وثائق استخباراتية بريطانية رفعت عنها السرية: هكذا سعينا لمنع “الإخوان” من حكم مصر

 

في يوليو 2022م، أفرجت حكومة لندن عن وثائق استخباراتية بريطانية رُفعت عنها السرية تعود لفترة النكبة واحتلال الصهاينة لدولة فلسطين في أربعينيات القرن الماضي.

الوثائق الحكومية البريطانية كشفت حقائق مذهلة عن دور جماعة الإخوان المسلمين وضباط ثورة 1952م و”النكبة”، وأظهرت أكاذيب عديدة قيلت في حق المقاومين المصريين من جماعة الإخوان وبطولات الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم.

أظهرت دور بريطانيا في منع الإخوان من المشاركة في حكم مصر عقب النكبة وعقب ثورة 1952م خشية تضرر المصالح الغربية، وهو ما فعله الغرب مع ثورات “الربيع العربي” بالتآمر مع قوى الدولة العميقة لهدمها بعد وصول الإسلاميين للحكم بصندوق الانتخابات.

كشفت الوثائق الحكومية، التي نشر بعضها موقع “هيئة الإذاعة الرسمية” (بي بي سي)، في 3 أغسطس الجاري، ونشرت مواقع أجنبية تفاصيل عنها أن استخبارات المملكة المتحدة حذرت قبل 70 عاماً من مغبة أن يمكن الجيش المصري (الضباط الأحرار) جماعة الإخوان المسلمين من الوصول إلى حكم مصر بعدما أظهروا بطولات في حرب فلسطين.

التآمر على الإخوان

أظهرت الوثائق البريطانية أن استخباراتها حذرت حينئذ من عواقب تمكين الجيش المصري جماعة الإخوان من الحكم بعد ثورة 23 يوليو، وأرجعت ذلك إلى أن الإخوان كانوا يتمتعون بشعبية طاغية بين الجيش والشعب في تلك الحقبة، وكانوا الأقدر على الفوز بأي انتخابات، حسب الوثيقة البريطانية.

وذكرت الوثيقة أن جماعة الإخوان المسلمين كانت قوية منذ نشأتها عام 1928م على يد مؤسسها حسن البنا، وساهمت في إثراء وتغيير الحياة السياسية والاجتماعية آنذاك، عندما كانت مصر ترزح تحت الاحتلال البريطاني.

وأن بريطانيا خشيت عقب تحرك ضباط الجيش في 23 يوليو 1952م، ليس منهم ولكن من الإخوان بعدما علمت أنهم كانوا ضلعاً رئيساً في حركة الضباط، وعدتهم القوى العالمية وعلى رأسها بريطانيا خطراً داهماً على الاستعمار وأفكار الرأسمالية.

بحسب الوثيقة البريطانية، كان تقدير الاستخبارات البريطانية بعد حركة الضباط الأحرار التي أطاحت بالملك فاروق يقوم على أنه إذا “لم يستطع نجيب الاحتفاظ بالسيطرة على الضباط الشبان وضبطهم، فإن هناك خطراً جدياً في أن فصيل الإخوان أو الوفد سوف يكون له اليد العليا”.

ورجحت الاستخبارات، عبر ممثل البحرية البريطانية في مكتب “إس آي إم إي”، أن تكون “يد الإخوان هي العليا” في مصر، وسيتحكمون في الحكومة والجيش، ووصفتهم بـ”البعبع”، قائلة: “أضعفنا شبح “البعبع” الشيوعي، والشعور الآن هو أن الأهم أنه لا يجب أن نسمح لـ”بعبع” الإخوان المسلمين بأن يكون له تأثير كبير في عام 1952م”.

أكدت أن الاستخبارات البريطانية سعت للقضاء على مراكز قوة المجتمع المصري، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين وحزب الوفد (ليبرالي)، لأن الحكومة البريطانية خشيت أن يمسك الإخوان المسلمون بزمام السلطة، بسبب شعبيتهم الجارفة.

وجاء في إحدى وثائق الاستخبارات البريطانية أنه “إذا قرر الإخوان المسلمون دخول المعترك السياسي (بعد ثورة 1952م) فإنهم سيكتسحون الجميع في الانتخابات القادمة، ولن يكون لحزب الوفد فرصة في المشهد”.

وأرجعت ذلك لمجموعة أسباب، أهمها: أن 6 من 10 ضباط من كبار قادة حركة الجيش هم أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، كما أن “20% من الجيش أعضاء في الإخوان المسلمين مقارنة بـ4% فقط أعضاء في حزب الوفد”.

