أكد الخبير بمجمع اللغة العربية بمصر (مجمع الخالدين)، الرئيس الأسبق لدار الكتب والوثائق القومية المصرية، د. خالد فهمي، أن اللغة العربية محفوظة بحفظ الله عز وجل لها عبر حفظه للقرآن الكريم، مهما فعل الكارهون.
وأوضح فهمي، في حوار لـ”المجتمع”، أن هناك 3 أنماط تهاجم اللغة العربية؛ أخطرها النمط التغريبي الصهيوني، وهو معادٍ للعربية واللسان العربي، بينما هناك فريقان يهاجمان دون علم أو بناء على هزيمة نفسية، وهذان الفريقان بمزيد من الجهد قد يكونان في صالح اللغة ولو بعد حين.
في البداية، ما سر بقاء قوة اللغة العربية حتى اليوم؟
– بداية، لكم وللأسرة مجلة “المجتمع” صاحبة العطاء الكبير كل التحية، ثم نقول: تاريخ اللغات لا يعرف استثناءات، وكثير من اللهجات تحولت إلى لغات كبديل لغياب اللغة الأم، مثل اللاتينية التي ورثتها لغات عدة منها الفرنسية والإسبانية، وسبب بقاء اللغة العربية وتفردها الاستثنائي، هو سبب مركزي، حيث توفر لها ما لم يتوفر لغيرها من اللغات، وهو سبب يقوم على ارتباطها لغة بالقرآن الكريم الذي وعد الله عز وجل بحفظه وصيانته ومن لوازمه حفظ اللغة، ولم يرد أن الله تعهد بحفظ كتاب مثل القرآن الكريم.
تعهُّد الله بحفظ القرآن الكريم وراء حماية اللسان العربي
وأضف إلى ذلك، أن الإسلام دين عالمي وموجه للعالمين ونصه عابر للثقافات والأزمنة، وهو الدين الخاتم، ومن ثم حافظ على اللسان العربي واللغة العربية وهو ما لم يتوافر للغات أخرى، بجانب أسباب فرعية أخرى تأتي من سيادة الإسلام وحضارته ولغته على مدار 10 قرون، والعلوم والمعارف التي تصاعدت في حقب المد العربي والإسلامي على امتداد قرون عدة، ما جعل اللغة العربية من الجاهلية قبل الإسلام وحتى اليوم بدون تغيرات جذرية، والفضل الأول للقرآن.
ما العلاقة، برأيكم، بين قوة الهوية وتعزيز حماية اللغة العربية؟
– هناك ارتباط شديد الصلة بين قوة الهوية وتعزيز حماية اللغة العربية، وأحيل في تفسير هذا إلى كتاب “لغة مقدسة وناس عاديون معضلات الثقافة والسياسة في مصر” الصادر عن المركز القومي للترجمة منذ 13 سنة، للكاتبة نيلوفر حائري، التي تؤكد أن اللغة العربية في قلب الصراع على هوية مصر، وأنها صمام أمان لحفظ الهوية، وتطرقت في كتابها إلى نقطتين مهمتين، وهما: أثر التشكيل السكاني من حيث المسلمين والمسيحيين، وأثر الحصة الأولى التي تقوم فيها الأم بتلقين ابنها سورة “الفاتحة”، وتؤكد أن هذه الحصة الأولى هي التي تمنع اللغة العربية من الاجتثاث من أرض مصر.
وأشارت إلى أنها رصدت مظاهرات عنف من شعوب مسيحية عندما تمت ترجمة باللغة العامية لنصوص الأناجيل لاعتبارها إهانة لكلمة الرب، ولذلك قامت بتجربة على كنائس مصرية لترديد النصوص الدينية باللغة العامية مرة واللغة العربية الفصحى مرة في أماكن أخرى، فوجدت أن التأثير الروحي للفصحى أعمق لدى مسيحيي مصر، لتقرر أن 83% من المصريين يعتبرون اللغة العربية هي لسان ديني للمسلمين والمسيحيين بشكل عمق تأثيرها وتواجدها بين الشعب المصري الذي يرى أن هذه اللغة هي تعزيز لهويته، وأي تهديد لها هو تهديد لهويته من باب ديني صرف لدى المسلمين، ومن باب تعزيز المعاني الروحية الجليلة والوطنية لدى الشريحة المسيحية من المصريين والعرب، ومن ثم يعد المساس باللغة العربية مساساً بركن ركين لدى المسلمين والمسيحيين في المنطقة العربية، فضلاً عن المحفز الوطني.
