تحوّلات جذرية في المشهد السياسي الفرنسي بعد انتخابات تشريعية حاسمة

 

حصل ما كان مُتوقّعا، فقد أفرزت نتائج الجولة التشريعية الثانية التي تمت الأحد 19 يونيو الجاري، مشهداً سياسياً جديداً عنوانه “الماكرونية” في تراجع وقوى معارضة من اليمين المتطرف ومن اليسار ذي النزعة النضالية في تصاعد، مشهد تختلط فيه الأوراق وتكثر فيه الرهانات وتتشابك فيه المصالح والمبادئ وتشتد فيه الصراعات والتحالفات وتفتح فيه صفحة جديدة من المسار السياسي الفرنسي.

نهاية التوازنات السياسية التقليدية

فقد كانت المعركة شديدة بين ائتلاف “معا” (يمين وسط) المؤيد للرئيس ماكرون وبين معارضيه من الشقين: التجمع الوطني (يمين متطرف)، والاتحاد الشعبي البيئي الاجتماعي الجديد (يسار) للفوز بأكثر مقاعد البرلمان وعددها 577 مقعداً، وكانت النتائج كالتالي:

ائتلاف “معا” (يمين وسط) 

245 نائباً

38.6 %

الاتحاد  الشعبي البيئي الاجتماعي الجديد (يسار) 

131 نائباً

31.6 %

التجمع الوطني (يمين متطرف) 

89 نائباً

17.3 %

الجمهوريون (يمين تيار ديغولي)

61 نائباً

7 %

ويتبين من هذا الجدول أن فرنسا دخلت عهداً جديداً من التوازنات السياسية تختلف عن التدافع التقليدي بين التيار الديغولي ممثلاً لليمين، والتيار الاشتراكي ممثلاً لليسار، وتختلف أيضاً عن مرحلة الاستقطاب بين حزب الرئيس ماكرون “إلى الأمام”، وحزب “التجمع الوطني” (يمين متطرف)، ومنذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي تمت في أبريل الماضي، بدأت صورة المشهد السياسي تتغير في شكل تحالفات، أهمها ائتلاف “معا” (يمين وسط) المؤيد للرئيس ماكرون مقابل “الاتحاد الشعبي البيئي الاجتماعي الجديد” (يسار)، علاوة على حزبين من اليمين: حزب “الجمهوريون” ممثلاً لليمين الديغولي وحزب التجمع الوطني (يمين متطرف).

لوبان تأخذ بالثأر

ومن أبرز نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة أن وجوهاً وأحزاباً سياسية معارضة معروفة في وسائل الإعلام كانت تصول وتجول خارج البرلمان، وسيصبح لها وزنها من هنا فصاعداً داخل قبة البرلمان، وعلى رأس هذه الشخصيات مارين لوبان التي تدخل البرلمان بعد نجاحها بنسبة مرتفعة في دائرتها الانتخابية وتتصدر كتلة حزبها التي تضم 89 نائباً، حيث تمكن حزبها مضاعفة عدد نوابه 15 مرة، وتجاوز السقف المطلوب لتشكيل كتلة في الجمعية الوطنية (البرلمان)، في سابقة منذ أكثر من 35 عاماً.

ولهذا جاءت تصريحات لوبان -التي واجهت ماكرون في الدورة الحاسمة من الانتخابات الرئاسية- تصب في خانة الأخذ بالثأر بعد سنوات من “التهميش” السياسي في رأيها، وبرهنت على أنها استطاعت أن تفرض الأمر الواقع من خلال سنوات من النضال السياسي.

واليوم تتبجّح بأن الكتلة البرلمانية التي حصل عليها التجمع الوطني هي الأكثر عدداً بفارق كبير في تاريخ عائلتنا السياسية، وبأنها تمثل أقوى حزب معارضة في البرلمان، لأن كلاً من اليسار وائتلاف “معا” المؤيد للرئيس ماكرون يمثلان كتل أحزاب، وتعهدت لوبان بممارسة معارضة حازمة ومسؤولة وتحترم المؤسسات.

