رحلتي إلى بيت المقدس (فيديو)

 

حينما يكون الحديث في حضرة المسجد الأقصى المبارك سيعتذر اللسان عن الكلام، وسيترك الأمر للقلب يروي الحكاية التي بدأت بالدعاء بأن يرزقني الله تعالى الصلاة في المسجد الأقصى المبارك، وهذا في نظر الكثير كان محالاً رغم أن المسافة التي تبعد غزة عن مدينة القدس مجرد ساعات قليلة، ومع ذلك كانت فكرة السفر إلى المريخ أيسر لأهل غزة من الحديث بذلك؛ بسبب الاحتلال “الإسرائيلي” والقيود التي يفرضه.

لكن كان قلبي يحمل اليقين بأن الله عز وجل قادر على كل شيء، فالذي نراه مستحيلاً هو عليه هين، كما جاء في قوله بكتابه العزيز: ﴿قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ (مريم: 21).

وأذكر في عام 2015، كنت أعمل في إحدى المؤسسات الإعلامية، وكان الزمان شهر رمضان المبارك في أيامه الأخيرة حيث طلب مني تقديم أفكار عن العيد، مباشرة ابتسمت وحدثتهم عن تقارير تتعلق بمدينة القدس، وكيف يستقبل المقدسيون العيد رغم الاحتلال؟ وحدثتهم عن كعك القدس الشهير، وغيرها من المواضيع التي ترتبط بالقدس، حيث كان هذا الحديث في اليوم الخامس والعشرين من رمضان.

ونظراً لأنهم يرون أن الأمر محالاً، فكانت الإجابة هي الابتسامة، وأن أذهب لمكتبي لتقديم الأفكار المرتبطة بالعيد في غزة، ومع ذلك كنت أتكلم في ثقة وأعيد عليهم الأفكار المقدسية.

كان الفارق يوماً واحداً بين ذلك الحديث وحدوث لطف الله تعالى الخفي وإرادته القادرة على كل شيء؛ ليكون موعدي إلى القدس في يوم السابع والعشرين من رمضان مع والدتي رحمها الله تعالى.

كانت المرة الأولى لي، أسأل الله تعالى ألا تكون الأخيرة، فكان الشعور لا يوصف، فالخطوات متسارعة إلى مدينة القدس، سرعان ما جهزت الأشياء على عجالة من أمري، وغادرت مع والدتي البيت بسرعة تفوقها سرعة دقات القلب، فالشوق للقدس أكبر من أن يوصف.

وصلت إلى معبر بيت حانون (إيرز) شمالي قطاع غزة المحاصر، حيث يقف جنود الاحتلال يدققون في الأوراق ويتفحصون بك عبر نظراتهم الحاقدة وأجهزتهم الماكرة.

بفضل الله تعالى مرت الأمور بسلام، وركبت مع والدتي سيارة الأجرة، فالآن الطريق إلى القدس بات أقرب، كنت أحافظ على يقظة عيني حتى لا تغفو ثانية واحدة لأرى جمال فلسطين التي سلبها واغتصبها الاحتلال “الإسرائيلي”.

فلسطين أجمل بكثير مما يتوقعه العقل، ويزداد الجمال بطهارة أرضها وقدسيتها، وبعد ساعات قليلة أصبحت في قلب القدس، بدأت دقات القلب تزداد، وما هي إلا دقائق حتى احتضنت المسجد الأقصى.

بمجرد أن وصلت حيث بوابة الأسباط، وهي إحدى أبواب المسجد الأقصى، انتابني وجع عند رؤية جنود الاحتلال وهم يحملون أسلحتهم الحديثة ويتفحصون بدقة كل من يدخل المسجد.

حاولت المرور سريعاً حتى أعيد الأكسجين إلى أنفاسي بعد هذه الغصة التي أوجعت القلب.

كنت أسير بجوار والدتي بخطوات متسارعة، وكنت بكل خطوة أشعر أن شيئاً يحدث في قلبي، وزاد هذا الشعور حينما لمحت من مسافة قبة الصخرة المشرفة ذهبية اللون في تلك اللحظة لون وجهي تغير، ودقات قلبي أخذت بالتسارع، فالأمر أصعب بكثير أن يوصف، فأنا في أحضان المسجد الأقصى بين أشجاره وزقزقات عصافيره، وصوت التراتيل لآيات القرآن فكل شيء في ذلك المكان تشعر بقدسيته.

