دروس من الانتخابات الفرنسية.. أزمة سياسية عميقة ومؤشرات وعي لدى المسلمين

 

ما أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة التي انتهت بفوز ماكرون بولاية ثانية؟

ما معنى أن ترتفع نسبة الامتناع عن التصويت إلى 28% من الناخبين؟ وما معنى أن تفوز مرشحة اليمين المتطرف بنسبة 42% من أصوات الفرنسيين؟ وماذا يعني تراجع الأحزاب التقليدية الكبرى من اليمين واليسار وبروز قوى جديدة من أقصى اليمين وأقصى اليسار؟ وما معنى أن يصوت المسلمون بنسبة 70% لصالح ميلانشون الذي حصل على المرتبة الثالثة؟

تزايد شريحة الممتنعين عن التصويت عقوبة للسياسيين

أن يعاد انتخاب ماكرون لولاية ثانية في فرنسا دون تلمس نسبة مهمة من ناخبيه لاختياره وإنما اضطروا إلى هذا الحل من باب “أخف الضررين” ومنعاً لوصول اليمين المتطرّف إلى سدة الحكم، كل ذلك مؤشر على أزمة سياسية عميقة تعيشها فرنسا هذا البلد الأوروبي المحوري وواحد من بين الأعضاء الخمسة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

هذه الأزمة لها أوجه عديدة، من بينها النسبة المرتفعة للممتنعين عن التصويت، فقد بلغت نسبة الامتناع عن التصويت في الجولة الثانية والحاسمة 28%، وهي ثاني أعلى نسبة امتناع تشهدها جولة ثانية في تاريخ الانتخابات الفرنسية.

إلا انه يجب التفريق بين صنفين من الممتنعين عن التصويت، بين صنف زاهد في الشأن السياسي، وهذا الصنف يضم شريحة مهمّة من الرأي العام وخاصة من الشباب، ويفسر إعراضهم عن التصويت بانعدام الثقة في الطبقة السياسية سواء كانوا في السلطة أو في المعارضة، وهذا في حد ذاته يحمل رسالة مهمة مفادها أن السياسة في نظرهم ليست سوى مجرد مصالح، ودليلهم على ذلك ملفات الفساد السياسي والابتعاد عن مشاغل المواطنين وهمومهم.

أما الصنف الثاني من الممتنعين، فهم الناخبون الواعون بأن المرشّحين ليسوا في مستوى الأداء السياسي الذي يتوقون إليه، لذا فهم يفضلون الامتناع عن التصويت بقناعة، بل هم يضغطون من أجل إصلاح دستوري للاعتراف بالممتنعين وبالمصوتين بالورقة البيضاء كشريحة لها وزنها في العملية الانتخابية، وتعبر عن رأيها من خلال الامتناع عن التصويت أو الاحتفاظ بصوتها.

دعوات لجمهورية سادسة ونظام دستوري جديد

لكل هذه الأسباب، بدأت ترتفع الأصوات لمراجعة النظام الانتخابي، بل هناك من يدعو إلى إدخال تغييرات جوهرية على دستور عام 1958 المعمول به منذ عهد شارل ديغول الذي أعطى دعماً دستورياً لوظيفة الرئيس ومسؤوليات الرئاسة على حساب السلطة التشريعية المعبرة عن إرادة الشعب، والإشكال هو أنه تبين من خلال نتائج الاقتراع العام للانتخابات الرئاسية في العشريتين الأخيرتين خاصة بأن رئيس الدولة أصبح يحكم بشعبية لا تتجاوز في الحقيقة نسبة 25% من جملة أصوات الناخبين، الأمر الذي يناقض فلسفة الديمقراطية التي تقوم على سيادة الشعب وحكم الشعب بنفسه عن طريق ممثليه، علاوة على مفارقة بين ما هو مأمول من شعبية ومصداقية يكتسبها الرئيس من الشارع مباشرة عن طريق الاقتراع العام، والنتائج الواقعية التي تفرزها الانتخابات التي تعكس ضعف الشعبية التي يحصل عليها الرئيس.

بل إن النسبة التي يحصل عليها رئيس الجمهورية ليست معبرة حقيقة عن قناعة ببرامج المرشح للرئاسة بقدر ما تكون في شكل تصويت لمنع المرشح الخصم من الوصول إلى سدة الحكم وهو ما حصل منذ صعود اليمين المتطرف في فرنسا ممثلاً في شخص لوبان الأب ثم البنت، وفي كل مرة يضطر الناخبون إلى التصويت بكثافة إلى مرشح ليسوا مقتنعين به فقط من أجل سد الطريق أمام الخصم من اليمين المتطرف، وهذه المفارقة، ولهذا جاءت الدعوات لمراجعة المنظومة الانتخابية والدستورية للجمهورية الخامسة من أجل وضع حدّ لهذه المفارقة.

