القدس بعيداً عن العواطف والعواصف

 

في أحد البرامج الحوارية التي تناولت قضية القدس قال أحد المشاركين (العرب): ينبغي للعرب أن ينظروا للأمور بعقلانية وواقعية بعيداً عن العواطف، ودندن حول هذا المعنى ثم ختم مشاركته بقوله: إن دم الإنسان أغلى من الحجارة وإن كانت حجارة البيت الحرام أو المسجد الأقصى، شكرت له صراحته في التعبير عما في نفسه -في الوقت الذي أخفى فيه كثيرون ما في صدورهم تجاه القدس- وذممت له تلبيس الحق بالباطل في عبارته التي ختم بها حديثه.

ودوّن آخر على أحد مواقع التواصل الاجتماعي مبرراً عدم مشاركة البعض في مؤتمر نظم لنصرة القدس: “ينبغي أن نتخذ مواقفنا بعيداً عن العنتريات الفارغة”، فيما سبق وجهة نظر في الصراع من أجل القدس لأناس يعيشون بيننا تتنوع مواضعهم في البنية الاجتماعية العربية بين فرد عادي ومفكر وسياسي يحرصون كل الحرص على أن يبثوها على استحياء حيناً وببجاحة أحياناً، رأيت ذلك فوجدت أن هذه الفكرة وهذا التيار مهما كان حجمه ومستوى قبوله لدى الشعوب والدعم الذي يقدم له لا بد أن يناقش.

يستغرقنا العجب عنما نرى أناساً يتفوهون بكلام لا تستطيع أن تؤوله أو تجد لهم مخرجاً لا يمكنك إلا أن تصفهم بالتفريط في المقدسات والخيانة لثوابت الأمة، تفكرت في أحوال هؤلاء ورأيت أنهم ينظرون للموضوع من زاوية أخرى، كما أن القيم التي تحكمهم تختلف عن قيم الذين يتبنون منهج فداء المقدسات بكل غال ونفيس.  

إن النظر للأمور بعقلانية والبعد عن العاطفة شعار يرفعه كل من يدعي الواقعية والحكمة، لكن من يستطيع أن يفصل الإنسان عن عواطفه؟ كيف تكون الحياة بلا عواطف؟ هل تتجرد الحيوانات من مشاعرها وعواطفها لتتمكن من الحياة؟ هل صنّاع القرار السياسي في أي مكان في العالم وهم أول من يوصفون بالواقعية والعقلانية يمكن أن يتجاهلوا مشاعر الناس عندما يقومون بتقدير موقف ما ليتخذوا بشأنه القرار الملائم؟ هل يبتعد الساسة عن دغدغة مشاعر الناخبين في أثناء حملاتهم الانتخابية وفي أثناء قيامهم بالمهام التي انتُخبوا لها؟

وشيء آخر ينبغي الالتفات إليه، هذه العبارة توحي بالشعور بالعجز والهوان وتنبئ عن غفلة كبيرة عن سُنة عظيمة من سنن الله في خلقه، ذلك أن الله تعالى لم يخلق كائناً حياً إلا وأعطاه ما يستطيع به الحياة، وأعطاه كذلك ما يتمكن به من الدفاع عن نفسه ضد أعدائه حتى الميكروبات والفيروسات وهي كائنات بالغة الصغر تكلفت البشرية في سبيل القضاء عليها ملايين الملايين من الدولارات وجيّشت ألوف العلماء، ومع ذلك بقيت الفيروسات والميكروبات تدافع عن نفسها بما أعطاها الله تعالى من قدرة على البقاء، فما بالنا بالإنسان الذي فضَّله الله على كثير من خلقه تفضيلاً؟!

لا ننكر أن الأمة الإسلامية في حالة من الضعف يرثى لها، لكننا كذلك يجب ألا نهمل مواطن القوة فينا التي يدركها أعداؤنا أحسن من الكثيرين منا، يجب ألا نهمل ما تعلمناه في مراحل التعليم الأولى “الاتحاد قوة”، وأن مليون ذبابة إذا اجتمعت كفيلة بأن تؤذي بطنينها وتقتل بما تحمله من ميكروبات على أجنحتها الضعيفة أمماً وشعوباً.

