هل أيقظ اغتيال “شيرين أبو عاقلة” الضمير العالمي تجاه فلسطين؟

لم تحدث جنازة بهذه المهابة في القدس منذ جنازة الحسيني”.. بهذه الكلمات جاءت بعض التعليقات على جنازة الصحفية شيرين أبو عاقلة يوم الجمعة 13 مايو، التي تابعها -علاوة على آلاف المشيعين في القدس- ملايين المشاهدين على القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي.

وتكررت عبارات الإدانة لعملية الاغتيال والغضب جراء الاعتداء الصارخ على موكب التشييع. وهناك إجماع على أن ما حصل هو تجاوز لكل الأعراف الدولية والإنسانية. وبدأت ردود الفعل تتفاعل في تصاعد لتطالب بما هو أبعد من المحاسبة في المحكمة الجنائية إلى ضرورة وضع حدّ لهذه التجاوزات غير المقبولة، والخروج بحل جدي وسريع لوقف مأساة الشعب الفلسطيني.

ولعل اغتيال شيرين أيقظ الضمير العالمي على حقيقة هول مأساة الشعب الفلسطيني، من حيث العمق في الزمن وفي الأثر؛ فهي تعود إلى عقود خلت ولم تجد لها حلا بعد؛ بل إن قضايا بالغة الأثر مثل قضية التمييز العنصري (الأبارتيد) في جنوب أفريقيا قد وجدت طريقها إلى الحل (إلى حد كبير) وتحول مانديلا من رمز للمقاومة إلى مركز القيادة في بلده الذي قطع أشواطا مهمة في القضاء على هذه المعضلة.

أما في فلسطين، فإن المأساة تعود في الواقع إلى تداعيات معاهدة سايكس بيكو عام 1916 ووعد بلفور عام 1917م، تلاهما الانتداب البريطاني الذي لم يخرج إلا بعد أن مهّد الطريق لإقامة كيان لليهود على أرض فلسطين. وتخللت ذلك أحداث قمع واضطهاد ومجازر ضد الفلسطينيين، ارتكبتها عصابات الهاجانا التي أقدمت على مجزرة دير ياسين بقيادة بيغين في أبريل 1948، بعد استشهاد عبد القادر الحسيني؛ في محاولة لتحرير مدينة القسطل، وقبيل أشهر من انسحاب الانتداب البريطاني في 14 مايو الذي مهد لقيام “دولة إسرائيل” في 15 مايو. ولم يكن تأسيسها سوى حلقة من حلقات هذه المأساة التي أدخلت منطقة ما يسمى بالشرق الأوسط في سلسلة من الصراعات والحروب والتوترات المتلاحقة.

وجاء اغتيال الصحفية القديرة والمتميزة ليكشف عورات الاحتلال؛ فلم يسلم من الاضطهاد رجل ولا امرأة ولا طفل ولا شيخ ولا حجر ولا شجر ولا مدنيين ولا إعلاميين، إلا أن اللافت للنظر هو حجم الإدانة والتنديد باغتيال الصحفية شيرين؛ وذلك لكونها وجها إعلاميا معروفا في قناة لها شهرة عالمية، حتى إنه يمكن القول بأن جيلا كاملا من العرب والفلسطينيين تشرب القضية الفلسطينية من خلال تقارير شيرين.  وهناك شبه إجماع على حِرَفِيتها في نقل الأحداث وتحاليلها. وهناك شعور عام لدى متابعي القضية الفلسطينية بخسارة أيقونة إعلامية.

ثم إن ما أثار الرأي العام ليس اغتاليها بدم بارد وهي تمارس عملها الإعلامي فحسب، وإنما أيضا -وهو الأدهى- الاعتداء على موكب تشييع الجنازة دون احترام لحرمة الميت، علما بأن الاعتداء على مئات المصلين في مكان له قدسية خاصة بالنسبة للمسلمين (المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين) خلال شهر رمضان والدعوة اليوم لهدم قبة الصخرة لم يُقابلا بنفس الإدانة. وهذا يؤكد ازدواجية المعايير في التعامل مع الأحداث المتعلقة بالعالم الإسلامي. ولعل ما أعطى لحدث الاغتيال بعدا خاصا أن الصحفية شيرين تحمل الجنسية الأمريكية، وهو ما يفسر ردود أفعال غير معهودة من أعلى السلط الأمريكية والغربية (مثال دقيقة صمت في الكونجرس الأمريكي..).