تصاعد موجة الشعبوية واليمين المتطرف

لم تشهد الحياة السياسية في فرنسا تحدياً مثل تحدي تصاعد موجة الشعبوية واليمين المتطرف منذ نهاية القرن العشرين، صحيح أن هذه الموجة ليست خاصة بفرنسا، بل هي منتشرة في عدة بلاد من العالم في ظل الأزمات التي أفرزها نظام العولمة وتصاعد الفوارق الاجتماعية والاقتصادية وأزمة التضخم والبطالة وتصاعد للصحوة الدينية -والإسلامية خصوصاً- ما نتج عن كل ذلك تخوفات من المستقبل ونزعة انكماشية على الهوية خاصة في بلاد ما يسمى بالشمال، والبحث عن كبش فداء لكل الأزمات وتحميل المسؤولية للآخر المغاير ثقافياً ودينياً، فظهرت حركات عنصرية تحولت إلى حملات مناهضة للوجود الإسلامي في الغرب.

في هذا السياق، برزت عائلة لوبان التي شكلت كياناً سياسياً أحدث مفاجأة عندما تمكن من طرق باب السلطة عام 2002 بفوز جون ماري لوبان الأب بنسبة 17% من الأصوات في المرتبة الثانية بعد شيراك، ومتقدماً على جوسبان، المرشح الاشتراكي، وخلفته ابنته مارين لوبان التي ترشحت في العام 2012، وفازت بنسبة 17.9% في الجولة الأولى، ثم تكرر نفس السيناريو (فوز اليمين المتطرف بالمرتبة الثانية في الجولة الأولى) في عهد ماكرون عامي 2017 و2022، حيث حصلت لوبان على 33.9% من الأصوات عام 2017، وفازت في الانتخابات الأخيرة بـ42% من الأصوات لتحدث مفاجأة أشعرت الكثير بخطر حقيقي يهدد التعايش في فرنسا، في حين وصفت لوبان حصولها على أصوات أكثر مقارنة بانتخابات العام 2017 بـ”النصر المدوي”.

وقالت لوبان: إن “النتيجة التاريخية” ستسمح لحزبها التجمع الوطني بزيادة عدد أعضائه في مجلس النواب الفرنسي، في إشارة إلى الانتخابات البرلمانية في يونيو المقبل، وتسعى لوبان إلى الفوز برئاسة كتلة المعارضة وتشكيل القوة الأولى في البرلمان لتحدث تغيراً جوهرياً في سياسة الدولة خاصة ما يتعلق بملف العلاقة مع الدين الإسلامي ومع الأجانب والمهاجرين وكذلك العلاقة مع أوروبا باسم حماية السيادة الفرنسية.

أزمة غياب البدائل السياسية وإشكالية التماهي مع الشعبوية

الإشكال أن لوبان لم تعد الطرف الوحيد الممثل لليمين المتطرف، بل ظهر من يزايد عليها بتطرف أكثر وهو حزب “الاسترداد” بزعامة زمّور الذي رشح نفسه للرئاسة الذي اختار لحملته شعار “المستحيل ليس فرنسياً”، وهي عبارة منسوبة إلى نابليون، الذي سمى حزبه “الاسترداد” نسبة لحركة الاسترداد أو إعادة الاحتلال المسيحية لطرد المسلمين من الأندلس، وقد عرف بمواقفه المتطرفة وتهجمه السافر على المسلمين والأجانب.

يضاف إلى هاذين الحزبين شخصيات سياسية من داخل الحزب اليميني التقليدي التي جنحت في السنوات الأخيرة إلى اليمين المتطرف تماهياً مع موجة الشعبوية المتصاعدة، بل إن الرئيس ماكرون نفسه انساق مع هذه الموجة من باب المصلحية النفعية البراغماتية ودعا إلى محاربة ما سماه “الانفصالية الإسلامية”.

وهو دليل على أزمة البدائل السياسية للنخبة الحاكمة المتعافية من اليمين ومن اليسار ومن الوسط، الأمر الذي فتح الباب لقوى جديدة من أقصى اليمين وأقصى اليسار.

