هل تم حرق كتب الحديث في عصر النبوة؟!

 

شبهة جديدة يثيرها زنادقة العصر -الكارهون لِما أنزل الله تعالى ولِما قال رسوله صلى الله عليه وسلم- في مقالات ملؤوا بها صحفهم الصفراء، وقنواتهم المشبوهة.

وقد أحاطوا هذه الشبهة بهالة جوفاء من التهويل، حتى ليخيل لكل من يقرأ لهم أو يستمع إليهم أن دخان الحرائق التي اشتعلت في كتب الحديث كاد يحجب ضوء الشمس، وأن رائحته ما تزال تزكم الأنوف، ومبالغة في التهويل ادعوا إشعال هذه الحرائق في ثلاثة عصور شديدة الحساسية في الإسلام.

1- عصر النبي نفسه صلى الله عليه وسلم؟

2- عصر الصديق أبي بكر رضي الله عنه؟

3- عصر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟

إنهم يريدون أن يوهموا العامة أن التمسك بالسُّنة والإيمان والعمل بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هو بدعة وضلالة ليست من الدين في شيء، وإذا كان حرق كتب الحديث قد حدث في عصر النبوة، وعصر صاحبيه الجليلين أبي بكر، وعمر، رضي الله عنهما، فماذا تنتظر الأمة –الآن– من بقاء البخاري ومسلم وسائر كتب الحديث إلا خيبة الرجاء؟

إنهم يدعون الأمة إلى إشعال الحرائق من جديد في ما يعرف بـ”كتب الحديث” لتنجو من الضلال والضياع الذي هي فيه، بل يرى بعضهم أن إيمان الأمة بالحديث النبوي والعمل به، واعتباره مصدراً للتشريع هو التحول الخطير الذي نُكبت بسببه الأمة، وأن القرآن كان قد تنبأ به وأعلنه في قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144).

بيان بطلان هذه الشبهة:

هذه الشبهة مبالغ فيها من قِبَل الذين يروجون لها الآن، بل هي أقوال مذكورة على عواهنها لا تثبت أمام نقد علماء الحديث، وأشهر هذه الأقوال بل وأقواها الواقعة المنسوبة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد ذكرها الإمام الذهبي في كتابه “تذكرة الحفاظ”(1) مع سند طويل لها نقله الحاكم، والقصة -بدون سندها- جاء فيها:

“قالت عائشة رضي الله عنها: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلب كثيراً، فغمني فقلت: أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها، فدعا بنار فأحرقها؟ فقلت: لِمَ أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني، فأكون قد نقلت ذاك”.

هذه هي القصة، والإمام الذهبي من عادته في هذا الكتاب سرد الأقوال دون التعليق عليها، ولكنه علق على هذه الرواية بقوله: “فهذا لا يصح، والله أعلم”، والذهبي إمام لا يشق له غبار في علوم الحديث ونقده، وعبارته هذه ذات دلالة قاطعة على شكه في صحة هذه الرواية.

وليس الذهبي وحده الذي حكم بعدم صحة الخبر، وإنما رده أيضا الحافظ ابن كثير حيث قال: “هذا غريب من هذا الوجه جداً، وعلي بن صالح -أحد رجال الإسناد- لا يُعرف”، وهكذا يتضح أن الخبر غير صحيح، وفي إسناده راو مجهول، مما جعل الخبر في دائرة الرد، لا في دائرة القبول(2).

وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح فإنها تخلو من الغرض الذي أراده منها زنادقة العصر، وأعداء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم يريدون منها أن أبا بكر رضي الله عنه أحرق ما عنده من أحاديث باعتبارها زيادة في الدين لم يأذن الله بها، أو –على الأقل– لعدم الثقة في رواة الأحاديث جميعاً، وما دام أبو بكر رضي الله عنه مع صحبته وقرب عهده بالرسول صلى الله عليه وسلم قد تشكك إلى هذا الحد في بطلان الرواية عنه، فما بال الأمة في عصر “العولمة” تحتفظ بهذه الأحاديث؟ أليس لهم في صنع أبي بكر أسوة حسنة؟! أم هي الآن أدري بالسُّنَّة من أبي بكر رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وصاحبه الذي ما كان يمر يوم دون أن يراه ويسمعه؟!