أي مساس باللغة هو تهديد للهوية في المنطقة العربية
ما البواعث الحالية للهجوم على اللغة العربية؟
– أنماط الهجوم على أي شكل من أشكال الثقافات ومنها اللغة العربية 3 أنماط، وهي: النمط الهجومي الجاهل، والنمط الهجومي المتأثر بالتراجع الحضاري والهزيمة النفسية، والنمط الهجومي التابع للغرب الذين يطلق عليهم “التغريبيين” وهؤلاء لا أمل فيهم.
بالنسبة للنمط الأول، فهو نمط ليس لديه معلومات، ولذلك يهاجم عن جهل، وهذا إذا حصل على معلومات جيدة سيتحول من محايد أي مؤيد وداعم للغة العربية، وواجبنا أن نعلمه بجماليات اللغة العربية وتاريخها وتأثيرها وعظمة بنائها، ونحيله هنا إلى دراسة تأثير اللغة العربية منذ قديم الزمان حتى اليوم، وفي رواية “اسم الوردة”، إحدى الروايات المهمة، التي تتحدث عن القرون الوسطي، يدخل أمين مكتبة جديد لاستلام مهام عمله فيسأل عن إتقانه اللغة فيجيب أنه يتقن اليونانية جيداً، فيرد عليه المسؤول الأعلى: “لا.. ينبغي أن تعرف العربية قبل اليونانية”، ومن هنا لا غرابة أن يتغنى الراحل سيد مكاوي “الأرض بتتكلم عربي”، فهذا حقيقي وتاريخي، فالأرض كانت تهتم بالعربية اهتمامنا الحالي باللغات الأجنبية في عصور التفوق العربي والإسلامي.
كما ينبغي علينا أن نعلم فريق هذا النمط قانون اللغة، ليحكم بنفسه على اللغة العربية، فكل لغات الأرض “إبلاغية”، ولا يوجد لغة لا تقوم بوظيفة الإبلاغ، ومن ثم اللغات متكافئة، فاللغات الكورية والصينية واليابانية والإنجليزية والفرنسية والفارسية والعربية تؤدي وظيفتها بين شعوبها في التواصل والإبلاغ، وبالتالي فغير صحيح مزاعم المهاجمين أنها لغة غير إبلاغية، أما ما يقولون عنه في التمثيل الكتابي فكل اللغات لها ميزات وعيوب في كتابة الحروف، فالإنجليزية يوجد بها حروف لا تنطق وأصوات تنطق ولا تكتب، وهنا نترك المجال لديفيد جستس، في كتابه “محاسن العربية في المرآة الأوروبية” الذي قال: “إن الذي يقارن بين الخط العربي والخطوط الأخرى، سيحسد الشعوب العربية التي ابتكرت خطها، وقد يصاب بالجنون من كثرة التأمل في المشكلات الخطية في اللغات الأوروبية”.
المجامع العربية هي قلعة ومنارة لصون اللغة وتيسير سبلها
وهناك فريق ثان يحتاج لدعمنا وهو الفريق المهاجم المتأثر بقانون التراجع الحضاري، فالشعوب العربية تحت تأثير الهزيمة النفسية، وتقدم الغرب وتفوقه، ينحاز البعض منها للغة المنتصر المتفوق ظناً أن هذا هروب من الهزيمة الحضارية، وبالتالي تبدو ملامح الثقافة العربية والملابس العربية مثار اتهام، بينما الزي الغربي مثار افتخار، وهنا الأزمة التي تكلم عنها مبكراً ابن خلدون، في “مقدمته”، حين قال: “المغلوب مولع بتقليد الغالب”، وصاغها بعبقرية المفكر الكبير مالك بن نبي في عبارته “القابلية للاستعمار”، ومثل هؤلاء بمزيد من الجهد نستطيع أن نكسبهم، وننقلهم من معسكر الهجوم إلى معسكر اللغة العربية.
