قد أكون الشهيدة التالية في غزة

 

وأنا أكتب هذه الكلمات لا أعلم إن كنت سأستطيع استكمال حروفها وبعض مشاهدها، فصوت صواريخ الاحتلال “الإسرائيلي” قريبة جداً على مسامعي، قد أكون الشهيدة التالية التي سيُذاع اسمها ويرتفع بها أعداد شهداء غزة.

فهذا الشعور بحد ذاته يجعل لديك التفكير في الحياة بطريقة مختلفة، فالعيش بقطاع غزة المحاصر مختلف عن أي مكان في العالم، فمهما كتبت عنه الأقلام ونقلت مشاهده فالواقع مختلف جداً.

ما أصعب الحرب فيها بعد سنوات ما زالت مستمرة من خناقها بالحصار وحروب متتالية جعلت من هذه الحرب الخامسة منذ عام 2008-2009م أي العام الذي استشهد فيه أخي فادي، رحمه الله تعالى.

قد تكون تسير في ساعات يومك بشكل اعتيادي وسرعان ما يأتي القصف إلى أماكن مختلفة في قطاع غزة، من الصعب تحديد موقعها إلا بعد أن تنال من أجساد الأطفال والنساء والرجال بدون أدنى رحمة، فالجميع فيها مستهدف وهو بالنسبة للاحتلال “الإسرائيلي” الحاقد بنك أهداف.

حالة من الفزع أصابت غزة على صوت الأمهات الثكلى اللاتي فجعن بأسماء أبنائهن بالارتقاء في شهداء هذه الحرب الغادرة على غزة.

هذه الصواريخ الغادرة الحاقدة لم ترحم جسد الطفلة آلاء ذات السنوات الخمس التي كانت تحلم بطفولتها شراء حقيبة جديدة ودفاتر ذات رسومات جميلة وأقلام ملونة، خاصة أنه سيكون عامها الأولى في الروضة، إلا أن الاحتلال قتل أحبال أفكارها البريئة وفجع والديها بارتقاء جسدها الطاهر الصغير.

والمشهد لم يكن بعيداً عن حالة الرعب التي أصابت الأفئدة الصغيرة لأطفال غزة وهم في حالة ذعر لا يعلمون أين ترتحل أقدامهم بحثاً عن الأمان فكل شيء في غزة مستهدف.

وحينما ترى صورة حقيبة مدرسية لا تظن أنها صاحبتها تستعد للذهاب للمدرسة أو حتى المشاركة بمخيم صيفي، إنما تضع فيها بعض ألعابها الغالية على قلبها وبعض الأشياء التي تجدها ثمينة بالنسبة لها حتى إذا قصف منزلها تحملها مسرعة على ظهرها الصغير المثقل بوجع الحصار والحروب.

حينما كنت أتنقل من أجل الوصول للبيت حينما بدأت الحرب لم أكن أعلم هل سوف أصل للبيت أم لا؟

وما أصعب أن ترى جثمان سيدة كفنها ملطخ بالدماء جعلتها صواريخ الاحتلال ترتديه بدلاً من فستان “أم العريس” ذي اللون الأبيض المذهب بالخيوط الذهبية، فقد كانت في طريقها لتحضر عروس ابنها بدون إجراء أي مراسيم للاحتفال بسبب الحرب التي لم تسرق فرحتها فحسب؛ بل مزقت قلب نجلها العريس وهو يرى جثمان والدته مكفناً بالأبيض.

في هذه اللحظات التي أكتب بها هذه الكلمات يشتد القصف بما يذعر القلب، لكن سرعان ما يؤنسه تكبيرات المؤذن “الله أكبر.. الله أكبر”.

وحتى المؤذن لم يسلم من هذا الحقد الأسود، فكان المؤذن عماد ضمن بنك الأهداف التي نالت من جسده صواريخ الاحتلال “الإسرائيلي” الغادرة وهو في طريقه للمسجد للأذان لصلاة العصر، أمس السبت.

كنت أحاول أن أسرع في طباعة الكلمات قبل أن تحاول صواريخ الاحتلال أن تغتال أجسادنا، ولتكن هذه الكلمات شاهدة على بشاعة الحرب من جيش غاصب مدجج بالأسلحة المتطورة بطائراته الحربية وصواريخه المحرمة دولياً.

ورغم بشاعة الحرب التي تزيد من ساعات قطع الكهرباء لأكثر من 12 ساعة باليوم، فإن قناديل الإيمان بالله تعالى ونصره المبين في أفئدة غزة تجعلها مضيئة بتلاوة القرآن والدعاء والذكر، فغزة رغم مساحتها الضيقة فإن فيها أكثر من 100 ألف حافظة وحافظ للقرآن الكريم.

فالحرب ضد غزة ليست حرب أرض وطين؛ بل هي عقيدة ودين.

وغزة رغم وجعها النازف وحصارها الخانق، فإن أهلها يضمدون وجعهم بالدعاء والحب والتكافل بمساعدة بعضهم بعضاً حتى وإن جعل ذلك أحدهم يقتسم رغيف خبز أطفاله مع أطفال جيرانه، والجميل أن المواطن عوض جعل من سيارته عاملاً مساعداً لهذا التكافل الجميل بتوصيل من يريد التنقل بالمجان، وكان قد كتب رقم هاتفه النقال حتى يستطيع أن يتواصل معه من يريد التنقل أو يكون بحاجة إلى إحضار دواء أو طعام.

في غزة رغم كل الظروف الصعبة لكن ستشعر بأنك تعيش في أسرة كبيرة، فكل من فيها هم أهلك تفرح لفرحهم وتبكي لوجعهم.

فكل شهيد في غزة ليس رقماً، بل حكاية إنسان كان يرسم في أفكاره العديد من الطموحات الجميلة، فمنهم من كان يستعد لحفل زفافه، ومنهم من كان ينتظر مولوده الأول، ومنهم من كان يستعد للتسجيل في الجامعة بعد تفوقه الباهر في الثانوية العامة، والكثير من الحكايات التي يحملها اسم كل شهيد.

وفي هذا الوقت كانت صواريخ الاحتلال متواصلة في قصف غزة، وكان الإمام بعد صلاته للعشاء، أمس السبت، يردد في الدعاء: “اللهم يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم لقد أرانا الاحتلال قوته علينا فأرنا قوتك عليه فلا حول لنا ولا قوة إلا بك، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام الاحتلال ودمرهم تدميراً، اللهم رد كيدهم عليهم ومزقهم تمزيقاً، اللهم نصرك المبين، اللهم إنا نستودعك غزة ومقاومتها ورجالها ونساءها وأطفالها وبيوتها وشجرها وحجرها”، والمصلون يرددون: آمين.. آمين.. آمين.

ورحم الله قارئًا دعا للنصر المبين لغزة ولي ولوالدي بالعفو والمغفرة ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).

Exit mobile version