على ضوء تطورات الأوضاع في شرق أوروبا والشرق الأوسط.. إلى أين يسير العالم؟

 

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا تلاها توتر الوضع في الشرق الأوسط وتحديداً في الأرض المحتلة بفلسطين، بدأ السؤال يطرح نفسه: إلى أين يسير العالم؟

تعددت القراءات الاستشرافية لمآلات الأوضاع العالمية التي غلبت عليها النظرة التشاؤمية، باعتبار أن كل المؤشرات تشير إلى تعمق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية، بما يهدد بالاتجاه إلى مسار التصعيد والتوتر والانفجار.

والأرجح أن تتم المراوحة بين مساري التصعيد والانفراج، والسعي قدر الإمكان إلى تجنب اندلاع حرب عالمية ثالثة تأتي على الأخضر واليابس.

عالم المفارقات والتناقضات

“أنا مشمئز ومتعب، متى، حبّاً بالله، سنقف بوجه لوبي الأسلحة؟”، بهذه الكلمات توجه بايدن في خطاب ألقاه من البيت الأبيض بعد الجريمة التي نفذها شاب عمره 18 سنة وأسفرت عن مقتل 21 شخصاً بينهم 19 طفلاً في ولاية تكساس بالولايات المتحدة.

هذه عينة من المفارقات والتناقضات التي يعانيها عالمنا اليوم، حيث نجد قوى كبرى نووية تفرض هيمنتها على الشعوب في الوقت الذي ينخر فيه العنف والجريمة مجتمعات هذه القوى من الداخل.

في السياق نفسه، ما نشاهده من تناقض بين الشعارات التي ترفعها هذه القوى مثل احترام الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان في الوقت الذي تتصاعد داخل مجتمعات هذه القوى موجة الشعبوية العنصرية تجاه كل ما يعتبر أجنبياً أو مختلفاً ثقافياً ودينياً.

قوى كبرى نووية تفرض هيمنتها على الشعوب في وقت ينخر العنف والجريمة مجتمعات هذه القوى من الداخل

وقس على ذلك إشكالية هيمنة 5 دول كبرى على “حق النقض” في مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة.

والنتيجة، اضطربت المعايير في الحكم على الأحداث والتعامل معها بحسب موافقتها أو معارضتها لمصالح هذه القوى، وأصبح الحديث عن القيم الكونية مجرد نظريات لا وجود لها في ظل واقع اليوم الذي يشهد توترات وصراعات أبرزها الحرب الروسية على أوكرانيا والتهديدات التي تستهدف المسجد الأقصى في القدس الشريف.

ازدواجية المعايير

ويمكن الإشارة إلى أن العنصر المشترك بين الأزمة في أوكرانيا والأزمة في الشرق الأوسط هو الدور الغربي في الأزمة باعتبار الغرب الخصم الإستراتيجي لروسيا والحليف الإستراتيجي للكيان الصهيوني، فالمنظومة الغربية تجد نفسها أمام لحظة تاريخية بين المبادئ والمصالح.

ولعل في تصريح رئيس وزراء اليونان بقوله: “تجاهلنا أعمال روسيا في سورية وضمها شبه جزيرة القرم والآن أدركنا أننا كنا مخطئين في ذلك” الكثير من الدلالات، فبالرغم من أن بوتين يمثل خصماً في نظر الغرب، فقد تم التغاضي عن سياسته التدميرية في سورية، والنتيجة الآلاف من الضحايا وملايين المشردين من الشعب السوري وتكريس استبداد النظام وإجهاض حق هذا الشعب في العيش بحرية وكرامة، كل ذلك من أجل أن ينتقم بوتين من هزيمة “الجيش الأحمر” في أفغانستان وتكون له قدم في الشرق الأوسط لإثبات هيمنته كقوة كبرى في العالم، وتكرر السيناريو في الشيشان وفي جزيرة القرم التي تم ضمها إلى روسيا بعد أن كانت تابعة لأوكرانيا.