فهم البشر لمعنى الحياة والمحافظة عليها يختلف باختلاف منظومة القيم التي تحكم الإنسان

كم مرت على الأمة من فترات اعتراها الضعف وسادها التشتت والتناحر، وفي ظل الأزمات العصيبة يقيض الله تعالى لها رجالاً يؤمنون بالله، ويدركون سُننه في الخلق، وعلماء يتولون النفوس بالتربية والقلوب بالتزكية والعقول بالتعليم، وشعوب تعيش في الدنيا وتتطلع إلى العلا، تسعى إلى معالي الأمور، وتتجنب سفاسفها، يؤدي كل واحد من أفرادها حق جاره قبل أن يستنكر عدوان غير المسلمين على جيرانهم من المسلمين، أمة تشعر أنها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.

نغفل عن سبب عظيم من أسباب ضعفنا، وهو الإرادة المكبلة بالركون إلى الدنيا مهما قلَّ نصيبنا منها، وتحقق في بعضنا قول الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: 96)، نغفل عن الطاقة المدخرة في الإنسان التي يحركها نداء العاطفة ويوقظها الاستفزاز والتحدي والشعور بالخطر، ونحن ندعو أن يوجهها العقل والحكمة ووضع الأمور في نصابها.

إننا ننظر إلى حالنا اليوم ولا ننظر إلى حال من بيدهم أمر القدس الآن، ولا أطيل بذكر ما كانوا عليه قبل أقل من مائة سنة، بل يكفي أن نذكر ونتذكر ما كان مكتوباً على أبواب المطاعم قبل أقل من مائة سنة: ممنوع دخول اليهود والكلاب! وكيف كانوا أشتاتاً في كل بلد بضع مئات أو ألوفاً، لكنهم بصبر عجيب ودأب أعجب وقدرة على حشد التأييد لفكرتهم تجمعوا وفرضوا رأيهم وقرارهم على أصدقائهم وأعدائهم، كانوا يرون هدفهم واضحاً أمامهم، يسعون له ليل نهار حتى تحقق، فما بال أهدافنا غائبة وأنفاسنا قصيرة؟!

إن قضية استعادة المقدسات هي قضية أمة بأسرها؛ حكاماً وعلماء وأرباب الصوت المسموع وأفراد الأمة، ولا يمكن أن يقوم بها حاكم لا يعاونه عالم ولا يستجيب له شعب.

منظومة القيم

إن فهم البشر لمعنى الحياة والمحافظة عليها يختلف باختلاف منظومة القيم التي تحكم الإنسان، فمن الناس من يبذل راحته وماله وفكره وروحه في سبيل تحقيق مجتمع الكرامة والعدالة والحرية ولا يرى للحياة معنى بدون ذلك، ويرون أن الانتقاص من هذه القيم هو انتقاص من الحياة ذاتها.

والبعض الآخر يرى في توافر مستوى لائق من متع الحياة كافياً لتحقيق إنسانيته.

والبعض تمثل الحياة بالنسبة له توافر الحد الأدنى من المأكل والمشرب والملبس والمسكن أياً كان مستوى هذا الحد لا يطمع أبداً في بيئة نظيفة آمنة يحكمها العدل ويتمتع فيها بالحرية.

إن فهمنا لمنظومة القيم التي تحكم البشر توفر علينا لوم هذا الصنف أو ذاك، وتوفر علينا دعوته لأن يرتقي في أمنياته وتطلعاته، بل لا بد من البداية بمنظومة القيم.

إن نظرة هؤلاء إلى الأمور واهتمامهم بها بمقدار ما توصلهم من لذة عاجلة واللذائذ التي يبحثون عنها هي التي تتصل بالجسد وحده، أما الروح والقلب فلا شأن لهما بها، وليس لهما مرادفات في قواميس حياتهم وفكرهم.

أصحاب ضرورة النظر إلى الأمور بعقلانية وواقعية ينفصلون تماماً عن مقدسات الأمة

أصحاب نظرية الواقعية

أصحاب ضرورة النظر إلى الأمور بعقلانية وواقعية ينفصلون تماماً عن مقدسات الأمة، فلا يحمل بعضهم في القلب أي مشاعر نحو الأقصى والقدس ومكة والمدينة، ويعتبرها مجرد قطع من الأرض تهفو إليها قلوب بعض السذج، وتمثل مصدراً يستنزف مدخرات البلهاء؛ لذا فوجودها مع المسلمين أو مع غيرهم لا يمثل فارقاً كبيراً بالنسبة لهم.

