فرنسا تحبس أنفاسها أمام تصاعد موجة أقصى اليمين

 

يوم الأحد 24 أبريل الساعة الثامنة مساء بتوقيت فرنسا، سيتم الإعلان رسمياً عن نتائج الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية الفرنسية، وفي انتظار هذا التوقيت تحبس فرنسا أنفاسها، إذ إن جل المراقبين يؤكدون الاختلاف الكبير بين المحطتين 2017 و2022، وأن المواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات.  

فلئن تكرر سيناريو 2017 بفوز المرشحَيْن إيمانويل ماكرون ومنافسته من أقصى اليمين مارين لوبان في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية يوم العاشر من أبريل، إلا أن محطة 2022 ليست كسابقتها من حيث الظروف الداخلية والسياق العالمي خاصة ما يتعلق بتداعيات الحرب في أوكرانيا.

تصاعد موجة الشعبوية

داخلياً، يسجل تصاعد موجة الشعبوية في فرنسا التي تجاوزت نسبة 33% واقتراب أقصى اليمين أكثر من سدة الحكم، الأمر الذي يفسر تخوف أوساط سياسية ولدى شريحة مهمة من الرأي العام داخل فرنسا وخارجها من حدوث مفاجأة صعود لوبان إلى الرئاسة في بلد أوروبي له وزنه الإستراتيجي مثل فرنسا.

وكان من أهم نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية تغير الخارطة السياسية في فرنسا بحيث تراجعت الأحزاب التقليدية بشكل لافت، في حين برزت قوى أقصى اليمين وأقصى اليسار، ومن بين 12 مرشحاً فاز في المرتبة الأولى الرئيس الحالي ماكرون بنسبة 27%، وحصل على 9560545 صوتاً، تليه مارين لوبان بنسبة 23% وحصلت على 8109857 صوتاً، يليها جان ليك ميلانشون زعيم حزب “فرنسا الأبيّة” من أقصى اليسار بنسبة 22% وحصل على 7605225 صوتاً محققاً مفاجأة بحصوله على المرتبة الثالثة بنسبة عالية.

خيبة أمل أنصار ميلانشون

ولعل هذا الفارق الضئيل بين لوبان/ وميلانشون هو الذي يفسر خيبة أمل أنصار التوجه الثالث من اليسار ومن بينهم نسبة مهمة تقدر بـ70% من الناخبين المسلمين، وكان أنصار مرشح حزب “فرنسا الأبيّة” يحلمون بمعادلة جديدة تقلب موازين القوى في الحياة السياسية الفرنسية في حال حصول ميلانشون على المرتبة الثانية بحيث تكون المنافسة في الدور الثاني بينه وبين ماكرون، بما يعني تشكل جبهة من المعارضين لسياسات ماكرون الاقتصادية والاجتماعية والغاضبين من توجهاته في مغازلة الشعبوية عبر خطاب محاربة ما سماه بـ”الانفصالية الإسلامية” وإجراءات كرّست العلاقة المتوترة مع الأقلية المسلمة،  عندها سيكون للمعركة الانتخابية طعم آخر؛ لأن شريحة مهمة من الرأي العام الفرنسي ليست مستعدة للتجديد للرئيس الفرنسي الحالي ماكرون لدورة ثانية.

ارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت

كما يسجل في الجولة الأولى للانتخابات النسبة المرتفعة للممتنعين عن التصويت، وهذا في حد ذاته يحمل رسالة مهمة مفادها أن الشأن السياسي لم يعد يهمّ شريحة مهمّة من الرأي العام بسب انعدام الثقة في الطبقة السياسية خاصة من هم في السلطة والقيادة والمقصود به أساساً الرئيس الحالي ماكرون، الكل ما زال يتذكر المظاهرات الحاشدة لـ”السترات الصفراء” احتجاجاً على غلاء المعيشة وتراجع القدرة الشرائية، كما يتذكر الجميع الوضع الهيكلي الصعب للمستشفيات والظروف القاسية التي عمل فيها الطاقم الطبي خلال جائحة كورونا في ظل تخبط السياسة الرسمية في معالجة تداعيات هذا الوباء (تأخر في أخذ إجراءات صارمة بل إقامة انتخابات بلدية في 15 مارس بالرغم من انتشار الوباء قبل أن يتم تأجيل الدورة الثانية لـ28 يونيو، ثم إجراء عملية إغلاق شامل وشل الحركة الاقتصادية ثم العودة التدريجية إلى الوضع الطبيعي ولكن بنوع من التسرع مثل فتح المدارس وغيرها من الإجراءات)، بحيث بقيت صورة ماكرون صديق الأغنياء والمدافع عن مصالحهم على حساب طبقة الضعفاء لصيقة به، بالرغم من تأكيده في عدة مناسبات من الحملة الانتخابية على الإجراءات العديدة التي قامت بها حكومته للتخفيف من وطأة غلاء المعيشة بسبب ارتفاع نسبة التضخم.

