الاقتصاد الياباني وانهيار الين .. لماذا يخشى من رفع أسعار الفائدة؟

يبدو أن اليابان استنفدت جميع الطرق الممكنة والحيل المالية والاقتصادية لإنعاش الاقتصاد الياباني وإعادته إلى عصره الذهبي قبل أكثر من عقدين من الزمان. فالبنك المركزي هناك يغرد خارج السرب هذا العام بإصراره على إبقاء معدلات الفائدة قصيرة المدى تحت الصفر، في تحد صارخ لما قامت به الاقتصادات الكبرى حول العالم، إلا أن هذا التوجه أحدث شرخا كبيرا في العملة الوطنية، حيث تدهور سعر صرف الين الياباني إلى مستويات لم تشهدها اليابان منذ 25 عاما.
في هذا التقرير نلقي نظرة على الاقتصاد الياباني ومقوماته، وننظر إلى واقع السياسة النقدية هناك، وكيف تستطيع اليابان الحفاظ على أسعار متدنية على الرغم من الظروف القاسية، التي مرت بها الاقتصادات العالمية طيلة الأعوام الماضية، ولا سيما هذا العام، حيث تشهد دول كبرى معدلات تضخم عالية وتخوفات حقيقية من ركود اقتصادي في كل من أوروبا وأمريكا.

أسعار الفائدة اليابانية تتحدى العالم
يحافظ البنك المركزي الياباني منذ عدة أعوام على معدلات فائدة تحت الصفر، وتحديدا بدأ ذلك في 2016 حين تم تثبيت سعر الفائدة عند سالب 0.1، وذلك بعد أكثر من خمسة أعوام متتالية كانت فيها أسعار الفائدة صفرا. على خلاف ذلك رفعت الولايات المتحدة أسعار الفائدة خمسة أضعاف ما كانت عليه بين عامي 2016 و2019، وهذا العام بدأت ترفع بشكل كبير ومتسارع، بواقع 0.75 نقطة أساس في كل مرة، ويبدو أنها ستستمر في ذلك لعدة مرات قادمة. أما في الجانب الأوروبي فهناك بعض الدول ممن أخذت بالنهج الياباني في خفض معدلات الفائدة لما تحت الصفر لعدة أعوام، ولكنها بدأت برفع معدلات الفائدة هذا العام تجاوبا مع المتغيرات الدولية.
البنوك المركزية تستطيع خفض معدلات الفائدة لما دون الصفر، وذلك بضخ السيولة في القطاع البنكي، ويتم ذلك من خلال شراء السندات وإيداع قيمها لدى البنوك التجارية، فتتوفر لدى البنوك السيولة اللازمة للقيام بعمليات الإقراض للأفراد والمؤسسات.