فقد سجلت نتائج الانتخابات تراجعاً ملحوظاً للأحزاب التقليدية من الديغولية يميناً إلى الاشتراكية يساراً.

على مستوى التيار الديغولي، تراجع إلى حد أن مرشحته للرئاسيات بيكراس لم تصل إلى نسبة 5%، وتعتبر نكسة كبيرة لهذا الحزب العريق في فرنسا، وفي الواقع فإن تراجع الديغولية بدأت منذ نهاية الستينيات وخاصة بعد الأحداث الطلابية والعمالية في مايو 1968، بالرغم من محاولة شخصيات ديغولية إنقاذ الموقف ومن بين هؤلاء الرئيس الأسبق جاك شيراك الذي أعطى دفعاً جديداً للتيار الديغولي، لكن سرعان ما بدأت تظهر مؤشرات الانقسام بين قياداته وانتهى الأمر بظهور خط يميل إلى الشعبوية وإلى أطروحات اليمين المتطرف الأمر الذي أوصل الديغولية إلى الوضع الحالي من التدهور.

في الجانب الآخر، لم يكن الاشتراكيون في وضع يُحسَدون عليه، فهم أيضاً في تراجع كبير، بل اضطروا في الآونة الأخيرة إلى إمضاء اتفاق -مؤلم لكثير منهم- مع الفائز بالمرتبة الثالثة جون ليك ميلانشون ممثلاً لأقصى اليسار الذي يستعد لخوض معركة انتخابية في إطار ما سماه “الجولة الثالثة” من أجل بالفوز بمعقد رئاسة الحكومة إذا حققت كتلته “الاتحاد الشعبي” اختراقاً في نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة منافساً بذلك كلاً من كتلة ماكرون وكتلة اليمين المتطرف، وهو يعول في ذلك -إضافة إلى معارضي ماكرون، ولوبان- على أصوات المسلمين الذين ساندوه إلى حد كبير في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية.

الصوت المسلم “المرجح”

شهدت الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة نشاطاً في صفوف المسلمين وخاصة من الشباب للدعوة صراحة إلى ترشيح ميلانشون في الجولة الأولى لما عرف عنه من مواقف عادلة ومدافعة عن الأقلية المسلمة، وقد فاجأ المسلمون الملاحظين بحجم اهتمامهم بالشأن السياسي وعزمهم على توظيف صوتهم الانتخابي في ترجيح الكفة لصالح من يرون فيه الأفضل من حيث التعامل مع المسلمين، وكان أمامهم 3 مرشحين في الجولة الأولى (ماكرون، ولوبان، وميلانشون) وجل الأصوات (70%) ذهبت إلى المرشح الأخير، وكم كانت خيبة أملهم بعدم فوزه بالمرتبة الثانية (بفارق 400 ألف صوت مع لوبان التي فازت بالمرتبة الثانية)، إلا أن الأمل ما زال معقوداً على “الجولة الثالثة” في الانتخابات التشريعية في يونيو المقبل لترجيح الكفة لفائدة كتلة “الاتحاد الشعبي” التي يتزعمها ميلانشون.

ويمكن تفسير حركة الوعي السياسي لدى المسلمين بوجود جيل جديد من الشباب الذي غاضته حملات التشهير والاستهداف المتواصل في وسائل الإعلام، ولعل ضغوط موجة الشعبوية وتوظيفها سياسياً من طرف ماكرون عبر خطابه حول الانفصالية الإسلامية هو الذي أحدث رجة في الصف الإسلامي بسبب تداعيات مثل هذه السياسة من إغلاق للمساجد والتضييق على الجمعيات والمؤسسات الإسلامية وخطاب الكراهية والتهميش والإقصاء، فكان رد الفعل بتوظيف الثقل الانتخابي، ولعل هذا المعطى الجديد سيكون له ما بعده من حيث السياسة الرسمية في التعامل مع الملف الإسلامي، ولو تدريجياً على مستوى الخطاب.

وقد لوحظ أن ماكرون خلال المناظرة مع لوبان اتهم هذه الأخيرة بالتسبب في حرب أهلية في حال تنفيذ برنامجها بفرض غرامة مالية على المحجبات في الشارع، وفي ذلك دغدغدة لمشاعر المسلمين ومحاولة كسب أصواتهم، وبداية تغير في الخطاب الرسمي أمام تزايد وعي المسلمين بوزنهم الانتخابي.

Exit mobile version