أما الطابور الخامس أو التغريبيون، فهؤلاء أعداء للغة، ولا أمل فيهم ولا خير يرتجى منهم، فالصهيوني لن يكون صديقاً للغة العربية، لأنه يعتبر أن اللسان العربي مهدد لكيانه، والإسلام كذلك، وبالتالي يجب أن نواجه مثل هؤلاء الذين تخرجوا في مدرسة سلامة موسي ولويس عوض، وأمثالهم.
ما رأيكم في الهجوم مؤخراً على فكرة الكتاتيب في مصر؟
– بلا شك أن انطلاق ذلك الهجوم من بواعث تغريبية عدائية، فهو هجوم على الذات العربية وكل ما يمثلها، ورفض للعقل العربي المسلم بكل تجلياته، ومن يقوم بذلك لا تجده إلا ابناً لمدرسة التغريبيين، ويمكن أن تراجع الأسماء الحالية التي هاجمت الأزهر الشريف والكتاتيب وستجدها من معسكر التغريبيين.
وهنا نسألهم: هل تريدون تغيير المؤسسة المكانية وجغرافيا التعلم وتقصدون تغيير مكان التلقين؟ فهنا يمكن أن نناقش تصوراتكم بعد أن تجيبوا عن سؤال: لماذا لا تهاجمون ساحات المعابد والكنائس التي تجرى فيها التراتيل والنصوص الدينية؟
كما نسألهم: هل تقصدون طريقة التلقين والعودة للنصوص القديمة دون إعمال العقل؟ وهنا يمكن أن نناقشهم بعد أن يجيبوا عن سؤال ثان: نصوص التبريك والتعميد تقوم على اللغة القبطية القديمة ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، فلماذا استهداف اللغة العربية فقط؟!
وربما يقولون: نحن نريد الابتكار وتطوير الطريقة التقليدية في التعليم، ونحن نقول لهم: ارجعوا لأساسيات الخدمة الكنائسية، هناك طرق تراثية تقليدية قديمة في تعليم وتلقين النصوص الدينية ولا أحد يقوم بمحاربتها، بل إن بعض الحضانات الأوروبية تقوم بوضع برامج للأمن المدرسي تقوم على الطرق القديمة جداً من حيث جلوس التلاميذ دون مقاعد أو محاطون بأجسام صلبة، ولا أحد يعلق.
وبناء على ذلك، نحن مضطرون للقول: إن هناك نزعة تغريبية عدائية للغة والقرآن تقوم على بث “الإسلاموفوبيا”، وإغفال الحقائق العلمية الراسخة، لأن الدارس العاقل يعلم أن مؤسسة الكتاتيب موجودة منذ 14 قرناً، ولقد كتبت عن ذلك تحت عنوان “مجالس الإقراء” منذ عهد سيدنا عمر بن الخطاب، ولذلك نؤكد أن أي تطوير لا يستلزم الهدم، وأن أي ترميم لا يستلزم إلغاء الماضي، وإلا فنحن نتهم من يريد هدم فكرة الكتاتيب بأنه لا فرق بينه وبين مؤيدي هدم الآثار القديمة سواء إسلامية أو قبطية أو حتى فرعونية، فهذا التراث المعماري يجب صيانته كما يجب صيانة التراث اللغوي والثقافي وتطويره إذا لزم الأمر وترميمه إذا احتاج.
هناك نزعة تغريبية تكره اللغة والدين وكل مقومات العقل العربي
يقول البعض: الراب والمهرجانات عدوان جديد على اللغة العربية، فهل هذا صحيح؟
– هذا سؤال مهم ولكنه يحتاج إلى تدقيق لمنع الالتباس، وإجابتي فيه معنية بالبعد اللغوي فقط، ولذلك نقرر بعد التشديد على الإطار الأخلاقي الحضاري لمخرجات الراب أو منتجات اللغة العامية كالمهرجانات، أنه لا يمكن وصم فن الراب أو مخرجات المهرجانات بأنه عدوان على اللغة العربية.
اللسان العربي يتهدد بنقطة أساسية وعلى ضوئها ننظر، فالجملة العربية تقوم فيما تقوم على مبتدأ وخبر وفعل وفاعل، فإذا لم يتهدد نظام الجملة العربية فلا قلق على اللغة، من تكرار القوافي، والشعر العربي عرف الشعر العمودي والموشحات الأندلسية والكان كان والتفعيلة وأنماط أخرى كثيرة من الفنون القولية ولم يتهدد بنيان اللغة.