وكانت المناظرة التلفزيونية بين ماكرون، ولوبان -التي تمت الأربعاء الماضي قبل أيام من الدورة الثانية- محطة مهمة في المعركة الانتخابية بين الطرفين، حيث سعى كل من المرشحَيْن ولمدة 3 ساعات تقريباً إلى الدفاع عن برنامجه الانتخابي وإبراز عيوب برنامج خصمه، وكانت المناظرة هادئة عموماً مقارنة بمناظرة عام 2017، إلا أنها لم تخل من تهجمات وانتقادات في العمق مثل اتهام ماكرون لمنافِسَته لوبان بالتماهي مع بوتين كأنه ممول حزبها، أو التوجه نحو الخروج من كتلة الاتحاد الأوروبي بحجة الخوف على السيادة الفرنسية، أو التحريض على الحرب الأهلية بسبب تفكيرها في فرض غرامة مالية على كل محجبة في الشارع، أو الظهور بمظهر الاعتدال ومناقضة أطروحاتها في الدورة السابقة، من ناحيتها حرصت لوبان على إبراز عيوب سياسة خصمها والاكتفاء بالوعود دون الإنجاز أو فشل أدائه السياسي مستفيدة من موقعها المريح في المعارضة.

ويبقى الهاجس الأول وهو أن احتمال وصول أقصى اليمين إلى السلطة وارد، الأمر الذي يفسر تخوف الرئيس ماكرون نفسه، وقد عبر عن ذلك في العديد من المناسبات وحتى آخر اجتماع في إطار حملته الانتخابية، وهو يردد دائماً بأنه ليس هناك أمر محسوم، داعياً الناخبين المترددين أو العازفين عن التصويت إلى التعبئة الشاملة للتصويت لصالحه، وإزاء الضبابية التي تحيط بنتائج الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، تحركت العديد من الجهات للتصدي لمرشحة أقصى اليمين مع التأكيد على خطورة برنامجها الانتخابي في إحداث شرخ في المجتمع.

حظوظ ماكرون

ولعل هذا العنصر (الخوف من التسبب في حرب أهلية) سيكون محدداً في ترجيح الكفة لفائدة ماكرون إلى جانب التخوف من كون لوبان تنقصها التجربة السياسية مقارنة بخصمها الذي يعتبر رجل دولة وعارفاً بأدق المعطيات وبالرهانات والتحديات وماسكاً بالملفات الحساسة، علاوة على كون لوبان امرأة، ويبدو أن العقلية الفرنسية لم تتهيأ بعد لترشيح امرأة في سدة الحكم على عكس العقلية الألمانية، حيث حكمت أنجيلا ميركل مدة 16 عاماً في منصب المستشارة لجمهورية ألمانيا وهي من أهم بلدان أوروبا، ثم إن الغاضبين من سياسة ماكرون في ملف ما سماه بالانفصالية يأملون في تعديل خطابه في الدورة الثانية والأخيرة بالنسبة إليه انطلاقاً من القناعة بأن البراغماتية دفعته إلى تبني مثل هذا التوجه لكسب أصوات المتأثرين بالخطاب الشعبوي في ظل شعبوية متصاعدة استغلتها أحزاب أقصى اليمين (حزب “التجمع الوطني” بزعامة لوبان، وحزب “الاسترداد” بزعامة زمّور المرشح الذي اختار لحملته شعار “المستحيل ليس فرنسياً”، وهي عبارة منسوبة إلى نابليون، الذي سمى حزبه “الاسترداد” نسبة لـحركة الاسترداد أو إعادة الاحتلال المسيحية لطرد المسلمين من الأندلس)، من هذا المنطلق جاءت نداءات ودعوات صريحة لكبرى المنظمات الإسلامية في فرنسا بالتصويت لصالح ماكرون من باب التصدي لمرشحة أقصى اليمين.

وبين دعاة التصويت لصالح ماكرون للتصدي لمرشحة أقصى اليمين من باب اختيار أخف الضررين، ودعاة التصويت للوبان وإعطائها فرصة لإحداث تحول سياسي واجتماعي حسب تصورهم، ودعاة التصويت بالورقة البيضاء للتعبير عن رفض كلا المرشّحَيْن، بين هؤلاء وأولئك تحبس فرنسا أنفاسها في انتظار نتائج الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية الفرنسية.

Exit mobile version