تقديم النقل زينة العقل

 

من قدَّم النقل زان عقله وارتقى علمه، ومن قدَّم العقل على النص والنقل تخلف عقله، وانهار علمه، وتشتت طريقه وفكره.

قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت: 53)، وهي دليل نقاوة العقل، فما يراها إلا صاحب العقل الراقي، ويقول جل جلاله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر: 67)، ويقول سبحانه وتعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية: 13)، نعم يتفكرون بعقولهم الراقية، لو أردنا أن نحصي آيات الله في كتابه التي تبين للعقل كيفية القناعة من خلال العرض ما دام عاقلاً من الصعب إحصاؤها.

فالعقل هو أعظم تشريف بعد التوحيد شرَّف الله تعالى به الإنسان، حيث به ميزه عن بقية المخلوقات، وجعل الله تعالى هذا العقل ناقصاً بصفته مخلوقاً، وهذا النقص هو سر قوته، فمعرفة الإنسان العاقل بنقص عقله هو قمة العقل والكمال تناغماً مع النص المنقول، وهذا النقص هو الدافع الأقوى والأرقى من أجل نضال العقل للوصول إلى الأرقى وأكثر معرفة وعلوماً أو علماً.

العلاقة بين العقل والنقل علاقة انسجام “هرموني” جميل، وهو دليل رقي العقل والعقلاء، لا كما يسعى البعض ومع الأسف بتعميم التناقض والتنافر بين العلم والنقل والعقل، فالعقل والنقل انسجام رفيع بينهما لا كما يدعي الأدعياء من العلمانية المنافقة والماسونية الصهيونية وما تصنعه من تنافر بين العقل والنقل، والنقل والعلم، فالنص يأتي من خالق العقل، والعقل يمحص وينظر ويميز حينها بين النقل السليم الصحيح، وهو دليل رقي العقل وحسن اختياره، والذي قال الله تعالى فيه مبيناً أن الخيار له: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10)، فالحسن يختار الحسن، وعكس ذلك أن ينصّب العقل نفسه نداً لخالق العقل فتنبثق حينها إفرازات العقل الناقص الذي وضع نفسه نداً لخالق العقل، فتنتشر البدع والنتوء والوثنية باسم العقل والإلحاد والوثنية والشرك، وهذه ليست من الأمور المنسجمة مع الاستخلاف الذي كلف الله تعالى به آدم وذريته.

قال تعالى في كتابه العظيم: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، نعم هو خليفة في الأرض؛ فلذلك وجب أن يعقل هذا الإنسان معنى الخلافة التي كلفه بها الله تعالى، وهذه لا يصل لها وإليها الإنسان إلا إذا كان صاحب عقل مدرك بما يحمل ويعمل ويدعو له من أمور الخلافة التي استخلفه الله تعالى بها، وفي الوقت نفسه يفهم بدقة أن المخلوق يجب أن يتبع الخالق بما يوصيه عليه ويوحيه إليه! 

ليس من خلافة الإنسان في الأرض أن يعتقد أن العقل فقط هو مصدر العلوم والحقائق اليقينية، وذلك كما كان يعتقد أهل الفلسفات والحضارات السابقة مثل اليونان؛ حيث يعتقدون أن العقل وحده مصدر المعرفة العقلية، التي هي في حدود المحسوس، وأيضاً غير المحسوس ولكنه يقين، وأن العقل هو العبد والمعبود حينها، وهذا قمة احتقار الخلافة للأرض؛ لأن العقل كالبصمة، وكل عقل يختلف عن غيره، والاستخلاف يحتاج إلى أصول تلتقي بها وعليها كل العقول الحصيفة المحمودة مثل وحدة المعبود، وتوحيده الخالق وما يريده من عباده ومخلوقاته، وما على العقل إلا النظر واتباع الصحيح المنقول بلا تردد، وإلا وضع نفسه نداً للخالق، وهذا قمة احتقار العقل، ليس من العقل، بل هو عقل معيب ذاك العقل الذي يهجر النقل أو يجير النقل وتطويعه إذعاناً لهوى ومزاج العقل، والنقل نعني به كما هو معلوم النص بأمر الخالق، وفي حال ترك النقل وإذعانه للعقل وهواه ستتنوع نصوص النقل وتتداخل بين نكران وميول حسب تفسير هذا العقل لها أو ذاك! بصفتهم عقولاً تكونت رؤيتها حسب ثقافتها وتقاليدها، وكل عقل يمثل خلفيته الثقافية التي تربى ونشأ عليها لا على النقل الذي يجب أن يخضع له نقلاً وعقلاً والخضوع للنقل تعزيز ورفعة للعقل المخلوق.

وخير دليل على ما ذكرت حيث أثر الوسط والمجتمع ثقافةً وتربية على العقل، قول الله تعالى في بلقيس قبل أن تلتقي بسيدنا سليمان وتبرز رجاحة عقلها الراقي، قال سبحانه تعالى: (وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ) (النمل: 43).

النقل جاء من عند الله تعالى ولم يأتِ من عقول الإنسان المخلوق الذي كلفه الله تعالى بالاستخلاف، ولم يأت نتاج تلاقح عقول الإنسان ومن ثم النتاج دين حسب العقول وأهوائها من وثنيات وغيرها، فلذلك نقول: الأصل الانسجام الهرموني بين العقل الحصيف الكيس الفطن والنقل، وإلا عابد الفأر يعبر عن نتاج عقله، وكذلك عابد الوثن وعابد الفرج والبقر، والكل منهم يتهرطق عقلاً حينها ويتحدث عن عبادته وإلهه العقلي الوثني وذلك بسبب تخلي العقل عن النقل باسم رفعة العقل، فأركسوه في وحل الجهل والوثنية! 

العقل المخلوق حينما يضع نفسه نداً مقابل النص الإلهي المنقول لا ينتج إلا الكفر والشرك والبدع والإلحاد الدهري.

أما العقل الكيس الحصيف هو الذي يختار أحد النجدين ويحسن حينها الاختيار ومن ثم الخضوع إلى خالقه جل جلاله؛ (إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام)، إن الله تعالى خاطب العقلاء بآية عظيمة قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (الإسراء: 85)، وكما قال أحد الدعاة: إن هذه الآية فيها التحدي الدائم غير المنقطع حتى قيام الساعة، وأمر الروح لا يعلمه إلا الله تعالى، وقمة التحدي فيها للعقول بكل معارفها وعلومها وثقافاتها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

وهنا العقل يتفكر قائلاً: أسلمت لله، ويبدأ العاقل يتساءل: هل روح الإنسان الذي أمر الله الملائكة السجود له بعد نفخها هي نفس روح الحيوان؟ أم هي نفس روح الخلية؟ أو الجرثومة؟ الله أكبر! (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وانتهى، ولا يسلم لها إلا العقلاء من أهل العقل الحصيف الكيس الفطن، ويدرك حينها أن النقل أرقى وأرفع من العقل المخلوق، والعقل الكيس الحصيف حينما ينظر إلى الأمور المتعلقة بالنصوص وقدرة من أنزلها لا يملك إلا الاستسلام لها، وخير ما نذكر هنا بلقيس أيضاً، وعقلها الحصيف حينما رأت من نبي الله سليمان، ما رأت من كرم الله تعالى عليه الذي يفوق مستوى التفكير العقلي، فسلمت وأسلمت لله تعالى خالق العقل والأكوان.

Exit mobile version