والرئيس الفرنسي نفسه تحدث عن الاتفاق مع الجزائر بشأن تعزيز التعاون في مجالات الطاقة، والاقتصاد والابتكار.

ورغم أن ماكرون لم يرغب في الظهور بمظهر المتهافت على الغاز الجزائري أو منافسة إيطاليا عليه، فإن ملف الطاقة كان حاضراً في هذه الزيارة بأشكال متعددة على غرار استقبال وزير الطاقة الجزائري محمد عرقاب الرئيسة التنفيذية لمجمع أنجي كاثرين ماكغريغور، حيث تباحث الطرفان الآفاق المستقبلية للاستثمار في مجال الطاقة بالبلاد.

التأشيرة وإعادة المهاجرين

من الملفات التي كان من المتوقع أن يتم طيها بسهولة ملف زيادة التأشيرات للجزائريين، خاصة وأن باريس قلصت منح التأشيرات إلى النصف، خلال الأزمة التي نشبت بين البلدين نهاية العام الماضي.

فباريس تربط منح التأشيرات بمدى استعداد الجزائر لقبول مهاجريها غير النظاميين الذين صدرت بحقهم قرارات بالطرد.

لكن لم يصدر ما يبين تجاوز الخلاف بشأن التأشيرات والهجرة غير النظامية، واكتفى الطرفان بالاتفاق على الانخراط في التفكير لبناء الحلول، في إشارة ضمنية إلى عدم التوصل إلى اتفاق.

إذ قال مستشار الرئيس الفرنسي للشؤون الداخلية فريدريك روسي، على هامش الزيارة: إن الجزائر أصدرت 300 ترخيص قنصلي يسمح بترحيل مهاجرين ومقيمين بطريقة غير قانونية في فرنسا منذ مارس 2022، مقابل 17 فقط عام 2021، و91 ترخيصاً عام 2020.

ولم يلتزم ماكرون صراحة بإعادة الوضع لما كان عليه قبل عام 2021، بل وعد بتسهيل منح التأشيرات لـعائلات مزدوجي الجنسية، والفنانين، والرياضيين، ورجال الأعمال، والسياسيين، الذين يغذون العلاقات الثنائية.

كما أعلن قبول 8 آلاف طالب جزائري إضافي هذا العام في فرنسا، سينضمون إلى حصة سنوية تبلغ 30 ألف شاب.

زيارة ماكرون، حققت أهم أهدافها بإنهاء حالة الجفاء مع الجزائر، ووضعت آلية للحوار والتشاور وحل الخلافات في إطار من الاحترام المتبادل، وفتحت مجالاً للشراكة المستقبلية في المسائل الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية، لكنها بالتأكيد لم تحقق أهم وأغلب ما كان ينتظره منها الجزائريون خاصة ما تعلق بملف الذاكرة.

Exit mobile version