نريد أن نتأمل في حال أناس ارتبطت أرواحهم بالأقصى، فهي تحلق في فضائه وتسعى له إن أمكنها السعي، وتتواجد في باحاته إن أمكنها التواجد، رأت هذه النفوس قطعان المستوطنين تعبث في ساحات الأقصى فتفتق ذهنها عن مقاومة سلمية تؤدي أكثر من غرض، فكروا عام 2010 في إحياء مصاطب العلم بالمسجد الأقصى لترسيخ القيم الإسلامية ونشر العلم الشرعي والحرص على تواجد إسلامي في رحاب الأقصى أغلب ساعات اليوم، فإذا حصل دهم للمسجد المعمور واجهوا المداهمين بالتكبير، واستمرت هذه المصاطب تؤدي دورها حتى حكم بغلقها في 9/ 9/ 2015، أثمرت المصاطب ثمرتها في دعم التواجد الإسلامي داخل الأقصى، وتنبه لها أهل النظر وقرروا دعمها كما فعلت جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت حين أعلنت عن حملة لجمع التبرعات توجَّه لهؤلاء المجاهدين المرابطين على ثغر من ثغور الإسلام، هذا بعض ما يمكن أن تؤدي إليه العواطف السامية نحو مقدسات المسلمين، ونموذج لكيفية تحويل المشاعر الطيبة إلى عمل بناء.

إن لأصحاب النظرة العقلانية عواطف لكنك لن تجدها إلا عندما ينظر أحدهم إلى لوحة فنية لأحد الرسامين المعروفين وستسمع منه أجمل كلمات الإعجاب وأسمى آيات الثناء، والآخر وتجدها عند آخر وهو ينظر إلى بناء معماري جميل مرت عليه قرون وأعوام بمنتهى الإكبار والتقدير لمن بنوه، أليس المسجد الأقصى بما حوى من آيات العمارة أولى بكل حرص على بنيانه وأركانه، أم أنكم تقدرون الجمال والقدم في كل شيء غير إسلامي؟!

عندما نتذكر تلك الخطوات المباركات التي خطاها نبينا صلى الله عليه وسلم في هذه الرحاب الطاهرة، وهذا الجمع السعيد الشريف الذي لم يجتمع في زمن من الأزمان (اجتماع الأنبياء ليلة الإسراء) كيف تهون علينا هذه الذكريات؟ كيف نجمدها لنستحضرها في موسم الإسراء أو من على صفحات التاريخ للتسلية؟

أما عن قيمة دم الإنسان بالنسبة للمقدسات، فالإنسان بنيان الله، ملعون من هدم بنيان الله، وفي القرآن الكريم من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً.

لكن كم من سباقات للسرعة سفكت فيها دماء من أجل الوصول إلى خط النهاية والفوز بجائزة!

كم من دماء سالت على أحجار الجبال بسبب إثراء روح المغامرة وتسلق قمم الجبال! بل كم من نفوس أزهقت في صراعات على حدود وضعها المستعمر! 

إن مفهوم الموت عند المسلمين يختلف عن مفهومه عند غيرهم، فإذا كان الآخرون يتصورونه عدماً، فإنه في الإسلام انتقال من حياة إلى حياة.

في قانون الوطنية إهمال الحفاظ على التراب الوطني جريمة لا تغتفر، وعند أصحاب نظرية الواقعية التفريط في المقدسات الدينية مسألة فيها نظر.

يريدون أن تبقى القدس كقطعة من أرض الله الواسعة متحفاً كبيراً للثقافات التي مرت عليها.

سيبقى فينا من يقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ومن يقول: والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.     

إن مدينة فيها أماكن يقدسها اليهود والنصارى والمسلمون لا يمكن أن تبقى بعيداً عن العواصف إلا إذا تولتها يد العدل والإنصاف، وفي التاريخ وفي الحاضر صورة تحكي قصة المدينة ومقدساتها وسكانها وهي تحت أيدي اليهود والنصارى والمسلمين، صورة تحكي بصدق كيف كان حق الإنسان في الحياة مكفولاً أياً كان دينه، وكيف كان الناس يأمنون على أنفسهم وأموالهم وأهليهم.

Exit mobile version