الانتخابات التشريعية الفرنسية.. هل تحصل المفاجأة؟

 

تكتسي الانتخابات التشريعية في فرنسا أهمية بالغة، حيث تمثل محطة مفصلية في الحياة السياسية الفرنسية وصفتها المعارضة بـ”الجولة الثالثة” بعد جولتي الانتخابات الرئاسية في أبريل الماضي، وستكون المؤشر على التوجهات المستقبلية كما يريدها الرأي العام التي ستكشفها نتائج هذا الاستفتاء الشعبي، والسؤال: هل ستحصل المفاجأة بفوز كتلة اليسار كمنافس لكتلة الرئيس الفرنسي ماكرون، وبالتالي الدخول في مرحلة من التعايش السياسي الصعب بين اليمين واليسار؛ أي بين الرئيس ماكرون، وزعيم جبهة اليسار ميلنشون؟

جولة ثالثة

وتأتي هذه الانتخابات بعد أقل من شهرين من الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية، يوم الأحد 24 أبريل الماضي، التي أفرزت 3 أقطاب أو كتل، وهي للتذكير الكتلة الملتفة حول الرئيس ماكرون تحت اسم “معاً” أو “مع بعض”، وتمثل أساساً حزبه “الجمهورية إلى الأمام” وشخصيات من وسط اليمين، ثم تكتل أقصى اليمين ممثلاً أساساً في حزب “التجمع الوطني” بزعامة لوبان، وحزب “الاسترداد” بزعامة زمّور، المرشح الذي اختار لحملته شعار “المستحيل ليس فرنسياً”، إلى جانب شخصيات سياسية من داخل الحزب اليميني التقليدي التي جنحت في السنوات الأخيرة إلى اليمين المتطرف تماهياً مع موجة الشعبوية المتصاعدة، وقد حصل تيار اليمين المتطرف على نسبة 41%، وهي النسبة الأفضل لليمين المتطرف في فرنسا منذ عام 1958 تاريخ إقامة الجمهورية الخامسة في هذا البلد التي دشنها الرئيس شارل ديغول، أما الكتلة الثالثة فهي قطب اليسار تحت مسمى “الاتحاد الشعبي والإيكولوجي والاجتماعي الجديد”، ويضم تيارات عديدة من بينها الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وأحزاب حماية البيئة القريبة من اليسار، إلا أن جان ليك ميلنشون، زعيم حزب “فرنسا الأبيّة”، ممثلاً لأقصى اليسار، أحدث مفاجأة في الجولة الأولى للانتخابات بحصوله على المرتبة الثالثة بنسبة عالية (22%)، وصوَّت له المسلمون بنسبة 70%.

وانتهت المعركة الانتخابية الرئاسية بالحسم لفائدة الرئيس ماكرون الذي انتخب لولاية خماسية ثانية، لكن مع التأكيد على أن انتخابه بنسبة 58.55% من الأصوات (مقابل 41.45% لمنافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان) لا يعكس شعبية كبيرة ولا تبنّياً واسعاً لبرنامجه، وإنما لسد الطريق أمام إمكانية صعود مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان إلى سدة الحكم.

ماكرون يبحث عن أغلبية مطلقة

والآن وقد مرت أزمة الانتخابات الرئاسية، بقي التحدي أمام الرئيس ماكرون هو كسب الأغلبية البرلمانية، وهي النتيجة التي يراهن عليها لتمرير برامجه، والإشكال المطروح في حالتين أحلاهما مرّ؛ سيناريو أول وهو الفوز بأغلبية ضعيفة، ويعني ذلك أن ماكرون سيجد أمامه كتلة معارضة شرسة لا تهادن وتضع عراقيل جمة أمام تطبيق برامجه الاقتصادية والاجتماعية، وسيناريو ثان وهو عدم الحصول على الأغلبية ووجود منافسة قوية بين كتلته وكتلتي المعارضة من اليمين المتطرف واليسار.

