أجواء ترقب لنتائج جولة انتخابية تشريعية حاسمة ستضع سياسة ماكرون على المحك

 

يُتوقع أن تكون الجولة الثانية للانتخابات البرلمانية في فرنسا، الأحد 19 يونيو الجاري، حاسمة، حيث ستغير المشهد السياسي في هذا البلد ذي الوزن الإستراتيجي في العالم، وستضع سياسة الرئيس ماكرون على المحك، والسبب هو صعود قوى سياسية جديدة معارضة لفلسفة الحكم التي انتهجها الرئيس ومنتقدة بشدة لبرنامجه الاقتصادي والاجتماعي، وتدخل اليوم إلى البرلمان بكتل وازنة وتشكل عقبة أمام الرئيس وكتلته للحصول على الأغلبية المريحة في المؤسسة التشريعية.

صعود كتلة اليسار غيرت المشهد السياسي

ومنذ انتخابه لولاية رئاسية ثانية، يدرك ماكرون أن هذه الأخيرة لن تكون كسابقتها لسبب بسيط؛ وهو أن لاعباً ثالثاً دخل على الخط وأحدث تحولاً جذرياً في المشهد السياسي، وهو اللاعب ليس سوى كتلة اليسار بزعامة ميلنشون، فإلى وقت قريب، كان الرئيس الفرنسي يراهن دائماً على الحس الشعبي الرافض في نسبة كبرى منه لخطاب اليمين المتطرف، وهو ما جعله يفوز مرتين بالمنصب الأعلى في سدة الحكم.

لكن خلال السنوات الأخيرة، استطاع اليسار أن يستفيد من أخطاء خصومه من الطرفين:

الطرف الأول: ويتمثل في اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان، وإيريك زمّور، وهناك تخوف حقيقي لدى نسبة مهمة من الرأي العام من إدخال البلد في توترات وحرب أهلية بسبب خطاب الكراهية والعنصرية لليمين المتطرف ضد المهاجرين، وكذلك –وهذا هو الجديد مصدر التخوف- ضد المكوّن الإسلامي داخل المجتمع عبر التخويف من “أسلمة المجتمع عبر الضغط المستمر في فرض النمط الإسلامي وتهديد الهوية المسيحية”، والحال أن قناعة بدأت تترسخ تدريجياً عنوانها عدم السقوط في فخ التعميم، وأن الأقلية المسلمة في عمومها مندمجة إيجابياً في المجتمع ولا تطالب بشيء سوى الاحترام والمساواة وندية التعامل بين مختلف الأديان.

اليسار يستفيد من أخطاء خصومه

في المقابل، يمثل الطرف الثاني ممثلاً في اليمين الوسط خصماً لليسار من خلال الأخطاء السياسية التي وقع فيها الرئيس ماكرون التي أضعفت شعبيته وأعطت دافعاً للمعارضة اليسارية، ومن أهمها الحفاظ على مصالح مجموعات الضغط (اللوبيات) القوية على حساب الفئات الوسطى والضعيفة في المجتمع، والشعور بعدم التوزيع العادل للثروة، وللعلم فإن نسبة الفقر تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في فرنسا، وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن 14% من السكان يعيشون تحت خط الفقر المالي المقدر بـ1102 يورو في الشهر، وبالطبع يبرر الرئيس الفرنسي هذا الوضع الاقتصادي الاجتماعي بأزمة كورونا وتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية وارتفاع نسبة التضخم وأخيراً الحرب على أوكرانيا، إلا أن خصومه وخاصة من اليسار يصفونه بأنه “رئيس الأغنياء”، ولا تهمه مصلحة الفئة الضعيفة في المجتمع، وقد تابع العالم أزمة “السترات الصفراء” في فرنسا التي أخذت منحى تصاعدياً لولا أزمة كورونا وسياسة الحجر الصحي.

ومن أخطاء الرئيس السياسية أيضاً -التي وظفها اليسار لصالحه- ملف ما سماه ماكرون  بـ”الانفصالية”، وما صحبه من إجراءات تضييق أمنية وإدارية على المكوّن الإسلامي وخاصة الجمعيات والمساجد، وقد أحدثت هذه السياسة امتعاضاً شديداً لدى المسلمين ولدى شخصيات وأطراف حزبية وحقوقية، واستطاع ميلنشون، زعيم حزب “فرنسا الأبية”، توظيف الشعور بالغبن لدى المسلمين ليتحول إلى محامٍ يدافع عن حقوقهم بشراسة، وهو يدرك أن كل موقف إعلامي سيكسبه أصوات عديدة، وهو ما تم بالفعل حيث صوّت له المسلمون بنسبة 70% في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، بينما كانت مراهنة الرئيس ماكرون على أصوات المتعاطفين مع اليمين المتطرف، ولم يحسب حساباً للوعي السياسي المتصاعد لدى الفئة الشبابية من المسلمين.

