خواطر في التعاطف مع شيرين أبو عاقلة

 

ما إن أعلن عن نبأ مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة وهي تقوم بمهمتها في تغطية أحداث العدوان الصهيوني على أرض فلسطين وأهلها، وما إن تعاطف الناس مع من قتلت غدراً وظلماً، وهو أمر تجرمه شرائع السماء وقوانين الأرض؛ حتى وجدت من يثير الزوابع فيعلن أولاً أنها غير مسلمة، ويؤكد ثانياً أنه لا يجوز لك كمسلم أن تترحم عليها، ولعله أخفى في نفسه ما شأن النساء بالعمل الصحفي وأخطاره، إن مكان المرأة بيتها.

إن إثارة المعارك وإطفاؤها أحد الفنون اللازمة للسيطرة على الآخرين، القدرة على تكوين رأي عام في مسألة أو صرف الرأي عن مسألة ما أو جزء منه ليتشتت الناس أو بعضهم، وليفقد الرأي العام قدرته على الضغط والفعالية، ومع ما يعود ذلك بالنفع على أصحاب هذا الاتجاه، إلا أننا نغرق في وهم وصراعات تفقدنا أعصابنا وقدراً من الأخلاق والوقت.

تصاغ المسألة في هذه الصراعات المفتعلة بحيث نبتعد عن الحقيقة أو عن النقاش النافع أو عن أصل المسألة، ثم ننقسم إلى معسكرات يتمترس كل منا حول ما تبناه من رأي، ولو أنه أعاد النظر أو غيَّر زاوية النظر للمسألة لغيَّر رأيه، ثم تشتد الصراعات حتى تلفنا دوامات ننسى فيها الحق وأهله وأدب الحوار، ومن ينبغي أن نتوجه له بالحب، ومن ينبغي أن نتوجه له بالعداوة.

وانساق الناس وراء هذا التيار الجارف الذي يريد أصحابه بحسن نية أو بخبث أن يخفوا أشياء، وأن يفروا من عذاب الضمير أو إيلام النفس اللوامة إن كانت ما زالت تعمل، أعتقد أنه يمكن تصوير المسألة على هذا النحو حتى لا نغرق في اللاشيء:

إن جريمة قتل تمت، وسبب القتل هو محاولة إخفاء الحقيقة، وتهديد لكل من يعمل على إيصال صوت المظلومين، وأن من يستنكر وجود امرأة في مثل هذه المواضع الخطرة عليه أن يستنكر غياب الرجال عن مواطن إظهار الحق أو تأييده أو حتى السكوت عن تأييد الباطل، إذا كانت هذه المرأة تقدم نفسها فداء لإظهار الحقيقة وتعرض نفسها لأخطار عظيمة بدافع من المهنية أو الإنسانية، فما الذي يجب على أصحاب العقائد الصحيحة الحريصين على نقائها وعدم المساومة عليها، ألا يجدر بهم أن يسابقوا إلى ميادين الشرف أو أن يدعموا من سبقهم أو يكفوا ألسنتهم عنهم حتى لا يبوؤوا بإثم كتمان صوت المظلومين وتخذيل الناس عنهم.

وهناك عدة أسئلة تتبادر إلى الذهن:

هل كون الفلسطيني صاحب قضية عادلة أمر واضح أو غامض؟

هل الوقوف مع أصحاب الحق عمل شرعي أو إنساني أم لا؟

في الوقت الذي تتعدد فيه الحسابات وتتعقد إذا وجدت من ينصرك بما يستطيع كيف تتعامل معه وما هو حقه عليك؟

نعود إلى السُّنة المطهرة لنستكشف كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع من ناصره.

إن تصوير المسألة على أنه لا يجوز أن تترحم على من لا يدين بدينك، وأنك إذا ترحمت عليه فأنت معه أينما ذهب، وأن هذه المسألة مسألة عقدية لا ينبغي التساهل فيها، وأن كل محاولة لتذويب الفوارق بين المسلمين وغيرهم هي محاولة مرفوضة تمس العقيدة وتخرج من حدود الإسلام، أمر يحتاج إلى إعادة نظر، فالرحمة بيد الله تعالى، وقد أخبرنا سبحانه وتعالى بمن يستحق رحمته، وفي شأن استحقاق أحد للرحمة أو عدم استحقاقه يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن “من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله  دخل الجنة”، فمن يستطيع أن يحدد من مات على لا إله إلا الله أو على غيرها، ولذلك اقتضت العدالة الإلهية أن الحساب بيد الله تعالى وحده، وهو جل جلاله الذي يعلم ما تخفي الصدور، ذكرت ذلك لأحد من يرون رأياً آخر، فقال: معنى ذلك أننا لا نجزم إلا بكفر عدد محدود من الناس، قلت له: وما الذي أشغلنا بإيمان الناس أو كفرهم؟! نحن نسأل الله تعالى الثبات على الإيمان، وأن يقبضنا على دينه، وأن يختم لنا بالخير، وهل تملك اليقين بأن فلاناً أو فلانة مات على الكفر أو على الإسلام، قال: هناك أحكام تترتب على الحكم بإسلام شخص من عدمه، الأحكام الظاهرة من صلاة جنازة وتقسيم ميراث وغير ذلك نجريها على من علمنا إسلامه، أما من علمنا أنه لم يدخل في الإسلام فلا نجري عليه هذه الأحكام.