وقالت: “لو وصل الإخوان للسلطة فإنهم يملكون سلاحاً نفيساً لا يقدر بثمن يتمثل في كتائبهم التي لم يتم ـ كما هو معروف ـ حلها أبداً”، وأكمل: “لا تزال تملك كميات كبيرة من الأسلحة، لم تستخدم بشكل كامل في منطقة القناة”.

وذكروا في وثائقهم أن بريطانيا قامت بترتيب محكم مع أطراف من الضباط الأحرار على رأسهم جمال عبدالناصر لمنع الجماعة من الحكم والمشاركة في الحكومة، وهو ما ينفي ما زعمه إعلاميون مصريون وعرب عن أن الإخوان “صناعة بريطانية”.

وبحسب الوثائق، عرض “مجلس قيادة الثورة” برئاسة اللواء محمد نجيب رئاسة الحكومة على المستشار حسن الهضيبي، المرشد العام للإخوان المسلمين في ذلك الوقت، وأن الهضيبي نجح في إحياء الجماعة لتصبح ذات شعبية ونفوذ سياسي كبيرين في الشارع المصري، حسب تقدير المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط.

وكان هذا سبب قلق الاستخبارات مما قد يأتي، فحذرت من أن “قدرة الضباط العشرة الشبان على إتيان تصرفات متطرفة لتحقيق أهدافهم أمر ممكن بالتأكيد”، وتم تعيين علي ماهر، وقالت الاستخبارات البريطانية: إنه “إذا لم ينجح علي ماهر في تحقيق تماسك في الوضع السياسي خلال فترة معقولة، فإن الجيش سيدفع بالإخوان والهضيبي إلى السلطة”.

وأظهرت الوثائق قلق بريطانيا من “مفهوم الإخوان الإسلامي للدولة”، الذي قالت: إنه “نموذج الدولة المثالي الإخواني القائم على مبادئ القرآن”، زاعمة أن هذا “لم يكن يناسب المرحلة الحالية من تطور العالم” حينئذ.

وقد ظل هذا التصور، الذي تحدث عنه التقرير، حتى أوائل القرن الحالي، مصاحباً للاستخبارات الخارجية البريطانية (إم آي 6)، وعبر رئيس سابق للجهاز عنه زاعماً اعتقاده بأن “الإسلام لا يواكب العصر”!

وكان اللواء جمال حماد (أحد ضباط 23 يوليو) قال في كتابه “أسرار ثورة 23 يوليو” عن دور الإخوان، قائلاً: “الإخوان المسلمون الحركة الوحيدة التي كانت على علم مسبق ومباشر بقيام الثورة”، وإن “عبدالناصر حرص على إجراء عدة اتصالات مع قادة الجماعة، وأنبأهم بموعد الحركة، وطلب منهم مؤازرة الجماعة ومساعدتهم”.

وذكر الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه “ابن القرية والكتاب” عن مرحلة ثورة 23 يوليو، ودور جماعة الإخوان المسلمين فيها: “طلب منا نحن الإخوان أن نحرس المنشآت الأجنبية من احتمال تحرك أي أيد مخربة تحاول أن تصطاد في الماء العكر، والوضع حساس لا يحتمل وقوع أي حادث يكدر صفو الأمن، ويظهر وجود معارضة للانقلاب”.

وكشف أنه “صدرت التعليمات لأفراد النظام الخاص بالمرابطة على طريق القاهرة السويس، والقاهرة الإسماعيلية في الزي المدني، وبالأسلحة التي يحتاجون إليها بجانب الجيش المصري، لإعاقة حركة الجيش البريطاني إذا فكر في التدخل العسكري على طريقة الثورة العرابية”.

كما ذكر المفكر الإسلامي أحمد رائف في كتابه “البوابة السوداء” أن عبدالناصر لم يقم بالثورة إلا بعد الاتفاق مع مرشد جماعة الإخوان المسلمين المستشار حسن الهضيبي.

وكتب القيادي في مجلس قيادة الثورة، اللواء عبداللطيف البغدادي، في مذكراته: “لتوفير التأييد الشعبي لإنجاح الحركة، كان على الضباط الأحرار أن يتصلوا بالإخوان المسلمين؛ لأن حركة الضباط خرجت من عباءة الجماعة، والجماعة تعلم بوجود التنظيم ودقائقه وأسراره، وكثير من ضباطه من أعضاء الإخوان المسلمين”.