اليابان تستنزف آلياتها للدفاع عن أسعار الفائدة
اليابان صاحبة ثالث أكبر اقتصاد عالمي بنسبة تزيد على 5.2 في المائة من الناتج العالمي، لا ترغب في رفع أسعار الفائدة لما لذلك من تأثيرات سلبية في اقتصادها المريض، الذي لا يحتمل أي تغيرات على مستوى الفائدة، بل إن الاقتصاد هناك يعاني نموا ضعيفا على الرغم من مستويات الفائدة المتدنية، فلك أن تتخيل ما الذي سيحدث لو أن أسعار الفائدة أخذت في الارتفاع.
وحتى مع تراجع الين 20 في المائة مقابل الدولار منذ بداية 2022 وهو الآن عند نحو 135 ينا للدولار، لا يوجد لدى بنك اليابان أي طريقة عملية لوقف هذا النزيف، عدا رفع أسعار الفائدة، وهذا يبدو أنه خارج حسابات البنك المركزي. أسباب التراجع في سعر الصرف يعود للفارق الكبير بين أسعار الفائدة في اليابان وأمريكا، وهو الفارق، الذي يتزايد مع كل عملية رفع لأسعار الفائدة تقوم بها الولايات المتحدة، الذي يحصل نتيجة الفارق الشاسع بين أسعار الفائدة في البلدين هو أن الأموال تهجر الين وتتجه نحو الدولار بحثا عن عوائد أفضل، وبالتالي تنخفض قيمة الين وترتفع قيمة الدولار.
تتمتع اليابان بسعر صرف حر، فلا يوجد هناك ما يذكر من حالات تلاعب في سعر الصرف، كما يحدث في الصين، لذا فإن سعر صرف الين الياباني يتشكل بحسب قوى العرض والطلب الطبيعية، التي تتأثر بدورها بعدة معايير منها ميزان المدفوعات. في الجدول المرفق نجد وضع ميزان المدفوعات في اليابان، والمعروف أن اليابان لديها فائض دائم في الحسابين الجاري المسؤول عن الصادرات والواردات والتحويلات النقدية وما إلى ذلك، والحساب المالي المسؤول عن الاستثمار الأجنبي في الأصول المحلية والاستثمار المحلي في الأصول الأجنبية. هذا الفائض للميزان ككل بلغ خلال الخمسة أشهر الأولى من العام الحالي نحو ستة تريليونات ين، مقارنة بـ 15 تريليون ين عن الفترة نفسها من 2021، بمعدل تراجع 61 في المائة. الاحتياطي النقدي الياباني أيضا تحمل جزءا من الخسائر، بفقدانه 5.4 في المائة خلال النصف الأول من العام الجاري بإجمالي 75 مليار دولار، وفي الوقت نفسه ارتفعت الديون الخارجية في اليابان بالمعدل ذاته خلال الربع الأول من 2022.
إذن اليابان تدافع عن اقتصادها وعملتها بما تمتلك من أدوات، سواء بشراء السندات اليابانية للحفاظ على مستويات متدنية لأسعار الفائدة، وهي السياسة التي كانت تمارس بحق السندات قصيرة الأجل، ولكنها بدأت كذلك بالقيام بذلك لسندات عشرة أعوام وأكثر. الهدف من شراء السندات أنها تحاول أن تجعل منحنى عائد الاستحقاق لديها يتحرك بشكل طبيعي، وهو الشكل الذي يأخذ فيه المنحنى الشكل التصاعدي العادي، أي عندما تكون معدلات الفائدة على المديات الطويلة أعلى من معدلات الفائدة على المديات القصيرة.

شبح الركود الاقتصادي أبرز الأسباب للإبقاء على أسعار فائدة متدنية
بالنظر إلى حقبة الستينيات إلى التسعينيات من القرن الماضي، شهد الاقتصاد الياباني معدلات نمو كبيرة تخطت أحيانا 12 في المائة في العام، وحينها لم يشهد الناتج المحلي معدلات نمو بأقل من 2 في المائة خلال هذه الفترة إلا مرة واحدة فقط كانت 1974، وقد كان متوسط النمو في تلك الحقبة نحو 6 في المائة خلال 30 عاما. بينما نجد عكس ذلك في الـ 11 عاما الماضية، حيث دخلت اليابان في معدلات نمو بطيئة لم تلامس أكبرها 2 في المائة إلا مرة واحدة في 2013، وبين تراجع وثبات كان المتوسط فقط 0.48 في المائة خلال هذه الفترة.

لماذا التراجع المخيف للاقتصاد الياباني؟
أحد أبرز الأسباب لتراجع الاقتصاد الياباني كان الارتفاع الخرافي للأصول خلال فترة التسعينيات، ما أدى إلى فقاعة اقتصادية مدوية، فقبل ذلك في منتصف الثمانينيات ارتفعت أسعار الأصول من عقارات وأراض وأسهم بشكل مبالغ فيه. على سبيل المثال ما بين عامي 1986 و1989 ارتفع مؤشر نيكاي 225 من 13 ألف نقطة إلى 39 ألف نقطة من ثم واصل الهبوط حتى عاد إلى 14 ألف نقطة في أغسطس 1992، ما يعني تراجعا 63 في المائة من أعلى مستوى له. وعلى صعيد آخر، شهدت أسعار الأراضي ارتفاعا ملحوظا متواصلا بلغ نحو أربعة أضعاف خلال خمسة أعوام فقط بداية من 1985، وفقا لمعهد الدراسات النقدية والاقتصادية التابع لبنك اليابان، وبنهاية العقد انهارت أسعار الأراضي 70 في المائة.