نريد أن نفرق بين الترحم على الناس، وتقدير أعمالهم، أما الترحم فمع كونه من حقوق المسلم فكثيراً ما يغيب عن البعض الترحم حتى على آبائهم وأمهاتهم في الحديث الذي يجري بين الناس وبعضهم وأحسنهم حالاً من يقول المرحوم، فهل ترى يترحمون عليهم في السجود ويخصونهم بالدعاء، أم أن هذا الحق قد غاب؟ وهل حرمان غير المسلمين من الدعاء لهم بالرحمة يعني عدم تقدير أعمالهم بموازين الشريعة التي نتحاكم إليها؟

إذا عدنا للنصوص الشرعية نجد الإمام البيهقي يروي بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بن جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “لَوْ كَانَ مُطْعِمُ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ لَأَطْلَقْتُهُمْ”، يَعْنِي أُسَارَى بَدْرٍ قَالَ سُفْيَانُ: وَكَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ يَدٌ، وَكَانَ أَجْزَى النَّاسِ بِالْيَدِ. (دلائل النبوة للبيهقي).

جاء في شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية ما نصه: بين ابن شاهين من وجه آخر أن سبب تلك اليد التي كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من الطائف ودخل في جواره، وقيل: اليد أنه كان من أشد القائمين في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم والمسلمين لما حصروهم في الشعب؛ “ومنعوا عنهم الطعام وسائر ألوان التواصل”.

وروى الطبراني عن جبير بن مطعم، قال: قال المطعم بن عدي لقريش: إنكم قد فعلتم بمحمد ما فعلتم فكونوا أكف الناس عنه، وذلك بعد الهجرة، ثم مات المطعم قبل وقعة بدر وله بضع وتسعون سنة، وذكر الفاكهي بإسناد مرسل أن حسان بن ثابت رثاه لما مات مجازاة له على ما صنع مع النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.

ونقل ابن إسحاق رثاء حسان، وهو:

عيني ألا أبكي سيد الناس واسفحي        بدمع وإن أنزفته فاسكبي الدما

وبكى عظيم المشعرين كليهما                  على الناس معروفا له ما تكلما

فلو كان مجد يخلد الدهر واحداً                  من الناس أبقى مجده اليوم مطعما

أجرت رسول الله منهم فأصبحوا                عبيدك ما لبى مهل وأحرما

لو سئلت عنه معد بأسرها                        وقحطان أو باقي بقية جرهما

لقالوا هو الموفي بخفرة جاره                   وذمته يوماً إذا ما تذمما

فما تطلع الشمس المنيرة فوقهم             على مثله فيهم أعز وأعظما

وأنأى إذا يأبى وألين شيمة                       وأنوم عن جار إذا الليل أظلما

ورثاء حسان رضي الله عنه له وهو كافر لأنه تعداد المحاسن بعد الموت، ولا ريب في أن فعله مع المصطفى من أقوى المحاسن، فلا ضير في ذكره.

إن العلاقة بين المطعم بن عدي والنبي صلى الله عليه وسلم هي علاقة مساعدة قدمها المطعم للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ممثل الحق والقائم به في هذا الموقف، فهل يمكن أن نقدر من دعم الحق بجهده أو ماله أو بأغلى ما يملك مع علمه بالضريبة الثقيلة التي سيقدمها؟

وجاء في سير أعلام النبلاء: أَثْنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي العَاصِ فِي مُصَاهَرَتِهِ خَيْراً، وَقَالَ: “حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي”، وَكَانَ قَدْ وَعَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَيَبْعَثَ إِلَيْهِ بِزَيْنَبَ ابْنَتِهِ، فَوَفَى بِوَعْدِهِ، وَفَارَقَهَا مَعَ شِدَّةِ حُبِّهِ لَهَا، وَكَانَ مِنْ تُجَّارِ قُرَيْشٍ وَأُمَنَائِهِم، استحق أبو العاص بن الربيع هذا الثناء لما تحلى به من كريم الأخلاق ولم يمنعه عدم إسلامه من نيل الثناء المستحق على عمل كريم قام به.

أعتقد أن هذا هو المحك الرئيس؛ هل عدم إسلام هذه المرأة مانع من تقدير عملها في الدفاع عن المظلومين وبيان الحقيقة والثناء عليها؟ هل عدم إسلامها مانع من إدانة هذه الجريمة النكراء؟     

هل عدم إسلامها يمكن أن يصرفنا عما لحق بها من ظلم قصد به كتمان صوت الحق وإخفاء الجرائم النكراء؟

نختم هذه الكلمات بقول الحق سبحانه: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة).

Exit mobile version