في السياق نفسه، أشاد الرئيس بالوكالة للتجمع الوطني جوردان بارديلا بالنتيجة التي حققها حزبه، الأحد الماضي، في الانتخابات التشريعية الفرنسية، معتبراً أنها “تسونامي”، وقال بارديلا، في تصريح إعلامي: إنها موجة زرقاء في كل أنحاء البلاد (في إشارة إلى شعار حزبه)، وأضاف أن الشعب الفرنسي جعل ماكرون رئيس أقلية.

كتلة اليسار وتحدي الحفاظ على التماسك الداخلي

من جهته، حصل “الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد اليساري” على 131 مقعداً، ليكون أكبر كتلة معارضة في الجمعية الوطنية، ومعلوم أن هذا الاتحاد عبارة عن ائتلاف بين مجموعة أحزاب يسارية من الاشتراكيين والشيوعيين والمدافعين عن حماية البيئة، الإشكال بالنسبة لهذه الكتلة وجود تجاذبات سياسية بين مختلف تياراتها ومكوناتها، ومن بين التحديات المطروحة عليها التماسك الداخلي، في ظل غياب القاطرة التي قادت الكتلة إلى الفوز في البرلمان أي زعيم المعارضة اليسارية في فرنسا جان لوك ميلنشون الذي قرر عدم الترشح للبرلمان ظناً منه أنه سيفوز بمنصب رئاسة الحكومة، واليوم أصبح مناضلاً سياسياً معارضاً دون أن تكون له القيادة الفعلية للكتلة المعارضة، حيث تم رفض مقترحه ببقاء اليسار كتلة موحدة داخل البرلمان خاصة في التصويت على مشاريع القوانين المعروضة على المؤسسة التشريعية.

وهذا يعني أنه ومنذ الأيام الأولى بدأت تظهر علامات استفهام حول مستقبل هذه الكتلة، وأن الذي جمعها بالدرجة الأولى هو منع الرئيس ماكرون من الحصول على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية، أما الرؤى المتعلقة ببرنامج الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية فليس حولها إجماع بالضرورة. 

ولعل في تصريحات ميلنشون بعد الانتخابات خير دليل على أن همه الأكبر هو البرهنة على فشل الرئيس ماكرون، واعتبر أن خسارة ائتلاف ماكرون الأغلبية هو قبل كل شيء فشل انتخابي للرئيس الفرنسي ولما أسماه بـ”الماكرونية”، وقال ميلنشون، بعد النتيجة المخيبة لماكرون في الانتخابات التشريعية التي ستعقّد مهمته الرئاسية: إنه وضع غير متوقع بالكامل وغير مسبوق تماماً، إن هزيمة الحزب الرئاسي كاملة وليست هناك أي أغلبية.

تشرذم سياسي

وتبين أن محور الصراع في الانتخابات التشريعية الأخيرة دار حول مسألة الأغلبية المطلقة التي حرص الرئيس ماكرون بكل قواه على الفوز بها من أجل تمرير مشروعه الاقتصادي والاجتماعي، بيد أن قوى المعارضة الممثلة لنسبة من الرأي العام الفرنسي نزلت بثقلها من أجل منع ماكرون من الفوز بهذا الرهان.

وأمام حالة التشرذم على مستوى التركيبة السياسية الجديدة، يجد الرئيس ماكرون نفسه في وضع لا يُحسد عليه، فهو لا يتمتع بالأغلبية المطلقة التي تخول له الحكم بأريحية، والسؤال: كيف سيتمكن ماكرون من الحكم في ظل مشهد سياسي مشرذم؟ إن عدم التمتع بالأغلبية المطلقة لا يعني العجز التام، فهناك دول ومنظمات ومؤسسات أخرى تعيش نفس الوضع مثل البرلمان الأوروبي من حيث التعددية دون وجود أغلبية لأي طرف، ولكن مثل هذا الوضع يحتاج إلى حوكمة رشيدة وإلى ثقافة تجاوز العقلية الحزبية من أجل المصلحة العامة، وهو أمر غير متجذّر في الثقافة السياسية الفرنسية.