اللافت للنظر أن كل هذه المظالم التي قامت بها روسيا في عهد بوتين استهدفت شعوباً مسلمة مثل أفغانستان وسورية والشيشان، أو مناطق ذات حضور مكثف للمسلمين كما هو الحال بالنسبة لجزيرة القرم التي تضم منذ عهود مضت نسبة مهمة من المسلمين من أصل تتري، ولكن ما إن استهدف بوتين أوكرانيا “الأوروبية المسيحية” وتعقدت فصول الحرب وزادت مخاوف التهديد لأوروبا، تصاعدت نبرة الخطاب الرسمي الأوروبي الغربي، فهذه تصريحات المستشار الألماني في مؤتمر دافوس تشدد على أن “الرد القوي والواضح على الانتهاكات الصارخة التي ترتكبها روسيا مهم للغاية، ذلك أن روسيا تحاول تأمين أهميتها من خلال القوة العسكرية ولذلك عواقب وخيمة نشهدها اليوم”، كما أن القوى الغربية رحبت بطلب كل من فنلندا والسويد الانضمام لحلف الشمال الأطلسي (ناتو) والتخلي عن حيادهما، وتم دعم هذا الطلب بقوة لأن له ما يبرره وهو “التخوف من السياسة العدوانية الروسية”.

انتهاك المقدسات بشكل استفزازي

في الجانب الآخر، لا يمر يوم دون أن تقوم سلطة الاحتلال باضطهاد الفلسطينيين بل الاعتداء على مقدساتهم (تعنيف المصلين داخل المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، والترخيص لمسيرة الأعلام الاستفزازية نحو المسجد الأقصى التي شارك فيها أكثر من 50 ألف مستوطن يدعون جهرة لهدم قبة الصخرة تأكيداً لسيادة “دولة إسرائيل” على القدس المحتلة إرضاء لليمين المتطرف).

والجديد في التطورات بالأرض المحتلة بفلسطين الانتهاك السافر لحرمة المقدسات بشكل استفزازي على مرأى ومسمع العالم، فها هو رئيس الوزراء الصهيوني نفتالي بينيت يتعهد، في اجتماع حكومته، بأن القدس لن تقسّم أبداً، ويصرح بأن رفع علم الكيان الصهيوني بالقدس أمر طبيعي ويعطي الضوء الأخضر لقوات الاحتلال بغلق المسجد القبلي ومحاصرة المعتكفين داخله لتأمين اقتحام المستوطنين صحبة عضو الكنيست المتطرف إيتمار بن غفير، والذين قاموا برفع العلم الصهيوني بشكل جماعي داخل المسجد الأقصى وأداء صلوات تلمودية بحماية شرطة الاحتلال التي قمعت في المقابل مسيرة ترفع الأعلام الفلسطينية في شارع صلاح الدين بالقدس المحتلة.

الأزمات تحمل في طياتها بصيص أمل بضرورة التحرك من أجل فرض موازين قوى جديدة

في الجانب الآخر، تردّ الرئاسة الفلسطينية على بينيت بالقول: إن القدس بمقدساتها ليست للبيع، والسلام لن يكون بأي ثمن، ويصرح رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية بأن المقاومة ستواصل طريقها حتى اجتثاث الاحتلال عن أرض فلسطين.

وبالرغم من تدنيس المقدسات بشكل استفزازي، فإن الإدانة كانت ضعيفة مقارنة بحجم الإدانة والتنديد باغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة التي تحمل الجنسية الأمريكية إلى حد وقوف أعضاء الكونغرس الأمريكي دقيقة صمت على اغتيالها، الأمر الذي يؤكد ازدواجية المعايير في التعامل مع الأحداث المتعلقة بالعالم الإسلامي.

ملامح النظام العالمي الجديد

إزاء التحولات الكبرى التي يشهدها العالم اليوم، بدأت تتصاعد الأصوات المطالبة بنظام عالمي جديد، ولكن ما أسس هذا النظام الجديد؟ وهنا تبرز مقاربتان إحداهما تسعى إلى الإبقاء على الخطوط العريضة للنظام الحالي مع بعض التعديلات، والثانية تعمل على إحداث تغييرات جوهرية عليه.