وبعد حوالي عامين وثلاثة أشهر من كتابة تقرير الاستخبارات البريطانية في الشرق الأوسط، تمكن عبدالناصر من التخلص من نجيب وأنصاره في الجيش لينفرد بالسلطة.

وبعدها شن النظام أول أكبر حملة قمع استهدفت جماعة الإخوان المسلمين، التي عادت إلى الحياة السياسية مرة أخرى بعد تولي أنور السادات الرئاسة، في أكتوبر عام 1970م، بعد وفاة عبدالناصر.

وعقب ثورة 2011م، وإجراء أول انتخابات رئاسية حرة ديمقراطية في تاريخ مصر منذ عام 1952م، وفوز د. محمد مرسي، رئيس حزب الحرية والعدالة، الجناح السياسي للإخوان المسلمين بالرئاسة، كرر اللواء عبدالفتاح السيسي، قائد الجيش المصري، نفس السيناريو وأطاح بمرسي والإخوان.

بطولات الشعب الفلسطيني

وأظهرت الوثائق أن جميع المعارك التي خاضها الفلسطينيون أثناء “النكبة” انتصروا فيها، ولكن ذخيرتهم كانت تنفد من بين أيديهم ولم تدعمهم الدول العربية، بينما تدخل الجيش البريطاني لينقذ “إسرائيليين” محاصرين، فانقلب الوضع في عدة مناطق لصالح الصهاينة.

وبينت أن الأماكن التي سيطر عليها الفلسطينيون، والأسلحة التي استولوا عليها من مخلفات الجيش البريطاني تمت مصادرتها من قبل ما يسمى “جيش الإنقاذ العربي” الذي كان ينسحب من المناطق ليأخذها “الإسرائيليون” بكل بساطة.

وفي ديسمبر 1947م، تم البدء في تجنيد الشباب العربي في سورية لتشكيل جيش عربي جماهيري تحت اسم جيش الإنقاذ، وتسابق للتطوع فيه المصري والعراقي والأردني والفلسطيني والسوري واللبناني والسعودي، من المسيحيين والمسلمين، وتطوع أيضاً العرب الشركس والأكراد والأتراك والأرمن.

وشكلت لجنة عسكرية من الجامعة العربية للإشراف على هذا الجيش، وعينت الضابط اللبناني فوزي القاوقجي قائداً له، حيث اقتنعت الدول العربية بأن هذا الجيش قادر على منازلة اليهود في فلسطين بدون إدارة وتنظيم وتخطيط، بحماس وانفعال فقط، فمُني بخسائر وفشل.

وأظهرت الوثائق أن النكبة لم تحدث يوم 15/ 5/ 1948م، بل بدأت مع منتصف عام 1947م، وانتهت بتوقيع معاهدة رودس عام 1949م، وأن الصهاينة بدؤوا بجمع المعلومات والتخطيط لاحتلال فلسطين، منذ أواسط العشرينيات، وفي نهاية عام 1933م، كان لديهم سجلات لكل فرد وشجرة وحانوت وسيارة وبندقية وغنمة وحمار يملكه الفلسطيني.

كان من اللافت نفي الوثائق ما قيل عن أن فلسطين كانت تعيش في فوضى حضارية، حيث أكدت أن الحضارة التي كانت تعيشها المدن الفلسطينية قبل “النكبة” مذهلة، فقد كان هناك 28 مجلة أدبية، ودور سينما، ومكتبات عامة، ومسارح، وصحف، وإذاعة، وموانئ، ومباني بمعمار مذهل، فكيف يقال: إنها “أرض بلا شعب”.

وكان أول عمل قامت به دولة الاحتلال بعد الاستيلاء على فلسطين عام 1948م هو مصادرة المكتبات الشخصية التي كانت في البيوت المهجورة.

وتبين الوثائق أن القرى الفلسطينية التي فاقت 500 قرية، لم يهجّرها الصهاينة فقط، بل دمروها بالمعنى الحرفي للكلمة، لم يتركوا أثراً فيها إلا ما نسوه مصادفة، وكانوا يقصدون بذلك أن يمر الوقت ويتم نسيان تلك القرى من التاريخ.

وأن بريطانيا لم تعط “وعد بلفور” فقط، بل تسامحت مع صهاينة قتلوا جنودها أيضاً، وسمحت بقدوم اليهود من أوروبا إلى فلسطين، واعتقلت كل فلسطيني لديه سكين، في حين أن الصهاينة امتلكوا مصانع أسلحة تحت الأرض بعلم بريطانيا.

Exit mobile version