التوقيت السيئ لبنك اليابان يطيح بالاقتصاد
في خضم العوامل السابقة وخوفا من حدوث تضخم أكبر وأشد في الأسعار، خاصة مع الخسائر الكبيرة التي عانتها البنوك اليابانية، انتهج بنك اليابان سياسة نقدية عدائية من خلال رفع معدلات الفائدة إلى 6 في المائة، إضافة إلى فرض قيود قروض متشددة، ما أدى إلى أزمة ائتمانية بدورها أدت إلى خفض الإنفاق وتراجع الإنتاجية بسبب تراجع الاستثمارات نتيجة صعوبة الحصول على التمويل.
خلال هذه السلسلة من الأحداث لم يعالج بنك اليابان الموقف بشكل سريع، وهو ما ظهر في الانخفاض البطيء لأسعار الفائدة، لكن دون جدوى، نظرا لأن توقعات المستثمرين والمستهلكين أثناء فترات الركود تميل إلى انخفاض أكبر في الأسعار، ما دفعهم لعدم اتخاذ أي إجراء إنفاقي، وبالتالي زادت معاناة الاقتصاد.

زيادة المعروض النقدي لتحفيز الإنفاق والاستثمار
أول ما تنظر إليه البنوك المركزية للتصدي لحالات الركود الاقتصادي هو زيادة المعروض النقدي ويتم ذلك من خلال طباعة نقود جديدة عن طريق شراء الأصول، مع العلم أن ذلك يؤدي إلى تضخم عال في الأسعار إن لم يقابل ذلك نمو حقيقي في الاقتصاد. هذه الطريقة تؤدي إلى زيادة السيولة نتيجة شراء البنك المركزي للسندات الحكومية، ما يؤدي إلى خفض معدلات الفائدة، وبالتالي تحفيز المستهلكين والمستثمرين إلى زيادة الإنفاق والاستثمار، بهدف زيادة الإنتاج وانخفاض معدلات البطالة وإنعاش الاقتصاد.
هذا المفهوم لزيادة المعروض لا ينجح دوما، ومثال ذلك أن اليابان في أبريل من 2013 قررت استهداف تضخم بمعدل 2 في المائة للتغلب على الانكماش الاقتصادي لديها، ولكن مع انخفاض أسعار النفط العالمية في ذاك الوقت فشلت الاستراتيجية اليابانية في تحقيق هدفها، ما دفعها للاتجاه إلى سياسة سعر الفائدة السلبي لكبح معدلات انخفاض الإنفاق. وتختلف اليابان عن كثير من الدول نتيجة لمشكلة انخفاض الطلب، لا انخفاض العرض، فلدى المستهلك الياباني نمط استهلاكي أقل من الطبيعي، وهو ما تؤكده معدلات إنفاق المستهلكين في اليابان التي تصاعدت خلال عقد الثمانينيات 44 في المائة، ثم بنمو 22 في المائة خلال التسعينيات، و6.6 في المائة خلال العقد المنتهي بـ2019. لذا فعندما تنخفض أسعار النفط، لا يحدث هناك تغير كبير في النمط الاستهلاكي للفرد الياباني.

