وترجل فارس المنبر

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

فمما لا شك فيه أن العلماء والدعاة والمصلحين ورثة الأنبياء ومصابيح الدجى ومنارات الهدى، يبصرون الناس في أمور دينهم، ويعلمونهم الحلال والحرام، ويذكرونهم بحق الله عليهم، ويحثونهم على التمسك بالتوحيد والسنة ومحاسن الأخلاق والعفاف والفضيلة، وموتهم بلاء كبير ورزية عظيمة؛ لما لهم من أثر عظيم وكبير في المجتمع، لكنها سنة الله الجارية والماضية في عباده، لا مفر ولا مهرب منها..

لعمرك ما الرزية فقْد دار *** ولا شاة تموت ولا بعير

ولكن الرزية فقْدُ حر *** يموت بموته خلق كثير

وقد فجعنا قبل ثلاثة أيام بوفاة فضيلة الشيخ الداعية المربي أحمد القطان رحمه الله، فارس المنبر وشيخ الخطباء، الذي قضى عمره، وأفنى حياته في الدعوة إلى الله؛ فقد كان -رحمه الله- من أبرز وأشهر الخطباء في الوطن العربي في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية؛ حيث اشتهر -رحمة الله عليه- بخطبه المؤثرة التي كانت تلامس هموم الأمة وهموم المجتمع وهموم الناس؛ فقد قضى حياته في الدعوة إلى الله من خلال الخطب والمحاضرات والدروس في المساجد وفي المدراس وفي الجامعات، وقد كان -رحمة الله عليه- يزور الناس في أماكن تجمعاتهم في الدواوين والمخيمات ويعظهم ويذكرهم بالله .

وقد كان له -بفضل الله- قبول وحب واحترام عند جميع الناس وعند جميع طبقات المجتمع؛ وذلك لأنه كان يسير على منهج إسلامي وسطي ومعتدل يمثل سماحة الإسلام ووسطيته، بعيد عن التطرف والغلو الديني، وبعيد عن الجمود والتشنج والإقصاء.

ومن أسباب محبة الناس لفضيلة الشيح أحمد القطان -رحمه الله- هو ما تميز به من حسن الخلق من التواضع والبشاشة والكلمة الطيبة والرفق واللين، والنزول للناس وملاطفتهم والتبسط معهم ومعايشته همومهم؛ فقد كان -رحمه الله- يخالط الناس ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم ويزورهم في مجالسهم الخاصة .

خطيب منبر الدفاع عن الأقصى

وقد كان الشيخ أحمد القطان -رحمه الله- من أوائل من تكلم ودافع عن إخواننا في فلسطين وعن القدس وعن المسجد الأقصى؛ فقد تبنى قضية الدفاع عن المسجد الأقصى وفضح اليهود المحتلين الغاصبين، وأسس منبر الدفاع عن الأقصى في مسجده، وأعلن عنه منذ عام ١٩٧٩م، فاشتهر بـ”خطيب منبر الدفاع عن الأقصى”.

وقد كان له العديد من الخطب في الدفاع عن فلسطين والمسجد الأقصى ودعم الانتفاضات الفلسطينية ضد اليهود المغتصبين، التي من أبرزها الانتفاضة الأولى عام ١٩٧٨م والتي سميت “انتفاضة الحجارة”، وكذلك الانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠م التي سميت “انتفاضة الأقصى”، وقد كان -رحمه الله- لآخر أيامه يحث على نصرة فلسطين ويحذر من التطبيع مع اليهود المغتصبين .

وللشيخ أحمد القطان رحمه الله خطب كثيرة في الدفاع عن قضايا الأمة والدفاع عن المسلمين، صدع فيها بالحق، وتكلم فيها بما يمليه عليه دينه بلا مجاملة أو مداهنة لأحد، والتي من أشهرها خطبة جدار الصامتين عام ١٩٨٢م، التي فضح وعرى فيها النظام البعثي المجرم الذي ارتكب مجزرة دموية ووحشية مروعة في حق أهل حماة، وقصف أهلها بالطيران والمدافع والأسلحة الثقيلة، والتي راح ضحيتها ٤٠ ألف إنسان مسلم، أغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن، وهذه الخطبة كانت من أشهر خطب الشيخ أحمد القطان رحمه الله، وقد انتشرت في جميع العالم الإسلامي؛ حيث لفت فيها أنظار العالم لما حصل لأهل حماة من مجازر دموية ووحشية، والتي فضح فيها النظام البعثي المجرم في جميع العالم .

وقد سخر الشيخ أحمد القطان -رحمه الله- منبره ودروسه ومحاضراته في تعليم الناس أمور دينهم وتصحيح عقائدهم وعباداتهم وحثهم على التمسك بالسنة وبمحاسن الأخلاق وفضائل الأعمال، ووعظهم وتذكيرهم بحق الله عليهم، حتى بلغت دروسه ومحاضراته أكثر من ٥٠٠ شريط، وبعد تقاعده عن العمل الحكومي تفرغ الشيخ -رحمة الله عليه- للدعوة؛ فكان يزور الجامعات والمدارس لإلقاء المحاضرات والدروس؛ لتوعية الشباب وحثهم على الدين والأخلاق والفضيلة.

وبعد خمسين عاماً قضاها في الدعوة إلى الله، وفي الدفاع عن الإسلام والمسلمين وفي الدفاع عن المسجد الأقصى، ترجل فارس المنبر وشيخ الخطباء وخطيب منبر الدفاع عن المسجد الأقصى، ولكن ما زال ذكره وفضله وأثره باقياً بين الناس، وقد بكاه الصغير والكبير، وما زالت ألسنة محبيه تلهج له بالدعاء بالرحمة والمغفرة، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ قال: “أنتم شهداء الله في أرضه، من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة”.

نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يغفر للشيخ أحمد القطان ويرحمه ويتجاوز عنه، وأن يسكنه فسيح جناته وأن يرفع درجته في عليين، وأن يجعل ما قدم من علم ودعوة في ميزان حسناته، وأن يجمعنا الله وإياه في مستقر رحمته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يلهم أهله وطلبته ومحبيه الصبر.. فلله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، وإنا لله وإنا إليه راجعون ..

Exit mobile version