اليمين الجمهوري ودور الحَكَم

وفي الحصيلة، فإن اليسار استفاد من أخطاء خصومه من اليمين بشقيه الوسط والمتطرف ليسترجع شعبيته، في مرحلة أولى في سياق الانتخابات الرئاسية تحت راية حزب “فرنسا الأبية”، واليوم في سياق الانتخابات التشريعية أو البرلمانية في إطار كتلة يسارية “الاتحاد الشعبي والإيكولوجي والاجتماعي الجديد”، وكل ذلك تحت زعامة ميلنشون الذي يتحدى ماكرون في خطاباته ومداخلاته الإعلامية وخلال حملته الانتخابية، بل وصف خطاب ماكرون على مدرج المطار قبل  سفره إلى رومانيا وأوكرانيا بـ”المسرحية الفكاهية على نمط ترمب”، وهي إشارة تدل على طبيعة حدة الصراع بين الرجلين وصعوبة التعايش بينهما في صورة فوز ميلنشون بمنصب وزير أول أو رئيس حكومة، وهو أمر مستبعد في ظل موازين القوى الحالية.

في هذا السياق، يعوّل ماكرون -من أجل توسيع هامش حركته في القرار السياسي- على حلفائه من اليمين الجمهوري الخط الديغولي، الذين تراجعوا في السنوات الأخيرة ولكنهم استرجعوا نوعاً من الوزن في الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية، وأصبحت لهم القدرة على القيام بدور الحَكَم في التوازنات السياسية داخل قبة البرلمان من جهة قربهم أيديولوجياً وسياسياً إلى كتلة الرئيس ماكرون، بما يجعلهم يساومون هذا الأخير بالتمشي مع خطهم وبرامجهم كلما احتاج إليهم لتمرير مشاريعه وبرنامجه الاقتصادي والسياسي.

ولاية رئاسية ثانية صعبة أمام ماكرون

ثم إن ماكرون استبق الأحداث من خلال تنظيم زيارة رسمية بين جولتين انتخابيتين إلى شرق أوروبا لكل من رومانيا ومولدافيا وأوكرانيا، وذلك لأول مرة بعد قرابة 4 أشهر من الهجوم الروسي على أوكرانيا، وقبل أيام من نهاية مدة رئاسة فرنسا لمجلس الاتحاد الأوروبي (بداية يناير إلى نهاية يونيو 2022)، وهو بذلك يعزز صورته كرجل دولة كبرى يقوم بدور مهم في حماية الكيان الأوروبي، والرسالة واضحة وهي أن مثل هذه السياسة الخارجية الفرنسية تحتاج إلى قيادة تمتلك قراراً قوياً تستمده من أغلبية قوية في البرلمان لكي يكون لها وزنها على المستويين الإقليمي والدولي، ولهذا شدد الرئيس ماكرون في الكثير من تصريحاته على أنه يجب ألا نضيف فوضى فرنسية إلى الفوضى العالمية حالياً، مشيراً إلى مخاطر عدم حصوله على أغلبية مريحة للحكم خلال ولايته الرئاسية الثانية.

زخم جديد في الحياة السياسية

من خلال ما تقدم، تتبين الرهانات الكبرى على مستوى الحياة السياسية الفرنسية في المرحلة المقبلة، وللتذكير فإن الرأي العام مقسّم بين من يرى ضرورة توفير أغلبية مريحة لرئيس الدولة حتى ينجز مشاريعه وبرامجه، ومن يرى ضرورة إيجاد توازنات عن طريق التعايش السياسي بين اليمين واليسار في الحكومة المقبلة. 

وكل الأنظار تتطلع إلى نتائج الجولة الثانية للانتخابات البرلمانية التي ستفرز لا محالة مشهداً سياسياً جديداً عنوانه البحث عن التحالفات والتوازنات في ظل صراع سياسي شرس بين الكتلة الحاكمة والكتلة المعارضة، وداخل تيارات كل كتلة، ولكن هذا المشهد سيكون الأكثر ترجمة للتنوع السياسي الذي تمثله الساحة الفرنسية بمختلف مكوناتها، ومن هذا الجانب، ستحدث هذه الحركية (الدينامية) زخماً جديداً في اللعبة الديمقراطية التي تحتاجها فرنسا للتعافي من الرتابة السياسية.

Exit mobile version