الآثار الإيجابية لسياسة الفائدة المتدنية على اليابان
أسعار الفائدة المنخفضة في اليابان أدت إلى نتائج إيجابية في تباطؤ حالات الإفلاس في الدولة، التي لم تتخط 800 شركة منذ منتصف 2015، في حين أنها تخطت كثيرا هذا المستوى قبل هذا التاريخ بما يتجاوز الضعف، والسبب في ذلك أن معدلات الفائدة المرتفعة تثقل كاهل الشركات وتؤدي بها في نهاية المطاف إلى الإفلاس، إضافة إلى أن ذلك يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة وبالتالي زيادة حالات الإفلاس. وارتفعت معدلات البطالة لدى اليابان في عقد التسعينيات من 2.1 إلى 5.4 في المائة، في حين أنها لم تتخط 2.8 في المائة منذ 2010.
أثرت السياسة النقدية كذلك في معدلات الادخار المحلية، فمع انتهاج بنك اليابان للفائدة الصفرية ثم السلبية، لم تتجاوز معدلات الادخار منذ 2009 نسبة 26 في المائة من الناتج المحلي، في حين كانت تصل إلى بين 30 إلى 42 في المائة في الفترة من السبعينيات إلى بداية القرن الجديد. وكذلك انتعشت تدفقات الاستثمار الأجنبي بشكل تدريجي أيضا من مستويات لم تتجاوز 0.1 في المائة من إجمالي الناتج المحلي قبل 1999 إلى 1.2 في المائة خلال 2020.
ربما أهم فائدة تجنيها اليابان من أسعار الفائدة المنخفضة هي أن ذلك يوفر على الحكومة اليابانية الكثير من المال لخدمة الديون التي تصدرها بكثرة، وبالتالي أي محاولة لرفع مستويات الفائدة ستدفع فاتورتها الحكومة اليابانية قبل غيرها، وهذه مبالغ كبيرة جدا للفوائد التي ستضطر الحكومة إلى دفعها، ما سيفاقم من عجز الميزانية السنوية.

تراجع الين وارتفاع الديون واستنزاف الاحتياطيات النقدية
لا يخلو أي قرار من بعض الآثار السلبية، وذلك ما شهدناه أخيرا في تراجع سعر العملة اليابانية مقابل نظيراتها الأجنبية، ولا سيما الدولار الأمريكي، الذي تراجع الين أمامه بأكثر من 16 في المائة منذ قرر الفيدرالي الأمريكي تحريك أسعار الفائدة للأعلى. انخفاض سعر صرف الين يؤثر بشكل سلبي في فاتورة الواردات، خاصة أن الاقتصاد الياباني يعتمد على المواد الخام ومنتجات الطاقة المستوردة، ما قد يؤثر لاحقا في النمو الاقتصادي، إضافة إلى كون ذلك يستنزف الاحتياطيات النقدية ويرفع معدلات الديون ويحول ميزان المدفوعات من فائض إلى عجز. وهذا بالتالي يؤدي إلى خسارة جميع الآليات التي لا يزال بنك اليابان يتكئ عليها للسيطرة على عملته ولتجنب الوقوع في شبح الركود الاقتصادي، ولا سيما أن هناك ركودا عالميا يشكل عبئا إضافيا إلى ما تعانيه اليابان بشكل خاص مع الركود الاقتصادي المحلي. ولا ننسى كذلك أن الاقتصاد الياباني قبل إجراءات البنوك المركزية الأخيرة المتعلقة بأسعار الفوائد قد حقق تراجعا اقتصاديا 0.1 في المائة خلال الربع الأول من العام الجاري، ما يجعله أكثر تحفظا تجاه تكرار مأساة التسعينيات.

الخاتمة
تناولنا في هذا التقرير أسباب استهداف بنك اليابان أسعار فائدة متدنية، وكيفية تأثير ذلك في أسعار صرف الين الياباني ومستويات النقد الأجنبي من أجل تفادي انكماش الاقتصاد في اليابان. اليابان في موقف حرج جدا، فهي ترى انهيار الين الياباني يتصاعد من يوم لآخر، وفي الوقت نفسه تعلم اليابان أن مستويات التضخم سترتفع لا محالة، على الأقل بسبب التضخم المستورد ونتيجة لتراجع قوة الين. وهذا بالفعل ما نجده في مستويات التضخم للربع الثاني من 2022، حيث بلغ التضخم 2.5 في المائة، الأمر الذي لا يتوافق مع مستويات فائدة دون الصفر!

Exit mobile version