الحق سلطانه أقوى من كل سلطان والباطل لا يصمد أمام الحقيقة
قوانين العمران هي الأصل في وزن الأحوال والتواريخ
التاريخ علم يجب ألا يفوت أحد وهو دراسة فلسفية للأمم
ابن خلدون عمل على النظر في باطن الأحداث لا ظاهرها
نواصل القراءة في التمهيد الذي كتبه ابن خلدون لمقدمته، وبعد أن انتهى من الصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والترضي على صحابته، قال: «أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال»، والسوقة في لغتنا المعاصرة تطلق على الشخص الغوغائي العامي، ولكن في المعنى القديم هم عامة الشعب الذي لم يتعلم ويتثقف، وأما الأغفال فهم الذين لا تجربة لهم وإن ظهر لك أنه موظف محترم أو حتى وزير محترم لكن لا تجربة له، فهذا يسمونه غفل، وهو يريد أن يقول: إن هذا العلم لا يفوت أحد، فكل منا له مقصد في علم التاريخ، وهذا دليل على أهميته.
قال: «وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال»، والأقيال يعني الملك على الإطلاق، أو ملك من ملوك حمير في اليمن، وقال: «إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمق لها الأقوال وتصرف فيها الأمثال وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال»، وهنا نتوقف عند «في ظاهره» لأنها مفتاح كتابه كله وتاريخه كله، فهو يريد أن يقول: إن هناك أناساً كأمثالنا يريدون ظاهره من الحكايات والتسلية والطرائف والحكم.
قال: «وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول النطاق فيها والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق».
والحكمة عندهم هي الفلسفة وتعني التاريخ، وليس كلاماً يتلى فيتسلى الناس به، إنما هي صلب الدراسة الفلسفية للأمم والمجتمعات والدول والحضارات والقبائل والشعوب.
قال: «وجدير بأن يعد في علومها خليق، وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وَهِمُوا فيها أو ابتدعوها، وزخرف من الروايات المضعَّفة لفقوها ووضعوها»، وهموا فيها يعني من الوهم وهو عكس التيقن، أو ابتدعوها فهذا يعني الكذب والاختراع لإيجاد بدعة جديدة، ووضعها في كتب التاريخ، والروايات ذات السند الضعيف لفقوها، بوضع السند على الرواية والرواية على السند وكلاهما لا علاقة له بالآخر بغية وضعها، والوضع هو الكذب الصريح.
قال: «واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها وأدوها إلينا كما سمعوها ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل، والوهم نسيب للأخبار وخليل»، والطرف هو العين، قالوا: «ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال»، والمعنى أن من طرف التنقيح هو أن قدرتهم على التدقيق كليلة جداً وضعيفة جداً، والنسيب من المصاهرة، فيريد أن يقول: إن الغلط والوهم مع الأخبار كما لو كانوا عائلة.
قال: «والتقليد عريق في الآدميين وسليل»، وتقول للشخص: لماذا تعمل كذا ولماذا؟ يقول لك: والدي كان يصنع ذلك! إنه «التقليد» يقول تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ (الزخرف: 23)، وهذا التقليد لا يجوز.
قال: «والحق لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه»، وهذه جملة مفتاح، حيث يقول: الحق سلطانه أقوى من كل سلطان ولا يستطيع أحد أن يقاوم سلطان الحق والحقيقة، أما الباطل فيقذف بشهاب النظر شيطانه، والنظر يعني الفكر والتدبر، والتأمل.
الناقد البصير
قال: «والناقل إنما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل، والعلم يجلو لها صفحات الصواب ويصقل»، وتمقل من المقلة يعني تنظر نظراً دقيقاً، فإذا نظر صاحب البصيرة في الكلام بيَّن الله له الباطل من الحق، وبيَّن له فعل الشيطان وصنعه.
قال: «هذا؛ وقد دوَّن الناس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ الأمم والدول في العالم وسطروه، والذين ذهبوا بفضل الشهرة والإمامة المعتبرة، واستفرغوا دواوين مَنْ قبلهم في صحفهم المتأخرة قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل ولا حركات العوامل»، والعوامل جمع عامل في النحو الذي يرفع ويخفض ويجزم ويجر، وحروف العوامل في اللغة العربية التي لها أثر نحوي، أكثر في العدد من عدد المحققين من المؤرخين.
