100 يوم من الحرب على أوكرانيا تكشف نزعة نرجسية ومكيافيلية وضعف استثمار المقدرات

 

مرّت على الحرب في أوكرانيا أكثر من مائة يوم كافية لفهم ملامح هذه الحرب ومعالمها، ولعل أهمها ما يتعلق بشخصية الرئيس الروسي بوتين خاصة من جانب أحادية قرار الحرب، وظاهرة الحرب بالوكالة التي تعتمدها المنظومة الغربية مع الحليف الأوكراني وأزمة الغذاء العالمية وعلاقتها بضعف ثقافة الارتفاق الكوني.

“حرب بوتين” أو نرجسية الزعامة

تعليقاً على الحرب في أوكرانيا، تتكرر عبارة “حرب بوتين”، وفي ذلك دلالة على قرار بهذه الخطورة يمتلكه شخص على رأس دولة كبرى نووية، بمعنى أن البشرية لم تتعافَ من مخاطر الأحادية في القرارات المصيرية التي تذكر بتيارات الفاشية والنازية والستالينية والزعامات التي تبنت هذه الأيديولوجيات المدمرة لكل أشكال التحضر البشري.

وواضح أن وراء هذه الأحادية شخصيات متسمة بالنرجسية وحب الذات علاوة على الأيديولوجية الشمولية التوسعية، وهو ما يمكن استنتاجه من سياسة بوتين خلال الحروب التي خاضها في العديد من المناطق في آسيا وأوروبا، وكل ذلك في سياق إبراز العظمة والقوة والغطرسة والحنين إلى عهد الاتحاد السوفييتي والشيوعية الدولية، وحتى وإن تراجعت المنظومة الأيديولوجية الشيوعية، فإن ذلك لم يمنع بوتين من السعي حثيثاً إلى إحياء المنظومة السوفييتية على أساس عرقي وتجميع السوفييت تحت راية واحدة ثم التمدد الجغرافي على حساب سيادة الدول والشعوب الأخرى.

أوروبا تبحث عن حل يقوم على معادلة صعبة بين إظهار التحالف مع أوكرانيا وعدم التصادم مع روسيا

وتلتقي النزعة النرجسية للزعامة مع نزعة مكيافيلية التي يمكن تلخيصها في عبارة “الغاية تبرر الوسيلة”،  والمكيافيلية تنسب إلى الكاتب نيكولو مكيافيلي (1469-1527) صاحب الكتاب الشهير “الأمير” الذي عاش في عصر النهضة الإيطالية وقدم نصائح للقيادات السياسية لتحقيق غاياتها مهما كانت الوسيلة، ولهذا لم يتورع بوتين عن استخدام أسلحة متطورة في هجومه على أوكرانيا، والتخوف من اللجوء إلى السلاح النووي في حال الشعور بالهزيمة أو لفرض الأمر الواقع ولو بالقوة.

لكن هناك نرجسية من نوع آخر وهي ليست فردية وإنما جماعية أو تحملها كتلة معينة تعتقد في نفسها أنها مصدر الحريات والتقدم في العالم؛ وهي المنظومة الغربية التي تقف اليوم صفاً واحداً أمام خصمها الروسي التي تريد أن تحمّله كل وزر مآسي العالم من أزمة غذائية وغيرها، حتى تظهر بمظهر النقاوة ونظافة الأيدي، ولهذا يوظف الخصم الروسي نفس الاتهامات ليضعها في خانة الغرب ولسان حاله يقول: “لا تتناسوا المآسي التي تسببتم فيها من استعمار البلاد وحروب مدمرة في العراق وأفغانستان، وامتصاص لخيرات الشعوب وسند للأنظمة الاستبدادية”، لكن المتضرر الأكبر هي أوروبا باعتبارها الطرف الذي تدور الحرب على أراضيه في الجهة الشرقية.

أوروبا بين ابتزازين.. أوكراني وأمريكي

تقف أوروبا اليوم بين ابتزازين؛ ابتزاز من القيادة الأوكرانية التي توظف منذ بداية الحرب تحالف المنظومة الغربية معها للضغط على دول الاتحاد الأوروبي وعلى الولايات المتحدة من أجل مساعدتها ودعمها بكل الأشكال في صراعها المسلح مع روسيا، فلم تترك القيادة الأوكرانية فرصة إلا ووضعت الطرف الغربي بل الأممي في وضع المُطالَب بأداء نوع من “الدَّيْن” لفائدة أوكرانيا المظلومة، ولذا فإن كل المطالب مشروعة في نظر الرئيس الأوكراني زيلينسكي وحكومته، فهناك الدعم العسكري والدعم المالي والدعم السياسي.

