أوروبا ومخاوف العودة إلى الحرب الباردة

 

لم تكن احتفالات هذه السنة بالذكرى الـ77 للانتصار على النازية ونهاية الحرب العالمية الثانية كسابقاتها حيث تمت في أجواء قلقة ومتوترة، بالنظر إلى ظروف الحرب على الحدود الشرقية للقارة الأوروبية، فكلما تعقدت الحرب في أوكرانيا وطالت فصولها كثرت التساؤلات عن مصير أوروبا، وعادت المخاوف من العودة إلى الحرب الباردة وأجواء الصراع بين روسيا والغرب.

أوروبا بين مطرقة الروس وسندان الأمريكيين

فقد احتفلت أوروبا في الثامن من مايو وروسيا من جانبها في التاسع من مايو بالانتصار على النازية ونهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945م بعد ست سنوات من الحرب المدمّرة التي خلّفت أكثر من 60 مليون ضحية، من بينهم نسبة من المسلمين الذين شاركوا في الحرب أو جُلبوا من المستعمرات للدفاع عن أوروبا وتحريرها من النازية.

وقد عاد الخطاب السياسي اليوم للحديث عن خطر النازية، وهو ما نجده في تصريحات الرئيس الروسي بوتين على وجه الخصوص، معتبراً القيادة الأوكرانية نازية جديدة تهدد موسكو، متهماً الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية بدعم “النازية” الأوكرانية بالسلاح، ومتهماً في نفس السياق حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالسعي إلى التمركز قريباً من الحدود الروسية، ويعتبر مثل هذه السياسة استفزازاً للجانب الروسي.

كل هذه المعطيات يوظفها بوتين لتبرير حربه على أوكرانيا التي ترغب قيادتها في الانضمام سياسياً واقتصادياً إلى المنظومة الأوروبية وعسكرياً إلى حلف شمال الأطلسي.

واليوم تقف أوروبا في مفترق طرق بين قيادة سياسية روسية تمتلك قوة مدججة بكل أنواع الأسلحة التقليدية والحديثة، ومدفوعة بأيديولوجية توسعية تقوم على الحنين إلى ماضي الإمبراطورية السوفييتية، وعلى تعصب لهوية قومية روسية، وقوة مقابلة همها توظيف نفوذها لتكريس نظام الأحادية المهيمنة عسكرياً وسياسياً وثقافياً باسم العولمة على النمط الأمريكي.

والنتيجة أن القارة الأوروبية تجد نفسها بين مطرقة الروس وسندان الأمريكيين، وهي تعيش حالة من التجاذب الوجودي بين سعيها إلى الحفاظ على نوع من الاستقلالية في القرار الأوروبي بعيداً عن الوصاية الأمريكية من جهة، ورغبتها في الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية خاصة على المستوى الاقتصادي وما يتطلبه من الإبقاء على نوع من التواصل مع الطرف الروسي لمدّه بمصادر الطاقة وبموارد غذائية حيوية من جهة ثانية، وإظهار ولائها للطرف الأمريكي وحاجتها إلى الغطاء الأمني العسكري تحت مظلة حلف شمال الأطلسي (ناتو) من جهة ثالثة.

حرص فنلندا والسويد على الانضمام إلى “الناتو” والتحفظ التركي

ولعل حرص كل من فنلندا (وعاصمتها هلسنكي) والسويد (وعاصمتها ستوكهولم) -وهما بلدان أوروبيان ينتميان إلى المجموعة الإسكندنافية- على الانضمام رسمياً إلى حلف شمال الأطلسي بعد أن كانت سياسة هذه البلاد تقوم على الحياد دليل على عدم ثقة هذين البلدين في الاتحاد الأوروبي، وثقتها أكبر في القوة العسكرية لحلف شمال الأطلسي وتحديداً المظلة الأمريكية.

وكان رئيس فنلندا قد أبلغ نظيره الروسي بخطط بلاده للانضمام إلى “الناتو”، وكان جواب بوتين أنه لا يوجد خطر على فنلندا، وأن تخليها عن الحياد سيكون خطأ، وأن تغيير سياسة هلسنكي الخارجية سيضر بالعلاقات الثنائية، وبرّر وزير خارجية فنلندا طلب الانضمام إلى “الناتو” بقوله: لدينا حدود طويلة مع روسيا (1340 كلم) ونريد الحفاظ على إبقاء الوضع آمنا فيها، ورداً على الموقف التركي المتحفظ على هذا الانضمام، أبدى وزير الخارجية الفنلندي بيكا هافيستو ثقته بإمكان التفاهم مع تركيا إثر إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “تحفظ” بلاده على انضمام هلسنكي والسويد إلى حلف شمال الأطلسي، وشدد أردوغان على أنه لا يمكن لتركيا دعم توسع الحلف المكون من 30 دولة، لأن فنلندا والسويد موطن لكثير من المنظمات الإرهابية.

وكان وزير الخارجية التركي صرح بقوله: ندعم سياسة الباب المفتوح في “الناتو”، لكن نحتاج للحديث مع حلفائنا بشأن ما يقلقنا، وتريد أنقرة التفاوض مع دول الحلف وتشديد الإجراءات على ما تعتبره أنشطة إرهابية، خاصة في ستوكهولم.

وفي تصريح لإبراهيم كالين، كبير مستشاري الرئيس التركي للسياسة الخارجية، قال: نحن لا نغلق الباب، لكننا نثير هذه القضية بشكل أساسي من باب الأمن القومي لتركيا، علماً بأن موافقة أعضاء الحلف العسكري بالإجماع شرط لانضمام أي دولة للحلف.