ستشعر بالحب والأمان، ستشعر بأشياء جديدة وأنت تسير في طرقاته، فهذا كله في المسير، فكيف الوصف حينما يكون بالسجود بصلوات الظهر والعصر.. والتراويح؟!

وكيف سيكون الوصف حينما تسند ظهرك في المصلى المرواني وأنت تتلو آيات القرآن الكريم؟! وكيف سيكون الوصف بركوعك في مسجد الصخرة المشرفة؟!

من الصعب أن أخبركم بذلك، فالأمر أعظم مما يتصوره العقل ويشعر به القلب، حيث شعرت برهبة وخوف شديدين، فالمكان عظيم، خاصة حينما أرادت أن تلمس أناملي الصخرة المشرفة أكثر من مرة كنت أرجعها، فالشعور رهيب جداً، كنت أحاول مرة بعد أخرى حتى ألمسها.

بعدها تنقلت إلى سوقه التاريخية العريقة؛ سوق القطانين، وهي أقدم الأسواق المقدسية، ستجد لكل ما فيه جمال مُختلف، فمررت ببائع الكعك واشتريت قطعاً منه، فكان لها رائحة وطعم أكثر من رائع، فهو يصنع بأنامل مقدسية هي ذاتها الأنامل المرابطة في القدس، وأخذت قطعاً منها فأهل غزة يتشوقون لهذا الطعم.

وما هي إلى خطوات حتى كان بائع الحلقوم، فحلاوة طعمه أكثر بكثير من حلاوة السكر، فهو مقدسي أخذ بصناعته جيلاً عن جيل.

وكان لي نصيب أن أشتري هدايا الخزف الذي اشتهرت به القدس في صناعته يدوياً الذي يحمل جمال الصناعة المقدسية، فمن المحال أن يأتي أحد إلى القدس إلا ويصطحب معه من هذه الهدايا الخزفية، فهي فوق جماله مقدسية، وتقاوم أيضاً نظراً لأنها جزء من التراث المقدسي الذي تناقل في صناعته من جيل إلى جيل.

وتعتبر سوق القطانين من الأسواق التي ما زالت تعاني من ظلم الاحتلال، حيث يفرض على أصحابها ضرائب باهظة جداً ترهق كاهل الإنسان المقدسي، وكل ذلك من أجل أن يتخلى عن دكانه الذي ورثه أباً عن جد، ورغم ذلك فإنه يتمسك به، فهو على يقين أن هذا التمسك هو رباط ومقاومة للمحتل.

ورغم أن الاحتلال “الإسرائيلي” يقدم لأصحاب هذه المحلات ملايين الدولارات لبيعها، فإن المقدسيين يقابلون ذلك بالرفض، فالأمر أكبر بكثير من مجرد محل فهو عقيدة يرتبط بها.

وجدت في القدس خاصة وفي فلسطين عامة كل شيء مرابطاً؛ الشجر، والحجر، والأطفال، والنساء والشيوخ، والرجال، فالقدس هي عقيدة لدينا، هي أغلى بكثير من الأنفس الزكية والأموال.

هذه العقيدة الراسخة في الأفئدة تجعل الإنسان الفلسطيني يتصدى بجسده الذي يتوشح بالعلم الفلسطيني ويحمل بيده حجارة أمام جنود الاحتلال وأسلحته المتطورة، فلا شيء يمنعه ولا يخيفه، فإيمانه بالله تعالى يمنحه قوة بأنه صاحب حق، ويقيناً أن صاحب الحق منتصر مهما طال الزمان ومهما اشتدت الأحوال.

لذلك لا تستغرب حينما ترى المرأة المقدسية وهي ترتدي ثوب العفة تقف بعزة أمام جنود الاحتلال لتحمي “الأقصى”، ولا تستغرب حينما ترى شيخاً تجاوز السبعين يحمل عكازه ويرفعه بوجه الاحتلال؛ ليحمي “الأقصى”، ولا تستغرب من زغاريد أم الشهيد حينما تودع نجلها شهيد “الأقصى”، فالقضية عقيدة ودين قبل أن تكون وطناً وطيناً، فمن يدافع عن القدس هو شرف له في الدنيا والآخرة، فمن المحال أن يناله المطبعون مع الاحتلال، فمن المحال أن يناله كل من يتآمر على القدس الشريف، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ:”بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”.

ورحم الله تعالى قارئًا دعا لـ”الأقصى”، ولي ولوالدي رحمهما الله تعالى بالعفو والمغفرة: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).

{mp4}139531{/mp4}
Exit mobile version