على مستوى الدعم المادي، وصل الأمر أن أوكرانيا طلبت، في أبريل الماضي، مساعدة مالية خيالية من دول مجموعة السبع بمبلغ 50 مليار دولار بحجة  أن الأضرار التي سببتها الحرب في أوكرانيا تقدر بنحو 100 مليار دولار، حسب تقييمات أولية، وأن كييف تحتاج 7 مليارات يورو شهرياً لدفع المستحقات الاجتماعية ورواتب الموظفين، وهذه المساعدة المطلوبة يفوق حجمها ثلاثة أضعاف ميزانية أوكرانيا، أما على مستوى الدعم العسكري، فإن القيادة الأوكرانية ما انفكت تخوف من تداعيات انهزام كييف في معركتها مع روسيا، وأن بوتين لن يتوقف عند أوكرانيا وأن أوروبا مهددة.

وأمام هذا التهديد، سارعت كل من فلندا والسويد إلى العدول عن حيادهما بطلب الانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) بحثاً عن الغطاء العسكري الأمريكي أساساً، ولذا فإن الحل يتمثل، حسب القيادة الأوكرانية، في طلب دعم عسكري بأسلحة متطورة جداً، وجاء في تصريحات زيلينسكي الأخيرة: “إن وضعنا سيكون خطيراً إذا خسرنا معركة دونباس”.

وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تشدد على توفير القدرات لأوكرانيا لمساعدتها على الدفاع عن أراضيها، فإن الوضع بالنسبة لأوروبا يختلف من حيث تفاوت الإمكانات بينها وبين الولايات المتحدة، وهي تدرك محدودية إمكاناتها المادية والعسكرية، وأن المساعدة المتواصلة هي نوع من الاستنزاف، لذا فهي تبحث عن حل يقوم على معادلة صعبة بين إظهار التحالف مع أوكرانيا وعدم التصادم مع روسيا بوتين هذه القوة العسكرية الساعية لإحياء منظومة الاتحاد السوفييتي، وبالتالي العمل والسعي الجاد من أجل تجنب حرب باردة جديدة على الأراضي الأوروبية.

غياب الإستراتيجية الحكيمة لتوظيف المقدرات الكونية ضيع فرص النماء والتطور والاستقلالية عبر تأمين الغذاء المطلوب

الحرب بالوكالة

في هذا السياق، تأتي تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الداعية إلى عدم إذلال روسيا وترك مجال أمام الدبلوماسية لحل الأزمة الأوكرانية، حيث قال: “يجب علينا ألا نذل روسيا حتى نتمكن في اليوم الذي يتوقف فيه القتال من بناء منحدر للخروج بالطرق الدبلوماسية، أنا مقتنع بأن دور فرنسا هو أن نكون قوة وسيطة”، وأضاف: “أعتقد أن بوتين يرتكب خطأ تاريخيًا وأساسيًا لشعبه، لنفسه وللتاريخ”، ومعلوم أن الرئيس الفرنسي لم يزر إلى اليوم أوكرانيا، والحال أنه رئيس الاتحاد الأوروبي في دورته الحالية، لكنه قال: إنه منفتح على هذا الاحتمال، وجاء رد الفعل على لسان القيادة الأوكرانية حيث صرح وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا بأن “الدعوات لتجنب إذلال روسيا لن تؤدي إلا إلى إذلال فرنسا وكل الدول الأخرى التي قد تطالب بذلك، لأن روسيا هي التي تهين نفسها، وكلنا نركز بشكل أفضل على كيفية وضع روسيا في مكانها، هذا سيجلب السلام وينقذ الأرواح”، من جهته، انتقد زيلينسكي دخول الغرب بمفاوضات مع روسيا وشدد على وجوب أن تتم هذه المفاوضات وجهاً لوجه مع بوتين.

وعليه، فإنه من وجهة نظر القيادة الأوكرانية فإن الطرف الأوروبي عليه تقديم المساعدة المادية والعسكرية والامتناع عن الحلول الدبلوماسية مع روسيا بوتين.

من جانب آخر، على أوروبا أن تكون رهن الإشارة الأمريكية وتساير الخطة الأمريكية في صراعها مع خصمها بوتين، وتقوم هذه الخطة على التصدي للهجوم العسكري الروسي عن طريق الحرب بالوكالة، فيكون دور الولايات المتحدة أساساً وحلفائها بدرجة ثانية الدعم اللوجيستي عسكريًا لأوكرانيا كما تقوم بتدريب القوات الأوكرانية، وتتولى هذه الأخيرة مهمة التصدي للزحف الروسي وتشكيل الدرع الواقية للمنظومة الغربية، وهو الدور نفسه التي قامت به إيران في عهد الشاه خلال الحرب الباردة للتصدي للزحف الشيوعي السوفييتي، والنتيجة أن أوروبا تجد نفسها تحت الضغط الأمريكي مدفوعة إلى سياسة تصعيدية مع بوتين عن طريق سلسلة من القرارات الصعبة والمكلفة خاصة ما يتعلق بمصادر الطاقة (النفط والغاز)، وفي الوقت نفسه فهي واقعة تحت ضغط الابتزاز الأوكراني عن طريق طلبات المساعدة التي لا نهاية لها.