قال: «مثل ابن إسحق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي، وغيرهم من المشاهير المتميزين عن الجماهير»، ثم استدرك فقال: «وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز، ما هو معروف عند الأثبات، ومشهور بين الحفظة الثقات، إلا أن الكافة اختصوهم بقبول أخبارهم واقتفاء سَنَنَهم في التصنيف واتباع آثارهم، والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم، فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار وتحمل عليها الروايات والآثار».
وهنا، بداية الرسالة كلها والتاريخ كله من كلمة «العمران»، فهنا أوضح طريقه وطريقته في إثبات ما يريد في كتابه وتاريخه من أحوال العمران، ويريد أن ينبه الجميع إلى أنه لا يجب القبول بكل الأحوال قبولاً عشوائياً، وأنه يجب وزنها بقوانين العمران، حيث إن قوانين الاجتماع الإنسانية فيها ما يؤكد هذا أو ما يبطل هذا، وعلى هذا الأساس يكون الاختيار.
ثم قال: «ثم إن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج والمسالك لعموم الدولتين في صدر الإسلام في الآفاق والممالك وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك»، وفي كتابه إذا قال الدولتين وصدر الإسلام فإنه بذلك يقصد دولة الخلافة الراشدة ثم الدولتين الأموية والعباسية، أما إذا قال الدولتين فقط فهو يقصد الأموية والعباسية فقط، وعندما يقول صدر الإسلام فإنه يقصد الخلافة الراشدة أو الستة الراشدين، بضم الحسن بن علي وعمر بن عبدالعزيز، رضوان اللهم عليهما.
قال: «ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملة من الدول والأمم والأمر العمم، كالمسعودي ومن نحا منحاه»، والطبري فعل هذا فبدأ التاريخ ما قبل خلق الكون، وخلق الله الكون والإنسان، قبل الدخول في التاريخ الحقيقي، وكذلك مروج الذهب للمسعودي، الذي يرجع بنا للتاريخ الذي لا أصل له وكذلك التواريخ الأخرى، فابن خلدون يريد أن يقول: إن كل من بدأ التاريخ بمثل هذه الأشياء فقد أتى بكلام مرسل لا أصل له.
قال: وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التقييد، ووقف في العموم والإحاطة عن الشأو البعيد، فقيد شوارد عصره واستوعب أخبار أفقه وقطره، واقتصر على أحاديث دولته ومصره، كما فعل ابن حيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها، وابن الرقيق مؤرخ أفريقية والدولة التي كانت بالقيروان، ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد»، والبليد هو الشخص الذي لا يفهم أو متبلد نتيجة ما مر عليه من الأشياء والمحن حتى بلدت عقله وبات لا يستوعب.
قال: «وبليد الطبع والعقل أو متبلد، ينسج على ذلك المنوال ويحتذي منه بالمثال ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال، واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال»، والعادات تتغير، والأحوال تتغير، بل استعمال اللفظ العربي الواحد يتغير، الدنيا تتغير ليل نهار؛ ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾ (النور: 44)، وهذا التغيير ينبغي أن يكون أول ما يلفت نظر المؤرخ، وهذا ما اعتنى به ابن خلدون، ليرصد ما حصل وما تغير من الأحوال وهو ما لا يلتفت إليه بليد العقل كما قال.
قال: «واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال، فيجلبون الأخبار عن الدول وحكايات الوقائع في العصور الأول، صوراً قد تجردت من موادها»، يعني صور تجردت من نتائجها وما جرت بسببها وما جرى عليها، ففلان حكم وكان عادلاً، وفلان حكم وكان ظالماً، لماذا كان عادلاً؟ ولماذا كان ظالما؟ وأليس هناك واقع في المجتمع أو البيئة التي أحاطت به أو في المستشارين والخلصاء والوزراء جعله ذاك ظالماً وجعل ذلك عدلاً، لا بد أن يكون هناك شيء، وهذا ما عمل عليه ابن خلدون.
أعدها للنشر: حسن القباني