قرار المحكمة الأمريكية بحظر الإجهاض يثير زوبعة سياسية في فرنسا

 

أصدرت المحكمة العليا الأمريكية قراراً وُصف بـ”التاريخي” بحظر الإجهاض بعد 15 أسبوعاً من الحمل، وهو قرار يلغي الحق الدستوري الذي كان يعرف باسم “رو ضد واد” الصادر عام 1973 الذي يمنح المرأة في الولايات المتحدة حرية الإجهاض.

وقد أثار هذا القرار جدلاً واسعاً داخل الولايات المتحدة، وهو أمر وارد بالنظر إلى انقسام الرأي العام الأمريكي حول مثل هذه القضايا ذات العلاقة بقيم الحياة.

إلا أن ما يلفت الانتباه الزوبعة السياسية التي أثارها هذا القرار في فرنسا؟ فكيف يفسر رد الفعل الفرنسي على قضايا أمريكية داخلية؟ وما خلفياتها؟ 

تصاعد التيار المحافظ في الولايات المتحدة 

البعض ربط هذا القرار بتصاعد تيار المحافظين منذ عهد الرئيس السابق ترمب، وعلى اشتداد الصراع السياسي الداخلي بين الجمهوريين والديمقراطيين، وما ينجر عنه من استقطاب أيديولوجي، في هذا السياق، تتم الإشارة إلى انتقاد الرئيس جو بايدن لقرار المحكمة العليا بشأن الإجهاض، حيث قال: إنه أعاد الولايات المتحدة 150 عاماً إلى الوراء، وأضاف أنه يوم حزين للبلاد، لكن هذا لا يعني أن النزاع قد انتهى.

ومعلوم أن لكل تكتل سياسي (جمهوري وديمقراطي) مقاربته الخاصة لمثل هذه القضايا الحساسة، فهناك من يركز على الحقوق المدنية وخاصة حقوق المرأة واعتبارها نهجاً تقدمياً، وهو الخط الذي يمثله الحزب الديمقراطي بداية من القرن العشرين، خاصة بعد فوز جون كينيدي في عام 1960، ثم في ظل رئاسة بيل كلينتون، وباراك أوباما، واليوم بايدن، في المقابل يميل الطرف المعارض إلى العودة إلى فلسفة الدين في الحفاظ على حياة الإنسان حتى ولو كان جنيناً في بطن أمه وعدم التساهل مع من يعتدي على حياة البشر اعتماداً على فلسفة الدين.

وتبنى الجمهوريون هذا النهج الذي يُعتبر اتجاهاً “محافظاً”، ولعل انتصار رونالد ريغان أكمل ما تسمى بـ”ثورة المحافظين”، القائمة على فك الارتباط بالدولة والتشكيك في بعض الأفكار التي توصف بالتقدمية مثل الحق في الإجهاض، مع الدعوة إلى عودة عقوبة الإعدام والصلاة في المدارس، وجاء الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترمب ليحقق ما وعد به في حملته الانتخابية في عام 2016 بتعيين قضاة في المحكمة العليا يبطلون حكم “رو ضد وايد”، وتمكن بالفعل من تعيين 3 قضاة محافظين خلال ولايته التي استمرت 4 سنوات؛ مما رجح كفة اليمينيين في المحكمة، وأسس لأغلبية محافظة من 6 قضاة مقابل 3 ليبراليين.

مسألة الإجهاض ليست سوى واحدة من أكثر القضايا إثارة للانقسام في المشهد السياسي الأمريكي

الأمر يتجاوز الصراع السياسي إلى البُعد الديني

ويُجمع الملاحظون على أن مسألة الإجهاض ليست سوى واحدة من أكثر القضايا إثارة للانقسام في المشهد السياسي الأمريكي، في السياق نفسه، هناك انقسام داخل الرأي العام الأمريكي حول مسألة “الموت الرحيم” (أتانازيا)، كما أن هناك صراعاً مريراً بين مؤيدي النظرية الداروينية حول النشوء والارتقاء والتطور البيولوجي عبر عملية الانتقاء الطبيعي ورد أصل الإنسان إلى الحيوان، ومعارضي هذه النظرية، حيث تكونت مجموعات ضغط من أنصار نظرية الخلق في الولايات المتحدة يطالبون بعدم تدريس هذه النظرية كحقيقة علمية اعتماداً على كون الإنسان أصله من آدم أبي البشر عليه السلام، وتتمحور كل هذه المسائل حول مدى احترام التصور الديني للإنسان والحياة.

