معالم الطريق في السيرة النبوية.. نظرات مع د. الشاذلي النخلي (2 – 2)

 

يتعرض العمل الإسلامي في عدد من الأماكن لحرب ظالمة بذرائع واهية، لكنها حرب تذكّر بفجر الدعوات منذ نوح عليه وعلى نبينا السلام وحتى صاحب الرسالة الخاتمة عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ثم أتباعه تحت الحكم العضوض أو الكفر البواح، وهو ما استوجب العمل بعيداً عن أعين العسس، ولكن تلك الحالة من شأنها إذا طال أمدها أن تفرز بعض السلبيات، كما يرى ذلك د. الشاذلي النخلي، المحتوى الفكري للدعوة إذا استمر تداوله السنوات الطوال في الفضاءات المغلقة يمكن أن يتسرب إليه الزيادة والنقصان، ولقد رأينا عبر التاريخ باعتماد التخفي أنواعاً كثيرة يطلق أصحابها على كل واحدة منها “إسلامنا”، وهو في الحقيقة والواقع “فهمنا”، فلذلك دخل على الدين ما ليس منه.

ولا يرى النخلي فائدة في اعتماد التخفي في كل شيء وطوال الوقت، إن الجهر بفحوى الإسلام والتعريف به لدى القاصي والداني من شأنه أن يتيح الفرصة لأهل القلوب اللينة، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 23)، بأن يسيروا إلى الهدى والرشاد.

ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما أنزله عليه، وأن ينادي الناس بأمره وأن يدعو إليه.

أساليب محاربة الإسلام

تكاد تكون وسائل محاربة الإسلام زمن الرعيل الأول والجماعة الأولى هي نفسها في عصرنا، وهو ما يؤكد لأصحاب المشروع الإسلامي أنهم على الحق وفق الرسالة الخاتمة التي يؤمنون بها ويحملونها للناس، لما شاع أمر الفكر الإسلامي في مكة وعلم الجميع أهدافه ومراميه وأصبح واضحاً بيناً لكل من انتمى إليه ولمن أعرض عنه، عمد طغاة قريش إلى إثارة الشهوات للراغبين في الإسلام لتكون حائلاً لهم عن الدخول فيه، فعندما أراد الأعشى أن يسلم اعترضه أحد المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء ليسلم فقال له: يا أبا بصير، إنه يحرم الزنى، فقال الأعشى: والله إن ذلك أمر مالي فيه من مأرب، فقال: يا أبا بصير، إنه يحرم الخمر، فقال الأعشى: أما هذه فوالله إن من النفس منها لعلات ولكني منصرف فأرتوي منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم فانصرف فمات في عامه ذلك.

أهمية المال

السند المالي دعامة للدعوة الناشئة، ومن تبعات الجهر بالدعوة الربانية أن يتعرض المستضعفون من الأتباع إلى العنت الشديد؛ هو ما حدث ويحدث فما أن أعلن على الملأ بمكة المكرمة بوجوب نظر الناس جميعاً في معتقداتهم وضرورة تصحيح مسار حياتهم حتى أنكر زعماء قريش ما يدعو إليه الإسلام من تغيير جذري، فاستشاطوا غضباً، وأنزلوا بالمستضعفين جام غيظهم، قال ابن هشام: ثم إن قريشاً تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سند المستضعفين وهم يعذبون ويتحملون كل شدة في سبيل نصرة دعوتهم، وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت في الإسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء (الرمل الحار) مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: “صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة”.

لم يكتف بذلك وهو حق، نعم لقد قيّض الله سبحانه أبا بكر الصديق رضي الله عنه لهؤلاء المستضعفين، فأعتق البعض منهم، وكان من أمر قريش أنها لا تنزل أشد العذاب إلا بالعبيد والضعفاء، فلما تحرر هؤلاء على يدي أبي بكر الصديق ارتفع عنهم العذاب، وهكذا تطالعنا أهمية أمر المال في شد العزائم والوقوف للدعوة في وجه الظلم والطغيان، يقول ابن هشام: ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة 6 رقاب بلال سابعهم: عامر بن فهيرة شهد بدراً وأُحداً وقتل يوم بئر معونة شهيداً، وأم عميس وزنيرة وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش فما أذهب بصرها إلا اللات والعزى فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزة وما تنفعان فرد الله بصرها” ( م ج 1 ص 340).

