دروس وعبر من حدث تاريخي لا يمحى من الذاكرة 

يحتفل المسلمون هذه الأيام بعيد الاضحى وكلهم أمل أن يعود للأمة الإسلامية مجدها وعزها، وليس ذلك على الله بعزيز بشرط الأخذ بأسباب الإصلاح والتغيير.

وفي مثل هذه المناسبات، يتركز الاهتمام على قضايا المسلمين الساخنة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي تبقى حية في ضمير الأمة، ما دام هناك احتلال ظالم وعدوان غاشم على المقدسات وعلى المسجد الأقصى.

في هذا السياق، يجدر التوقف عند محطة فاصلة في تاريخ المسلمين حصلت في مثل هذه الأيام وتحديداً يوم السبت 25 ربيع الثاني 583 هـ الموافق 4 يوليو 1187م، إنها معركة حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي القائد الذي هزم الصليبيين في هذه المعركة الفاصلة التي فتحت الباب لتحرير القدس والمسجد الأقصى في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي الموافق للسادس هجري بعد 88 سنة من الاحتلال الصليبي.

وإنه لمن المفيد التوقف عند السياق التاريخي لمعركة حطين من حيث الزمان والمكان لإدراك أهمية الحدث في ظل التحديات السياسية والإستراتيجية التي كانت تعيشها الأمة الإسلامية وكيف استطاع صلاح الدين رفع هذه التحديات وتحقيق الانتصار، وبغض النظر عن الأحداث، فإن استنتاج الدروس والعبر هو الأهم وخاصة ما يتعلق بالحاجة الأكيدة إلى القيادة الحكيمة والإعداد الجيد وحضور الروح المعنوية والتعبئة الإيمانية من أجل إحداث التغيير المنشود.

انتصار عسكري في ظل تراجع سياسي للدولة العباسية  

ومن أجل فهم السياق التاريخي الذي تمت فيه معركة حطين، لا بد من التذكير بالظروف الصعبة التي كانت تمر بها الأمة الإسلامية في ذلك الوقت.

تزامنت معركة حطين التي حقق فيها المسلمون نصراً ساحقاً على الصليبيين، مع عهد الخليفة العباسي الرابع والثلاثين أحمد الناصر لدين الله، وكانت الدولة العباسية آنئذ في مرحلة ترهل قيادي وتراجع سياسي بسبب ضعف السلطة المركزية في بغداد، لم يكن هذا الترهل بين عشية وضحاها وإنما شهد عملية تراكمية من الأخطاء السياسية على مستوى القيادة أبرزها دخول بعض الخلفاء (المأمون والمعتصم والواثق) وهم رمز الحُكم في صراع مرير مع علماء كبار وهم رمز القيادة الفكرية والدينية للمجتمع.. كان ذلك زمن الغلو الاعتزالي وما نتج عنه من انحرافات في المسائل العقدية، فيما يُعرف بمحنة القرآن التي امتحن فيها علماء كبار من أمثال الإمام أحمد بن حنبل خاصة في عهد المعتصم بالله.

وعلى ذكر المعتصم بالله، فقد فتح الباب لأزمة سياسية عميقة حيث استقدم جنوداً أتراك (علماً بأن والدته تركية) وقرّبهم إليه، فاستغلوا موقعهم وسيطروا تدريجياً على مقاليد الحكم وأفسدوا في الأرض وأساؤوا إلى أهل بغداد اضطر الخليفة نتيجة لذلك إلى الانتقال إلى مدينة سامراء هو وحاشيته.

وفي القرن العاشر جاءت موجة من التشيع من تداعياتها سيطرة البويهيين الشيعة على الخلفاء العباسيين في بغداد، وقيام الدولة الفاطمية ذات التوجه الشيعي في شمال أفريقيا بتونس (عاصمتها المهدية) مطيحة بالدولة السُّنية الأغلبية (عاصمتها القيروان) قبل أن يستولي الفاطميون على مصر سنة 969م ويبنوا القاهرة بخلفية “قهر” بغداد السُّنية ويبنوا جامع الأزهر لنشر التشيع، وتزامن ذلك مع تواجد الأمويين في الحكم بالأندلس (عاصمتهم قرطبة) في شكل إمارة ثم خلافة.

في ظل تعدد مراكز القرار في العالم الإسلامي، تحركت الآلة الصليبية لمهاجمة العالم الإسلامي عسكرياً وثقافياً نهاية القرن الحادي عشر ميلادي، مباشرة بعد خطاب البابا أوربان الثاني الشهير سنة 1095م. 

حملات صليبية عسكرية وثقافية

تزامنت الحملات الصليبية على مصر (1154 ـ 1169م) مع ضعف الدولة الفاطمية في عهد العاضد بأمر الله، فقام والي الشام العباسي نورالدين زنكي القائد السياسي الحامل لهمّ الأمة وقضاياها بإرسال القائد العسكري الفذّ صلاح الدين الأيوبي للدفاع عن مصر ضد الصليبيين، باعتبار أن هذا البلد جزء من الأمة يجب حمايته بغض النظر عن توجهات حكامه. 

وتمكن صلاح الدين من دحر الصليبيين وأصبح بطلاً في نظر الشعب المصري والأمة، فعُيّن وزيراً قبل أن يقيم الدولة الأيوبية على أطلال الدولة الفاطمية التي سقطت سنة 1171م.

وبالتالي حصل منعرج في تاريخ مصر التي عادت إلى أحضان الدولة العباسية السُّنّية وخطبت المساجد للخليفة العباسي المستضئ بأمر الله.

لم يكن السلطان صلاح الدين الأيوبي ليهدأ له بال وهو يشاهد الصليبيين يعيثون في الأرض فساداً ويحتلون القدس والمسجد الأقصى. فكان تحرير أولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال على رأس أولوياته.

التعبئة الشاملة وتوحيد الصفوف

قام بتعبئة في صفوف المسلمين لتوحيدهم وبث الروح المعنوية فيهم بعد ترهل وحالة شبه يأس، والتحقت به الحشود من المشرق ومن المغرب الإسلامي.. وكانت معركة حطين الفاصلة والحاسمة في ربيع الثاني 583 هـ الموافق يوليو 1187م، التي انهزم فيها الصليبيون شر هزيمة بقيادة غي دي لوزينيان ملك القدس وقائد الفرسان ريمون الثالث أمير طرابلس.

وفتحت هذه المعركة الطريق أمام تحقيق أمل القائد صلاح الدين الأيوبي في تحرير بيت المقدس ومسجده الأقصى من احتلال الصليبيين في الثاني من أكتوبر 1187م / 583 هـ بعد معركة حطين بثلاثة أشهر وبعد احتلال صليبي مكث جاثماً على صدر بيت المقدس 88 عاماً.

عامَل القائد صلاح الدين أهل القدس من المسيحيين معاملة إنسانية حضارية، كما لم ينس صلاح الدين أن يرد الجميل لأهل المغرب الذين جاؤوا من بعيد وأسهموا بأرواحهم في تحرير فلسطين والمسجد الأقصى، وجعل لهم وقفاً خاصاً بهم يدعى حارة المغاربة وباب المغاربة أحد أبواب المسجد، وهي معالم قائمة شاهدة على القيادة الحكيمة.

Exit mobile version