وفي الواقع، فإن الأمر يتجاوز الصراع السياسي إلى البُعد الديني، فمن المعلوم أن الدين له حضور كبير في المجتمع الأمريكي من القاعدة إلى القمة، لكن أن يصل الأمر إلى إلغاء قانون دستوري، فهذا يعني أن لوبي الحق في الحياة ذي المرجعية الدينية انتصر على معسكر دعاة حرية المرأة ومؤيدي الحركة النسوية ذي الطابع العلماني، مما أثار ردود فعل قوية في الأوساط السياسية الفرنسية.

زوبعة سياسية في فرنسا 

ففي الوقت الذي كان الرأي العام الفرنسي يتابع الجدل داخل الأوساط السياسية حول تداعيات نتائج الانتخابات البرلمانية التي أفرزت مشهداً سياسياً غير مسبوق، وفي الوقت الذي كان الاهتمام منصباً على الصعوبات التي تعترض الرئيس الفرنسي أمام تكوين أغلبية للحكم، وعلى طبيعة التحالفات الحزبية المحتملة لتحقيق ذلك، وعلى المصير السياسي لرئيسة الحكومة إليزابيت بورن، تحول النقاش والجدل فجأة حول إدراج قانون في الدستور الفرنسي يسمح بحق الإجهاض بين مؤيد ومعارض لهذا المقترح.

عنصر المفاجأة يعود إلى كون موضوع الإجهاض لم يتم التطرق إليه في الحملات الانتخابية الرئاسية ثم التشريعية، باعتباره حقاً مكتسباً ولا يحتاج إلى تأكيد.

وما أن صدر قرار المحكمة العليا الأمريكية بحظر الإجهاض بعد 15 أسبوعاً من الحمل، وإلغاء الحق الدستوري الذي كان يعرف باسم “رو ضد واد” الصادر عام 1973 الذي يمنح المرأة في الولايات المتحدة حرية الإجهاض، سارعت أطراف سياسية من المعارضة اليسارية ثم من السلطة الحاكمة بالمطالبة بإدراج حق الإجهاض في الدستور الفرنسي.

وكانت رئيسة نواب كتلة “فرنسا الأبية” ماتيلد بانوت هي أول من اقترح تلك الفكرة في تغريدة نُشرت مساء الجمعة الماضي بعد ساعات قليلة من القرار التاريخي للمحكمة العليا للولايات المتحدة بإلغاء الحق الدستوري في الإجهاض.

وجاء في تغريدتها أنها ستقترح يوم الإثنين 27 يونيو على التحالف اليساري في البرلمان تقديم مشروع قانون لتسجيل الحق في الإجهاض في الدستور الفرنسي.

مشروع إدراج حق الإجهاض في الدستور الفرنسي

ومن باب المزايدة السياسية، قام حزب النهضة الحاكم (إلى الأمام سابقًا) بعرض نفس المقترح (مشروع قانون لتسجيل الحق في الإجهاض في الدستور الفرنسي) على البرلمان يوم السبت 25 يونيو الجاري، ودعمت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن هذه المبادرة.

وصرحت رئيسة كتلة حزب النهضة الحاكم في البرلمان أورور بارجيه: إن ما يحدث وراء المحيط الأطلسي يدعونا إلى اتخاذ إجراءات في فرنسا تجنباً لانتكاسات قد تحدث لدينا غداً، وأضافت: لا يمكن تغيير الدستور كما نغير القوانين.