ضعف في “الارتفاق الكوني”

اللافت للنظر أن الحرب في أوكرانيا وضعت العالم، حسب ملاحظين ومنظمات دولية، على أبواب أزمة غذائية عالمية، ويتبادل الطرفان الاتهام بالمسؤولية عن هذه الأزمة.

فهذا مفوض السياسة الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي بوريل يصرح بأن الأزمة الغذائية هي من تداعيات حرب روسيا على أوكرانيا ونتيجة التدمير والمنع والنهب، ويشدد على أن روسيا تمنع تصدير القمح والأسمدة الأوكرانية وتحرق الكثير من مخزونها في أوكرانيا كما تستخدم روسيا الغذاء كسلاح.

تركيا قوة صاعدة يتزايد دورها كوسيط له وزنه في الصراعات الدولية

في حين يرى بوتين أن هناك محاولات لإلقاء اللوم على روسيا في المشكلات بسوق الغذاء العالمية، بينما قرار أمريكا طبع نقود أدى إلى زيادة أسعار الغذاء والأسمدة عالمياً الذي لا علاقة له بالعمليات العسكرية في أوكرانيا، وأكد أن الوضع المزعج في سوق الغذاء العالمية مرتبط بالسياسة الأوروبية قصيرة النظر في مجال الطاقة، حيث إن أوروبا بالغت في أهمية مصادر الطاقة البديلة، ويقدّر أن الوضع سيزداد سوءاً بفعل العقوبات على إنتاجنا من الأسمدة، حيث إن العقوبات الجديدة على روسيا لن تؤدي إلا إلى تفاقم الوضع في الأسواق العالمية.      

والسؤال: هل يُعقل أن بلدين هما روسيا وأوكرانيا يمتلكان مفتاح الغذاء للبشرية اليوم؟ أين إسهام بقية القارات وخاصة القارتين الأفريقية والآسيوية في الأمن الغذائي؟ بل إن أفريقيا وحدها قادرة على تأمين نسبة عالية من الغذاء لما تمتلكه من أراض خصبة، وتكفي الإشارة إلى أن السودان يسمى “مطمورة العرب”، وقس على ذلك العديد من البلاد في أوروبا وآسيا، ولكن أين الإشكال؟

يبدو أن جوهر المشكلة يتمثل في نقص ثقافة “الارتفاق الكوني” كما يسميه د. عبدالمجيد النجار، في كتابه “مشاريع الإشهاد الحضاري” أو “المشاريع النهضوية”، ويعني بهذا المصطلح حسن الاستفادة من المقدرات الكونية المسخّرة للإنسان عن طريق الاستزراع والتصنيع والتعمير، وما يتطلبه قبل ذلك من استكشاف علمي لقوانين الكون. 

وفي غياب الإستراتيجية الحكيمة لتوظيف هذه المقدرات، يصبح المضمون التعميري للمشاريع المطروحة للإصلاح على قدر كبير من الضعف، وتضيع فرص النماء والتطور والاستقلالية عبر تأمين الغذاء المطلوب، والنتيجة الالتجاء إلى الموارد الأساسية والارتهان للسوق العالمية التي تشهد تقلبات وهو ما أفرزته اليوم الحرب في أوكرانيا، وبالتالي أصبح الهاجس الأول في العالم هو تأمين الأمن الغذائي.

وكان وزير خارجية إيطاليا دي مياو صرح بقوله: “ستكون الأسابيع القليلة المقبلة حاسمة في حل أزمة الوضع الحالي، نتوقع إشارات واضحة وملموسة من روسيا لأن منع تصدير القمح يعني احتجاز ملايين الأطفال والنساء والرجال كرهائن والحكم على الملايين من الأطفال والنساء والرجال بالإعدام”، في هذا السياق، جاءت زيارة وزير خارجية روسيا إلى تركيا لبحث مسألة الممرات المائية الآمنة للقيام بنقل عبر البحر الأسود حوالي 20 مليون طن من الحبوب المتواجدة في موانئ أوديسا وغيرها بأوكرانيا منعت الحرب من وصولها إلى عدة شعوب.  

ومثلت الدبلوماسية التركية في تعاملها مع أزمة الحرب في أوكرانيا وتحديداً في ملف الأزمة الغذائية بداية تحول في تعامل المنظومة الغربية مع الطرف التركي الذي قطع في السنوات الأخيرة أشواطاً من التقدم التكنولوجي ومن النهضة والإصلاح والترجمة العملية لمصطلح الارتفاق الكوني المشار إليه أعلاه، بشكل يجعل من تركيا أردوغان قوة صاعدة يتزايد دورها كوسيط له وزنه في الصراعات الدولية.

Exit mobile version