هناك شخصيات يمثل وجودها على طريق الدعوة وانضمامها لقوارب النجاة وقوافل السائرين على الطريق أهمية كبرى مثل إسلام عمر بن الخطاب، وحمزة بن عبدالمطلب، ثم خالد بن الوليد وغيرهم من الصحب الكرام وحتى عصرنا، لكن مع ذلك يجب أن تقاس مواقفهم بمقياس الإسلام عندما يكونوا حديثي عهد بالإسلام، وهو ما روته لنا السيرة: لما أسلم عمر رضي الله عنه قال كلمة غاية من الأهمية توجه بها إلى قريش، جاء في رواية لابن إسحاق: لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم (مكة) أو تركتموها لنا، قال هذه العبارة عمر بن الخطاب يوم أسلم ولما كان حديث عهد بالإسلام جاءت كلمته تفوح منها رائحة الانقضاض على السلطة –دموياً- وذلك بإعداد ثلاثمائة صنديد خارج مكة ثم الزحف إليها ثم تسليم أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو جدير بها وليس ثمة في الدنيا خير منه، أو القيام بثورة عارمة بهذا العدد الهائل داخل مكة تعمل على تحطيم الأصنام وقلعها ورد الأمر لله ورسوله -أحب من أحب وكره من كره- إن هذه النظرة القصيرة، التي تفوح منها رائحة العنف لا تتلاءم مع مبادئ الإسلام.

العنف لا يولد سوى العنف

لماذا؟ لأن العنف لا يوّلد إلا العنف، فالإسلام لا يرمي إلى تحقيق النفع العاجل من سلطة وما تبعها بل يهدف إلى بناء العقول والقلوب حتى إذا أفعمت بالتقوى وأشرقت بنور ربها أمكنها أن تؤثث مجالات الحياة على هدى من الله ونور مبين.

يقول البعض: إن الأمر لا يحتمل ولا بد من العنف، ولكن كيف رد الرعيل الأول على الحصار الاقتصادي في مكة، مثال ذلك صحيفة المقاطعة التي أبرمتها قريش ضد الدعوة الناشئة، ورأينا كيف يهيئ الله عز وجل للدعوة الربانية من حين لآخر من الأسباب ما يعينها على النجاح، وقد يجعل الله سبحانه وتعالى من مخططات المخالف ذاتها سبباً للنجاح، من ذلك ما أقدمت عليه قريش من نبذ وإبعاد لبني هاشم وبني المطلب ومقاطعتهم، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعونهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، ولما أجمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك.

وماذا جرى؟ مرت الأيام والشهور على ذلك، وأراد الله سبحانه أن يحبط ما تعاقدت عليه قريش، وأن يجعل من عملهم كسباً لخصمهم، إذ القلوب الرحيمة وأصحاب العقول الرشيدة تحركوا شفقة وعطفاً على أقربائهم من بني جلدتهم، فائتمروا فيما بينهم على نقض الصحيفة، فاتعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها.

ما من شك أن صدى هذه الصحيفة الظالمة قد انتشر صداها في الآفاق، وعوض أن تأتي بما آمل منها زعماء قريش عادت عليهم بغير ما ينتظرون، فشا أمر الإسلام بذكر هذه الصحيفة وتقليب أمرها وارتفعت الحناجر باستحسان دين الله عز وجل وحسن قبوله، جاء في الأثر: “القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء”.

دولة الإسلام

فُتحت للدعوة آفاق جديدة بوجود ثلة مباركة في المدينة المنورة ترحب بالإسلام، حيث تستهدف الدعوة الربانية الإنسان أينما كان، إذ الاعتبارات العرقية والوطنية مهما اتسعت دائرتها فهي عون وسند لتذليل الصعوبات واختصار المسافات كي يعيش الإنسان مكرماً عزيزاً على وجه الأرض لا حبيساً منغلقاً تحت وطأة شرذمة من بني جنسه تسخره حسب مشيئتها وتستعبده كما يحلو لها، ولكن إذا ضاقت في مكان اتسعت في مكان آخر، ويأتي النصر بعد الشدة، وهذا ما تعلمنا إياه السيرة النبوية المباركة، فصبراً آل الإسلام فموعدكم النصر والتمكين.

Exit mobile version