نجاح التيار المحافظ في أمريكا في إلغاء حق الإجهاض سيكون له صداه قريباً في دائرة المنظومة الغربية ومن بينها فرنسا

من جهتها، عللت ماري بيير ريكسان، نائبة في الحزب الحاكم، التسرّع في تقديم المشروع إلى البرلمان بقولها: أردنا الذهاب بسرعة لأن ما يحدث في الولايات المتحدة يُلزمنا، وأضافت: نعتقد أننا بأمان في فرنسا، لكن هذا ليس صحيحًا، هناك قوى محافظة تنظم نفسها، ونريد بهذا القانون حماية حق الإجهاض للأجيال القادمة، ذلك أن الاضطرابات السياسية لا يمكن أن تشكك في هذا الحق.

إلا أن فرانسوا بايرو، رئيس الحزب الديمقراطي (مودام) من اليمين الوسط وأحد أطراف تحالف “معا” المؤيد للرئيس ماكرون، عبر عن تحفظه من إدراج قانون الإجهاض في الدستور الفرنسي، مسجلاً بذلك تبايناً عميقاً مع توجه التحالف الحاكم، وهو ما اعتبره بعض الملاحظين تجسيداً لهشاشة التحالفات السياسية الحالية سواء في إطار كتلة اليمين المؤيدة للرئيس أو كتلة اليسار المعارض “الاتحاد الشعبي البيئي الاجتماعي الجديد”.

وللعلم، فإن مقترح إدراج حق الإجهاض في الدستور الفرنسي ليس بجديد، فقد تقدمت المعارضة اليسارية ومنها حزب “فرنسا الأبية” بنفس المقترح عام 2018 ورفض مطلبها على اعتبار أنه “لا داعي للتلويح بالمخاوف” في فرنسا في الوقت الذي تظهر فيه تراجعات في دول أجنبية، وفي عام 2019، تقدم النائب الاشتراكي ليك كارفوناس بنفس المقترح ولم يجد صدى، فلماذا هذه الزوبعة السياسية هذه المرة؟

تخوف من “عدوى” النزعة الدينية في أمريكا

هناك مثل رائج يقول: “إذا نزل المطر في أمريكا تفتح المظلات خارجها”، وهو يعبر أشد التعبير على التأثير العميق للثقافة الأمريكية على البلاد الأوروبية، بل على مستوى عالمي بحكم منظومة العولمة الأمريكية.

ويدرك علمانيو فرنسا أن نجاح التيار المحافظ في الولايات المتحدة -عبر إلغاء حق الإجهاض من الدستور الأمريكي- في ترسيخ المرجعية الدينية بما يوسّع دائرة موقع الدين في الحياة اليومية للناس سيكون له صداه قريباً في دائرة المنظومة الغربية، ومن بينها فرنسا التي يسعى أصحاب القرار السياسي والنفوذ الفكري فيها إلى الترويج إلى الخصوصية الفرنسية.

وتتمثل هذه الخصوصية في اعتبار الفصل الكامل بين الدين والدولة مسألة محورية، ويفتخر أصحاب هذا التصور بأن العلمانية هي أحد أسس الجمهورية الفرنسية طبقاً لقانون 1905 الذي شرّع لهذا الفصل، وفي الواقع فإن هذه الخصوصية الفرنسية تعود إلى حدث غيّر مجرى التاريخ في هذا البلد، تمثل في الثورة الفرنسية عام 1789 التي عرفت بشعار ثلاثي عنوانه “حرية ومساواة وأخوة”، ولا يناقش اثنان في أن هذه الشعارات تحمل قيماً إنسانية راقية، ولكن خلفيتها تتمثل في القطع مع المرجعية الدينية، وذلك كرد فعل على سياسة الهيمنة التي انتهجتها الكنيسة في القرون الوسطى على العقول وعلى حياة الناس في كل مجالات الحياة، فكانت حدة رد الفعل بقدر حدة الظلم المسلط باسم الدين.