وتندرج في سياق المقاربة الأولى تصريحات مسؤولين غربيين بعد الحرب على أوكرانيا تتمحور حول الاستقطاب الأمريكي الصيني.

وجاء في خطاب وزير الخارجية الأمريكي بلينكن الذي رسم الخطوط العريضة لنهج الولايات المتحدة تجاه الصين قوله: “سنظل مركزين على أخطر تحد للنظام الدولي الذي تفرضه الصين حتى مع استمرار حرب بوتين، ذلك أن الصين هي الدولة الوحيدة التي لديها نية لإعادة تشكيل النظام الدولي”، وواضح أن الولايات المتحدة همها الوحيد أو الأكبر تحجيم دور الصين المتعاظم؛ لذا الحل الوحيد أمامها هو الحفاظ على “شعرة معاوية” مع الصين، ويتم التأكيد في الأوساط الأمريكية على أنه لم يطرأ أي تغيير على التزام الولايات المتحدة بسياسة صين واحدة، وأن واشنطن مستعدة للعمل مع الصين في مجالات لا تتعارض فيها مصالح البلدين، وتدير المنافسة مع الصين بالحفاظ على خطوط اتصال على مستوى رئيسي البلدين، مع التشديد على أنه لدى الولايات المتحدة إستراتيجية تمكنها من المضي قدماً في منافسة طويلة الأمد مع الصين.

من جانبه، صرّح المستشار الألماني بأن الولايات المتحدة ستبقى عاملاً مهيمناً في العالم، والصين لاعباً عالمياً، وينبغي عدم عزل الصين وعدم قبول الهيمنة في آسيا أو التغاضي عن الانتهاكات في شينجيانغ، في الوقت الذي يدعو فيه إلى “عولمة مستدامة ومرنة تستخدم الموارد بطريقة منصفة”، وتعزيز التعاون الدولي والعمل في إطار التعددية الدولية إزاء تحولات يشهدها النظام العالمي مثل ظهور قوى طموحة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تنتهز فرص العولمة في نظره، مشدداً على أن “التحدي أمامنا هو خلق نظام يؤدي إلى تفاعل القوى المختلفة من أجل مصلحة الجميع”، وهنا مربط الفرس.

هل هناك إرادة حقيقية للتفاعل على أساس الندّية أم أن عقلية الاستعلاء تبقى هي المهيمنة؟ فالقوى الصاعدة شرقاً وغرباً ومنها الهند وتركيا والأرجنتين ونيجيريا وجنوب أفريقيا تطالب بأكبر عدل ومساواة في السياسة الدولية والتخلي عن هيمنة الكبار على صنع القرار الدولي كما هي الحال في مسألة حق النقض والعضوية الدائمة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وغيرها من القضايا الحيوية مثل التوزيع العادل للقاحات ضد الأوبئة.

الحرب الجرثومية وسلاح الجوع

ذلك أنه في انتظار ولادة نظام عالمي جديد أكثر عدالة ومساواة، تبقى المعضلة الكبرى متمثلة في استهداف الشعوب في قوتها وصحتها، وهما من المسائل الحيوية وذات الأولوية لعامة الناس قبل المنافسات والصراعات الدولية والحسابات السياسية المصلحية، وهناك شعور لدى هذه الشعوب بأنها رهينة مجموعات ضغط كبرى (لوبيات) تتحكم في مصيرها بل في صناعة القرار الدولي من أجل خدمة مصالحها المادية الضيقة دون الالتفاف إلى التداعيات السلبية بل الخطيرة على حياة الناس ونمط عيشهم.

فبعد أن حبس العالم أنفاسه في ظل موجة جائحة كورونا التي خلفت مئات بل آلاف الضحايا، وما إن بدأ العالم يتنفس الصعداء وبدأت مؤشرات إيجابية في التغلب على هذا الوباء القاتل، أصبح الهاجس اليوم هو الخوف من انتشار مرض جديد هو “جدري القرود”، إلى حد التساؤل: هل ينهار العالم بالأمراض لا السلاح النووي؟ وصدرت تقارير تشكك في الروايات السائدة بشأن هذه الأوبئة: انتقالها بصفة طبيعية من الحيوان إلى الإنسان، أم أن انتشارها هو “بفعل فاعل” في سياق حرب جرثومية مخطط لها، وبالتالي، يدخل العالم في دوامة جديدة من التوتر.