وهنا ننظر إلى الراب من كونه يأتي في إطار حق كل جيل في ابتكار الفنون والآداب التي تعينه على نفسيته وتجاوز أزمته الحضارية والنفسية، والراب نشأ في السبعينيات في أزمة الصراع الشديد بين السود والبيض، وكان تصاعده تمرداً على الواقع الظالم، وهو الدافع المحوري الآن للشباب العربي للهروب إليه من أزماته الحضارية والثقافية والنفسية في العقد الأخير.
كما ننظر إلى المهرجانات، من هذه الزاوية، على أنها لا تشكل عدواناً، وهي تعبر عن الازدواجية المقبولة، فالفصحي لها ممارسات والعامية لها ممارسات، وطالما العامية لا تفرض بقرار سيادي ووفق خطة ممنهجة وتمضي ببساطة وعفوية في التداول اليومي فأمرها مقبول ولها دور، ولا نستطيع إلزام الناس بقبول نمط معين، وذلك بعد احترام الضوابط الأخلاقية، لأن الكلام يركز على البعد اللغوي.
وهنا نحيل الذاكرة العربية إلى افتتاح الإذاعة المصرية عام 1932، التي استخدمت اللغة العربية سواء الفصحى أو العامية المصرية، وتوجت بدايتها بالقرآن الكريم، وقدمت منتجين فنيين أحدهما فصحى والأخرى عامية، لتشكل الوعي العربي الحضاري المسلم في مصر في مواجهة الاحتلال الغربي عبر تشكيل الهوية الرسمية بقراءة القرآن الكريم ثم الهوية الجمالية بغناء قصيدة فصحى ثم الهوية الشعبية بأغنية شعبية عن النيل.
ولعل الجميع يتذكر تراث الرحيل للحج، والمديح النبوي والمسحراتي في كل الشعوب العربية ومنها المسحراتي مع الأديب الكبير فؤاد حداد، التي يسكنها الجمال والروحانيات، وبالتالي فالأغاني العامية طالما ليس وراءها مرحليات استهداف أو خطط تأمر على اللغة العربية فأهلاً بها في حدود هوية المجتمع الثقافية الحضارية.
ألا تخشى على النشء من الحيلولة دون غرس حب اللغة العربية فيه منذ الصغر؟
– لست قلقاً على النشء، فقط أطالب بفتح المجال العام، فالأم بتشكيلها الثقافي الحضاري صمام أمان تبدأ الحصة الأولى مع طفلها، بسورة “الفاتحة”، وأطالب بتشكيل محاضن ثقافية تحت أي مسمى تعتني بحفظ القرآن الكريم وعيون الشعر العربي وإجراءات مسابقات في الخطابة والإلقاء في المؤسسات والوزارات المعنية، وحينها ستزدهر الأجيال واللسان العربي في مصر والمنطقة.
في الختام، كيف ترى دور المجمع وزيادة تأثيره خاصة مع محاولات إصدار قانون لحماية اللغة العربية بمصر؟
– بحمد الله، كنت عضواً في لجنة وضع هذا القانون وحضرت مناقشته في مجلس النواب، ونتمنى صدوره في وقت قريب، وهو يضم أكثر من 18 مادة تعطي دوراً رقابياً وتشريعياً وتنويرياً وتدريبياً للمجمع، وبإصداره نخطو خطوات إيجابية ومهمة جداً في حماية اللغة، وبفضل الله يتعاون المجمع مع مؤسسات حكومية عدة تقتنع بأهمية حماية اللغة وعقد العديد من اتفاقيات التعاون مع جهات قضائية واقتصادية لتدريب موظفيها وأعضائها.
وكل مجامع اللغة العربية -وفي القلب منها “مجمع الخالدين”- تمارس وظيفتين أساسيتين في الدول، فهي قلعة ومنارة، كونها مسؤولة عن حفظ اللسان العربي وتيسير سبل العناية به وتطوير معاجمه، وكثير من الدساتير ذكية في فهم هذا الدور، فأعطت للغة سقفاً دستورياً باعتبارها لغة الدولة الرسمية.