وبالتالي، فإن الإشكال أمام الرئيس ماكرون أنه مضطر إلى البحث عن تحالفات صعبة لبلوغ الأغلبية، إذ يحتاج إلى 44 صوتاً إضافة إلى أصوات نواب كتلته للمصادقة على أي مشروع قانون، وهي عملية شاقة في ظل التوازنات الحالية وفي ظل محدودية هامش التحالفات، خاصة وأن حزب “الجمهوريون” ممثلاً لليمين الديغولي –وهو الحزب الأقرب سياسياً وأيديولوجياً لحزب اليمين الوسط لماكرون- قرر الوقوف في صف المعارضة، ورغم أنه خسر مكانته كأكبر كتلة معارضة في المجلس، فإنه حريص على أن يقوم بدور حاسم في البرلمان الجديد، دور الحَكَم بين ائتلاف الحزب الحاكم من اليمين الوسط والمعارضة الشرسة (يمين متطرف ويسار)، موظفاً موقعه في البرلمان (61 نائباً) للمساومة والضغط من أجل تنازل الرئيس عند مطالبه ورؤاه.

تحالفات صعبة

ثم إن الحزب الحاكم علاوة على التراجع العام في الانتخابات الأخيرة فقد خسر وجوهاً سياسية وازنة على رأسها كريستوف كاستينار، رئيس كتلة الحزب الحاكم في البرلمان ووزير داخلية سابق، وكذلك ريشار فارّان رئيس البرلمان السابق، علاوة على 3 وزراء في الحكومة خسروا المعركة الانتخابية وهم مطالبون بالتالي بترك مناصبهم في الحكومة.

وهذا يعني تغييرات في الحكومة، وبقي القرار معلقاً بشأن رئيسة الحكومة إليزابيث بورن التي فازت بفارق بسيط، وهي بالتالي في وضع صعب في ظل غياب الأغلبية المطلقة، وقد بدأت الضغوط على الرئيس لتغيير رئيسة الحكومة، في هذا السياق، تنوي كتلة اليسار طرح لائحة لوم بداية شهر يوليو لإسقاط الحكومة الحالية، وهذا يعني بداية المتاعب للرئيس ماكرون من أجل تحديد خياراته في رفع التحدّي أو التنازل عند رغبة المعارضة، وعقب نتائج الانتخابات صرّحت رئيسة الحكومة إليزابيث بورن بقولها: سنعمل اعتباراً من الغد لتشكيل أغلبية برلمانية، مشيرة إلى أنه لا توجد بدائل سوى العمل معاً من أجل تحقيق الاستقرار، في نفس الوقت؛ نبّهت إلى أن نتيجة الانتخابات البرلمانية تمثل خطراً على البلاد، وفي أول تعليق لها على نتائج الانتخابات البرلمانية، قالت المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية أوليفيا غريغوار: إن الحكومة ستتواصل مع جميع الأحزاب المعتدلة لإيجاد أغلبية في البرلمان، بعد أن فقد الرئيس ماكرون الأغلبية المطلقة بعد الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الأحد، وأضافت: نتواصل مع الذين يريدون دفع البلاد إلى الأمام.

مستقبل الحياة السياسية مفتوح على كل الاحتمالات

والسؤال: من هم هؤلاء الذين سيضعون اليد مع اليد مع كتلة الحزب الحاكم في ظل معارضة شرسة تريد أن تسجل حضورها بقوة في البرلمان، وأن تثأر بشكل أو آخر من سياسة الرئيس ماكرون التي تعتبرها سبباً في تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

فكل الأطراف السياسية خارج كتلة الائتلاف الحاكم تتحدث عن “المعارضة البناءة” بحسب الموقف الرسمي من كل ملف، ومصطلح المعارضة البناءة يحتمل الشيء وضده؛ وهو ما يجعل مستقبل الحياة السياسية مفتوحاً على كل الاحتمالات، من التوافق والتفاهم إلى الصراع الذي قد يؤدي إلى شل المؤسسة التشريعية واللجوء إلى حل البرلمان وإعادة الانتخابات، وهذا يعني أن الأسابيع والأشهر القادمة ستكون حبلى بالأحداث على الساحة الفرنسية سياسياً واجتماعياً.

Exit mobile version