الإشكال أن شريحة من النخبة الفكرية والسياسية الفرنسية تريد أن تجعل من هذا النهج العلماني مساراً كونياً ونموذجاً عالمياً وتحرص على تطبيقه في مجتمعات لا يتناسب معها هذا النهج، وقد قام الاستعمار الفرنسي بدور كبير في تسريب الفكر العلماني في البلاد العربية والإسلامية التي احتلها؛ الأمر الذي أحدث توترات كبرى وتدافعاً شديداً بين مؤيدي العلمانية على الطريقة الفرنسية والمدافعين عن الهوية الإسلامية في هذه البلاد التي لا تزال تدفع ضريبة هذا التدافع إلى اليوم.

أما في فرنسا، فإن شريحة من دعاة العلمانية اليوم ابتعدت عن الأصل الذي يقوم عليه هذا المبدأ، وهو حياد الدولة في مسألة الدين وتعاملها بندية مع كل الأديان، وحولت العلمانية إلى نوع من الدين الذي يوجه سلوك الناس في حياتهم اليومية ويتدخل في حرياتهم الدينية، وذلك كلما قويت المطالب باحترام الخصوصية الدينية في صفوف الأقلية المسلمة أساساً، واعتبار هذه المطالب نوعاً من التمرد على العرف أو القانون العلماني وفرضاً لواقع جديد يكون فيه للدين موقع في المجتمع، وهو ما ترفضه العقلية السياسية الفرنسية.

تداعيات قوة اليمين المتطرف الوازنة في البرلمان

واليوم هناك معطى سياسي وأيديولوجي جديد، إن فوز اليمين المتطرف في فرنسا بـ89 مقعداً من أصل 577 في الانتخابات التشريعية الأخيرة بفرنسا يمثل زلزالًا سياسياً حقيقياً؛ لأن حزب التجمع الوطني تحول إلى أقوى حزب في البرلمان، ويمكنه أن يضغط في اتجاه تنزيل أفكاره ورؤاه من خلال الوزن السياسي الذي يتمتع به ومن خلال القدرة التي يمتلكها على خلط الأوراق عندما يتعلق الأمر بتوجيه دفة التصويت على مشاريع القوانين في هذا الاتجاه أو ذاك، خاصة في القضايا التي ميزته عن غيره مثل مسألة ضرب الخناق على الهجرة والمهاجرين، وأيضاً الدفاع على الهوية المسيحية التي طالما اعتبرها مهدَّدة بسبب ما يسميه بـ”الأسلمة التدريجية للمجتمعات الأوروبية الغربية” أمام البروز غير المسبوق وبشكل لافت لمظاهر التدين الإسلامي (انتشار الحجاب خاصة في صفوف الفتيات الطالبات وبناء المساجد وإقامة المدارس الإسلامية وتمسك الشباب بصيام رمضان وبيع اللحم الحلال وأضاحي العيد..) علاوة على اعتناق عدد من أبناء الأوروبيين للإسلام.

وبالتالي، فإنه من باب الدفاع عن الهوية المسيحية للمجتمع، فإن حزب التجمع الوطني الذي يميل في الوقت الحاضر إلى الحد من حق الإجهاض قد يستفيد من المدّ المسيحي المحافظ في الولايات المتحدة، وكذلك من التجربة البولندية القائمة والمتمثلة في منع الإجهاض، ليتقدم خطوة نحو مراجعة قانون حق الإجهاض الصادر عام 1974 والمعروف باسم “قانون سيمون فاي” وزيرة الصحة في ذلك الوقت.

“لسوء الحظ، لا شيء مستحيل”، بهذه الكلمات لخصت نائبة في الحزب الحاكم التخوف الحقيقي من التراجع عن هذا القانون الذي تتمسك به الحركة النسوية ودعاة تحرير المرأة والعلمانيين من اليسار واليمين في الأوساط السياسية والفكرية والإعلامية وفي المجتمع المدني، باعتباره حجر الزاوية في المشروع العلماني الفرنسي، فعن طريقه يتم تمرير كل البرامج والأفكار التي يراد منها فتح الباب أمام المرأة لتتصرف في جسدها كما شاءت دون وصاية من أحد، وبعيداً كل البعد عن كل مرجعية دينية تضع ضوابط لهذه الحرية، وهنا مربط الفرس.

Exit mobile version