ومن أجل استباق الأحداث، قام ماكرون خلال جولته الانتخابية بالتهجم على ما سماه فوضى تيارات التطرف من اليمين واليسار، وقال ماكرون، في حديثه عن برنامجه الأمني: إن تنفيذ المشروع الذي دافعت عنه خلال الحملة الرئاسية يتطلب أغلبية قوية وواضحة في الجمعية الوطنية (البرلمان)، أغلبية يجب أن تعكس في بعض الأحيان الاختلافات، ولكن يجب أن تسمح بأن يكون هذا المشروع نافذاً، وتوجه إلى الناخبين بقوله: أريد أن أنبه الفرنسيين إلى أهمية الاختيار المطروح عليهم اعتبارًا من 12 يونيو، فإذا كان انتخاب رئيس الجمهورية أمراً مهماً، فإن انتخاب النواب أمر حاسم.

وتعبيراً عن تخوفه من مخاطر الامتناع عن التصويت قال: إن مصير فرنسا والحياة اليومية للجميع يعتمد أيضاً على التوازنات التي ستتشكل في الجمعية الوطنية، وفي محاولة لتهويل خطر الخصوم السياسيين “المتطرفين” في نظره، تابع بقوله: في مواجهة هذا السياق المتّسم بعدم اليقين، يقترح المتطرفون اليوم إضافة أزمة إلى الأزمة من خلال العودة إلى الخيارات التاريخية الكبرى لأمتنا، مشيراً إلى بعض مواقف المعارضة من الحرب في أوكرانيا ومن حلف شمال الأطلسي.

وشدد على أن ما يقترحه أقصى اليمين واليسار المتطرف بشكل أساسي هو العودة إلى كل ما سمح لفرنسا بأن تكون أقوى وأن تصمد أمام أزمات الماضي.

التخوف من سيناريو التعايش بين اليسار واليمين

وصرح قائلاً: لا شيء أخطر من إضافة فوضى في فرنسا إلى الفوضى العالمية التي يقترحها المتطرفون، وأضاف: في هذه الفترة الدقيقة، تحتاج فرنسا، ليس إلى تحالفات ظرفية على المواقع وليس إلى التضحية بالأفكار من أجل المناصب، وليس إلى اعتبار أخذ الأمور ببساطة نوعاً من المغامرة، ولكن تحتاج إلى التماسك والكفاءة والثقة.

ومثل هذه التصريحات تعتبر على المحطة الانتخابية التشريعية ذات أهمية من حيث رهاناتها، حيث اشتد خلالها الاستقطاب السياسي، وكلما اقترب موعد هذه الانتخابات، تراجع التخوف من منافسة كتلة اليمين المتطرف لكتلة ماكرون مقابل تصاعد المخاوف الحقيقية من كتلة ميلنشون اليسارية.

الإشكال بالنسبة للرئيس ماكرون أنه سيجد نفسه أمام تحدي التعايش مع ميلنشون الذي لم ينفك يردد: انتخبوا كتلتي لأكون “الوزير الأول”، وهي التسمية المستعملة لرئيس الحكومة في فرنسا، وهو السيناريو المزعج للرئيس ماكرون؛ لأنه يدرك أن المشكلة ليست في التفاوت في البرامج فحسب، وإنما أيضاً في الاختلاف في الطباع الشخصية بينه وبين ميلنشون، رئيس حزب “فرنسا الأبية”، الذي لم يكتف بالحصول على المرتبة الثالثة في الانتخابات الرئاسية فحسب، بل تمكن أيضاً من تجميع قوى اليسار من اشتراكيين وحماة الطبيعة وشيوعيين وغيرهم حوله في كتلة منافسة لكتلة ماكرون خلال الانتخابات التشريعية الحالية، وهو شخصية سياسية مؤثرة (كاريزماتية) يُعرف بصراحته الشديدة وقدرته على رفع تحدي المنافسة السياسية.

فهل ستحصل المفاجأة وينتصر في “الجولة الثالثة”؟ كل ذلك مرهون بنسبة المشاركة في هذه الانتخابات البرلمانية، والحال أن الرأي العام مقسّم بين من يرى ضرورة توفير أغلبية مريحة لرئيس الدولة حتى ينجز مشاريعه وبرامجه، وبين من يرى ضرورة إيجاد توازنات عن طريق التعايش السياسي بين اليمين واليسار في الحكومة المقبلة.

Exit mobile version