إن هذه القصة على فرض صحتها ليس فيها دليل على ما أرادوه منها:

فأبو بكر رضي الله عنه تردد في صدق الذي أملى عليه مجموعة الأحاديث، فسارع –احتياطاً– إلى إعدامها بالحرق، حتى لا تُنشر بين الناس أحاديث لم يتثبت كل التثبت من صدق صدورها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه رضي الله عنه لم يحرقها –إن كان حقاً قد حرقها– لأنها ليست من الدين كما يدَّعي منكرو السُّنَّة، ولم يحرقها لعدم الثقة في رواة الأحاديث كلهم كما يروج الآن حمقى منكري السُّنَّة، وإنما حرقها لتردده في صدق راوٍ واحد، هو الذي أملى عليه هذه الأحاديث.

وأبو بكر رضي الله عنه -مع هذا– لم يتهم من روى له تلك الأحاديث بالكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمداً، لأنه صحابي، والصحابة كلهم عدول بشهادة القرآن نفسه، وإنما هناك أسباب تحمل أصحاب الورع والتقوى من أمثال أبي بكر على دقة التحري، وترك ما يريب إلى ما لا يريب.

ومن الروايات التي يستند إليها هؤلاء المدَّعون، ما رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: “كنا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فخرج علينا، فقال: “ما هذا الذي تكتبون؟”، فقلنا: ما نسمع منك، فقال: “أكتاب مع كتاب الله؟”، فقلنا: ما نسمع، فقال: “اكتبوا كتاب الله، امْحِضوا كِتابَ اللهِ، أكتاب غير كتاب الله؟ امْحِضوا كِتابَ اللهِ، وأَخلِصوه”(2)، قال: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد ثم أحرقناه بالنار، قلنا: أي رسول الله أنتحدث عنك؟ قال: “نعم تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار”(4).

وهذا الحديث رغم أن كثيراً من العلماء حكم عليه بالضعف؛ إذ أنه من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف، فإن الشيخ شعيب الأرنؤوط قد صححه في تعليقه على مسند الإمام أحمد، ومع صحة الحديث فإنه لا ينهض دليلاً على أن النهي عن كتابة الحديث أو حرق بعض ما كتب كان مطلقاً ودائماً، إنما ذلك كان في بداية الأمر ولما يزل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم، وقد يختلط عليهم الأمر فلا يفرقون بين ما هو من القرآن وما هو من السُّنة في تلك الصحف المتناثرة من الجلود والرقاع وسعف النخيل والعظام والحجارة، فلم تكن هناك إمكانية عمل دواوين جامعة حتى تجمع فيها السنة وحدها بعيداً عن القرآن حتى لا يختلطا، بل لم يكن القرآن الكريم نفسه قد جمع بعد في مصحف واحد، وهنا نعلم خطورة الأمر الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم  ينهى عن الكتابة أو يحرق المكتوب إن صح ذلك حتى لا يحدث التحريف الناشئ عن اختلاط القرآن بالسنة كما حدث في الأمم السابقة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “امْحِضوا كِتابَ اللهِ”، ثم أمر بحفظ حديثه والتحديث به وحذَّر من الكذب عليه، ولو كان المقصود هو محو السُنن لما أمر بالتحديث عنه.

ومما يدل على أن النهي عن كتابة الحديث النبوي كان مؤقتاً في بداية الأمر وليس مطلقاً ودائماً، إذنه صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه في الكتابة كعبد الله بن عمرو وغيره، وأمره صلى الله عليه وسلم للذي شكا إليه سوء الحفظ أن يستعين بالخط، بل إن الأمر بالكتابة بعد ذلك صار عاماً لقوله صلى الله عليه وسلم: “قيدوا العلم بالكتاب”(5).

إن الحق قريب من طلابه المخلصين له، ولكن العناد يورد صاحبه المهالك، وأولى الناس وأقربهم من الهلاك المعاندون(6).

 

 

 

 

 

_________________________________

(1) “تذكرة الحفاظ”، الإمام الذهبي، 1/ 5.   

(2) دفع أباطيل د. مصطفى محمود في إنكار السنة النبوية، د. عبدالمهدي عبدالقادر عبدالهادي، دار الاعتصام، القاهرة، 1420هـ/ 1999م، ص69، 70 بتصرف. وانظر: الأنوار الكاشفة، المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص43، 44.

(3) “أمْحِضوا كتابَ اللهِ، وأخْلِصوه”، اجْعَلوا القُرآنَ خالصًا مَكتوبًا هو وَحْدَه فقطْ حتى تَحفَظوه في قُلوبِكم، ولا تَحفَظوا غيرَه منَ الكُتبِ.

(4) أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي سعيد الخدري، رقم (11107).

(5) صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: العلم، (1/ 188)، رقم (362). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2026).

(6) أصل هذه الشبهات من كتاب: “هذا بيان للناس– الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية”، د. عبدالعظيم المطعني، مكتبة وهبة، طبعة 1420هـ/ 1999م.

Exit mobile version