حقيقة التعايش المسيحي الإسلامي

إن اغتيال شيرين -إضافة إلى كونه أيقظ الضمير العالمي على حقيقة هول مأساة الشعب الفلسطيني- فهو قد نبّه أيضا إلى مسألة دقيقة جدا، بقيت مغمورة تتمثل في مدى تغلغل ثقافة التسامح الديني والتعايش بين مسيحيي ومسلمي الشرق.  وتجلى ذلك من خلال موجة التعاطف الكبرى مع هذا الحدث الجلل من طرف المسلمين والمسيحيين في العالم ومن كل أصحاب الضمائر الحية، ومن خلال مشاهد الجنازة المهيبة التي لم تشهد مدينة القدس مثيلا لها منذ جنازة المسؤول الفلسطيني فيصل الحسيني عام 2001. بالرغم من أن سلطات الاحتلال اشترطت على أهل شيرين ألا يتجاوز عدد المشيعين 50 شخصا، ولكن أبت جموع غفيرة من المسيحيين والمسلمين إلا أن تشارك في موكب الجنازة حتى المقبرة. ولأول مرة تدق نواقيس كنائس القدس مجتمعة في مشهد مهيب، ولم يعترض أو يحتج مسلم على ذلك.

وجاء حادث اغتيال شيرين ليفنّد ما يُروَّج له في بعض الدوائر الغربية من وجود اضطهاد للأقليات المسيحية في الشرق على يد المسلمين؛ حيث تعمل هذه الدوائر على توظيف بعض الخطابات أو السلوكيات لأفراد وجماعات متطرفة لا تمثل الإسلام من أجل تعميمها وتشويه صورة التعايش السلمي بين مكونات المجتمع بغض النظر عن الانتماءات الدينية والعرقية. وقد أثبت المسار التاريخي الإسلامي أن الأقليات -خاصة من أهل الكتاب- كانوا محل احترام وتقدير. وهاتان القيمتان كانتا السمت العام للمجتمع الإسلامي منذ تشكله في مجتمع المدينة، ثم في عهد الخلافة الراشدة ثم العهود اللاحقة الأموي فالعباسي فالعثماني.. 

فهذا السمت من الموروثات الثقافية المتغلغلة في ثقافة شعوب المنطقة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان الطبيب الخاص للخليفة المسلم مسيحيا في العديد من الحالات، حيث اشتهر المسيحيون بالطب. والأمثلة عديدة على التعايش بين المسلمين وأهل الكتاب.

وإذا حصل بعض الانحراف في هذا السمت العام، فإن ذلك يعود في جانب منه إلى إفساد طبائع البعض نتيجة سلسلة الأحقاد والفتنة التي بُثت في المجتمعات الإسلامية في إطار سياسة “فرق تسد”، ومحاولة تكريس عقلية التكبر والاستعلاء على الآخرين من منطلق ديني أو مذهبي. وتوظيف الأقليات وإعطائها امتيازات دينية وسياسية كما حصل في لبنان؛ ما أشعل حربا أهلية في البلاد خلال السبعينات أتت على الأخضر واليابس. واليوم نسمع عبارات من قبيل أن الأقباط في مصر يعانون اضطهادا من الأغلبية المسلمة. ونفس الشيء يقال عن مسيحيي العراق والشام. وفي الواقع هناك توظيف لخطابات وسلوكيات أفراد يحملون الفكر المتشدد ومحاولة تعميمها على عموم المسلمين من أجل تشويه أسلوب التعامل الحضاري بين مكونات المجتمع.

وعليه، تبقى الصحفية شيرين أبو عاقلة –بغض النظر عن هويتها المسيحية- أيقونة الإعلام الحر في الدفاع عن القضية الفلسطينية المركزية. والكل يعلم أن اغتيالها لا غاية له سوى إسكات هذا الصوت الحر. ولكن سيبقى هناك صوت حر ما دام هناك شعب يُقهر.  

 

 

Exit mobile version