إنقاذ الوحدة الأوروبية عبر إصلاحات جوهرية

إن المخاوف من عودة الحرب الباردة في القارة الأوروبية تدفع قادة أوروبا اليوم للبحث عن مخرج للحفاظ على نوع من الوحدة داخل الكيان الأوروبي خشية التصدع والتآكل.

ولعل الموقف المجري برفض اتفاق الاتحاد الأوروبي بحظر النفط الروسي مؤشر على هشاشة الوضع الأوروبي.

وأمامهم التجربة المرة مع بريطانيا التي فضلت الخروج من الاتحاد الأوروبي وما لها من تداعيات سلبية على الضمير الجمعي الأوروبي، بل إن الأمر لم يتوقف عند الخروج والانسحاب، وإنما تفاعلت الأحداث وتوترت العلاقات الفرنسية البريطانية حول قضايا الهجرة غير المنظمة وحول الصيد البحري في بحر المانش لدرجة التهديد بالقطيعة بين البلدين.

في هذا السياق، دعم الرئيس الفرنسي ماكرون أمام البرلمان الأوروبي بسترازبورج، يوم 9 مايو، في أول خطاب له حول أوروبا منذ إعادة انتخابه رئيساً لفرنسا وبدء الغزو الروسي لأوكرانيا، مقترح البرلمان بمراجعة المعاهدات الأوروبية وكانت 13 من أصل الدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد قد عبرت عن معارضتها إطلاق آلية لتعديل المعاهدات، وهذه الخلافات تضعف الكيان الأوروبي، لذا جاء التفكير في إدخال إصلاحات على الاتحاد الأوروبي بما يحافظ على شيء من المرونة، ومن بينها عدم اشتراط التصويت بإجماع الأعضاء للموافقة على قرارات الاتحاد، في نفس السياق دعا ماكرون إلى إنشاء “مجموعة سياسية أوروبية” لضم أوكرانيا خصوصاً، بالتوازي مع آلية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي التي قد تستغرق عقوداً، وكان قد صرح بمناسبة اختتام المؤتمر حول مستقبل أوروبا بأن هذه المنظمة الأوروبية الجديدة ستسمح للأمم الأوروبية الديمقراطية التي تؤمن بقيمنا الأساسية، بإيجاد مساحة جديدة للتعاون السياسي وللأمن.

وواضح من تصريحات الرئيس الفرنسي ورئيس الاتحاد الأوروبي في دورته الحالية أنه يريد الدفع إلى تغيير مواثيق الاتحاد الأوروبي بشكل يدخل المرونة في شروط العضوية، وهكذا يمكن توسيع العضوية لدول متعاطفة ومساندة لفكرة الوحدة دون إلزامها أو إحراجها بالقبول بكل قرارات مجموعة الدول كاملة العضوية.

وأقرت رئيسة البرلمان الأوروبي روبرتا ميتسولا أن مؤتمر مستقبل أوروبا أظهر أن هناك فجوة بين ما يأمله الناس وما تستطيع أوروبا تقديمه في الوقت الحالي، داعية إلى عدم إضاعة المزيد من الوقت لإصلاح الاتحاد الأوروبي.

حرب استنزاف

إن الدعوة إلى الإسراع بالقيام بإصلاحات جوهرية وعدم إضاعة المزيد من الوقت، مؤشر واضح على تخوف أوروبي من تعقد الأوضاع شرق القارة الأوروبية من خلال حرب استنزاف ينتهجها الرئيس الروسي في حربه على أوكرانيا ومن ورائها الشق الغربي وتحديداً أوروبا التي ستضطر إلى إظهار التضامن المتواصل مع كييف مادياً وعسكرياً، والحال أن القارة الأوروبية لم تتعاف بعد من تداعيات جائحة كورونا وتشهد موجة تضخم صعبة.

ويدرك بوتين أن أوروبا لن تستطيع الصمود طويلاً في معركة الاستنزاف المتواصلة ضد الغرب وأوروبا تحديداً من حيث نقص موارد الطاقة والغذاء بالتزامن مع الاضطرار إلى تلبية احتياجات أوكرانيا التي تطالب قيادتها بمزيد من الدعم، وهو يدرك تمام الإدراك أن الضغط المتواصل في استنزاف أوروبا سينتهي بإحداث انشقاقات وانقسامات في الصف الأوروبي وتهديد وحدتها وتفكيكها قطعة قطعة وبالتالي تكون فريسة سهلة للاحتَواء والابتلاع شبراً بعد شبر.

وعندها يتحقق حلم بوتين بالتوسع الإمبراطوري على غرار الاتحاد السوفييتي سابقاً، ولا يعد بإمكان الأمريكيين التصدي للروس مباشرة خشية الدخول في حرب عالمية ثالثة.

الإشكال أن الصراعات في القرن الحادي والعشرين لم تعد تعتمد فحسب على الأسلحة التقليدية المعهودة في الحروب من جيوش وأسلحة واستخبارات ودعاية إعلامية، بل اتخذت أشكالاً متطورة تنذر بنتائج فتاكة على البشرية، فهناك الحرب الرقمية وهناك الحرب البيولوجية وهناك السلاح النووي وهو الأخطر.

ثم إن بوتين يوظف الخلافات الأمريكية الصينية للتخويف من وجود حلف بينه وبين قوة بيكين الصاعدة، وبالتالي ستكون أوروبا الحلقة الأضعف في هذا الصراع، خاصة مع غياب شخصيات وازنة -مثل المستشارة الألمانية السابقة ميركل- قادرة على التفاوض مع الطرفين الروسي والأمريكي، وهو ما يجعل الطرف الأوروبي يعمل ألف حساب لتداعيات الحرب على أوكرانيا، ويسعى بجدّ إلى تجنّب عودة الحرب الباردة التي تنذر بمخاطر جمة على مستقبل القارة الأوروبية.

Exit mobile version