علاوة على معضلة جديدة بعد حرب أوكرانيا تتمثل في أزمة الغذاء قادمة، حيث صرحت مديرة منظمة التجارة الدولية بأن “العالم سيشهد تحديات كثيرة بشأن التجارة والغذاء، وعلى القادة اتخاذ إجراءات ونرجو أن يتم تخفيف القيود المفروضة على صادرات القمح، وإذا لم نتصرف بسرعة وبجدية بشأن أزمة غذاء متوقعة فالوقت قد ينفد منا”.

العالم يشهد مخاضاً يقود إلى مسار تصعيد وتوتر ينذر بالانفجار

وهنا أيضاً تدخل الحسابات السياسية حيث يقدّر بلينكن بأن الغزو الروسي غير المبرر لأوكرانيا سيدفع 40 مليون شخص إلى الفقر المدقع، وسيتسبب بانعدام الأمن الغذائي، محملاً المسؤولية كاملة إلى الطرف الروسي في استخدام سلاح الجوع، ويعتبر المستشار الألماني أنه “قد تكون الحرب في أوكرانيا بعيدة عن بعض البلدان، ولكن الجوع الوشيك ليس بعيداً عنها”، وبمثل هذه التصريحات التي تخوف من أزمة غذاء عالمية، يتم التبرير لسلسلة العقوبات التي يتخذها الغرب والاتحاد الأوروبي تحديداً ضد سياسة بوتين الهجومية على أوروبا، كما يتم وضع شماعة أزمة التضخم على طرف معين وتحميله مآسي العالم باستخدام أساليب الحرب الباردة والدعاية الإعلامية.

“أخلقة” السياسة

من خلال ما تقدم وفي ظل تطورات الأوضاع في شرق أوروبا وفي الشرق الأوسط، وتداعيات جائحة كورونا، يتبين أن العالم يشهد مخاضاً يقود إلى مسار تصعيد وتوتر ينذر بالانفجار نتيجة تعنت القوى الكبرى في سياسة الاستعلاء والهيمنة، وفي الواقع، فإن هذا المسار يدفع إلى التحرك دبلوماسياً في اتجاه التوصل إلى انفراج ولو كان هشاً تجنباً لتكرار سيناريو الحرب العالمية.

بالتزامن مع الجهود الدبلوماسية لفك الارتباط والاشتباك، تصاعدت الأصوات المطالبة بأخلقة السياسة، بمعنى المصالحة بين السياسية والأخلاق وعدم التضحية بالمبادئ والقيم لكسب المصالح الاقتصادية والنفعية.

والسؤال: هل ستتمكن قوى المجتمع المدني بكل أطيافها (شعبية ونخبوية ودينية وعلمانية، في إطار نسيج جمعياتي أو مستقلة) من الضغط على صناع القرار في العالم من أجل تحكيم العقل والمصلحة العامة ومراجعة إستراتيجيتهم والتخلي عن سياسة الهروب إلى الأمام ونزعة الاستعلاء والهيمنة؟

الأمر ليس مستحيلاً، فإرادة الشعوب لا تُقهَر طال الزمن أو قصر، ولعل أزمة تلوث البيئة خير مثال على ذلك، حيث إن حملات الدفاع عن الطبيعة نتيجة الوعي الشعبي والمدني المتصاعد أصبحت تقض مضاجع القيادات السياسية في اتجاه البحث عن حل جذري.

فالأزمات تحمل في طياتها بصيص أمل في وعي شعبي ونخبوي بضرورة التحرك من أجل فرض موازين قوى جديدة تدفع نحو تكريس مبدأ التنافس والحوار الحضاري وتوريث عالم أفضل للأجيال القادمة.

Exit mobile version