اللاجئون.. تجليات العنصرية في الأزمة الأوكرانية

 

مع بدء الحرب الروسية، أخذت أفواج اللاجئين الأوكرانيين تتقاطر على دول الجوار، فاستقبلت دول الاتحاد الأوروبي في الأسابيع الأولى للحرب أكثر من مليوني لاجئ، وأبدى الأوروبيون تعاوناً ملحوظاً في استقبالهم واستيعابهم منذ اللحظة الأولى، وتوفير ما يحتاجون إليه من مأوى ودعم؛ فكان الاستعداد كبيراً والترحيب واضحاً، لكن كشف الأوروبيون عن وجه عنصري مقارنة بالتعامل مع اللاجئين الوافدين من العراق وسورية وأفغانستان، إذ وجد هؤلاء القادمون من الشرق تعنتاً وحواجز وأسلاكاً وإغلاقاً للحدود؛ بل واعتداء ومطاردة، وتركاً لهم في العراء ليواجهوا البرد القارس الذي أودى بحياة بعضهم.

الازدواجية الغربية القائمة على العنصرية التي تغذيها «الإسلاموفوبيا» حاضرة بالتصريحات منذ بداية الحرب

منذ اليوم الأول للحرب الروسية الأوكرانية وجد العرب والمسلمون أنفسهم في مقارنة مع ما يجري في أوكرانيا خاصة في التعامل مع اللاجئين؛ إذ كانت الازدواجية الغربية القائمة على العنصرية التي تغذيها «الإسلاموفوبيا» حاضرة في التصريحات والسياسات، فجاءت التصريحات مؤكدة أن الحرب والدماء والدمار أمر طبيعي في دول الشرق، وكأن المسلمين كُتب عليهم أن يعاينوا –وحدهم- بشاعة الحروب وويلاتها!

والسؤال الذي يطرح نفسه أمام ذلك التناقض، هو: لماذا أبدت أوروبا وجهاً إنسانياً مع لاجئي أوكرانيا، وتشددت مع لاجئي الشرق؟

الحقيقة أن العنصرية ما تزال تضرب بجذورها في الثقافة والسياسات الغربية، كما أن التشويه الإعلامي المستمر على مدى طويل ضد المسلمين أنتج حالة من الخوف والفزع الغربي منهم، ورغبة في إبعادهم، وكراهية في استقبالهم أو استيعابهم، حتى ولو كان الدافع إنسانياً، وهو ما أكدته أبحاث أجريت لصالح مؤسسة «بيرتلسمان ستيفتونج» عام 2019م عن أزمة ثقة كبيرة يعاني منها المسلمون على نطاق واسع في أوروبا؛ فالإسلام ينظر إليه كتهديد في غالبية الدول خاصة ألمانيا وسويسرا، وهناك %60 يعتقدون أن الإسلام لا يتوافق مع الغرب، وأكثر من %30 لا يرغبون أن يكون جيرانهم مسلمين.

أما منظمة الأمن والتعاون الأوروبية (OSCE) فأكدت، في تقريرها الصادر في ديسمبر 2020م، وجود تعصب ضد المسلمين بكافة أشكاله في أوروبا، وهذا التعصب له تأثير ضار على حياة الأفراد والمجتمعات المسلمة، وذكرت «هيلينا دالي»، مفوضة شؤون المساواة في المفوضية الأوروبية، أنه في الاتحاد الأوروبي تُظهر البيانات أن ثلاثة من كل عشرة أشخاص لن يشعروا بالرضا عند العمل مع زميل مسلم، وأن المسلمات أكثر تعرضاً للكراهية.

اللاجئون والكراهية

كانت التغطية الإعلامية أثناء الحرب الأوكرانية مُشبعة بالعنصرية التي توارت خلف كلمات الإعلاميين والسياسيين؛ فمثلاً «إيلفا يوهانسون»، مفوضة الشؤون الداخلية في الاتحاد الأوروبي، تحدثت عن الاستعدادات الأوروبية لاستقبال اللاجئين الأوكران، وقالت: «يجب أن أقول: إن الأمر مختلف تماماً، نحن الآن أكثر استعداداً»، واعتبرت أن هذا التعاون غير مسبوق، وأشارت إلى رعاية أطفال اللاجئين؛ حيث سيتم منحهم فرصة للالتحاق بالمدارس ودور الحضانة، ومنح آبائهم الفرصة للعمل ليكونوا جزءاً من المجتمع، وحذرت عصابات تجارة البشر من استغلال اللاجئين.

والمعروف أن الأوكرانيين لا يحتاجون إلى تأشيرة لدخول الدول الأوروبية، خاصة الدول التي عبروا إليها، مثل: بولندا ورومانيا وسلوفاكيا وهنغاريا ومولدوفا، وتأكيداً للدعم والتساند الأوروبي، أرسلت ألمانيا وزيرة خارجيتها «أنالينا بيربوك» إلى مولدوفا التي تعد أفقر دولة في أوروبا، لبحث دعمها لمواجهة عبء استيعاب اللاجئين.

وعلى المستوى الإعلامي، كانت تصريحات الإعلاميين تشي بالعنصرية؛ فـ«شارلي داغاتا»، مراسلة قناة «CBS» الأمريكية لتغطية الحرب، قالت: «مع خالص احترامي، فإن هذا ليس مكاناً مثل العراق وأفغانستان اللذين عرفا عقوداً من الحروب، إنها مدينة متحضرة نسبياً، أوروبية نسبياً، حيث لا ننتظر وقوع أمر مماثل»، وهو تصريح عنصري، ولم يستطع اعتذارها اللاحق أن يغطي على العنصرية الكامنة، التي مضمونها نفي التحضر عن الشرق، وكأنهم غوغاء.

رئيس وزراء بلغاريا: هؤلاء ليسوا اللاجئين الذين اعتدنا عليهم إنهم أوروبيون وأذكياء ومتعلمون!

وهو تصريح تشابه مع تصريحات أخرى، وصفت اللاجئين الأوكران بأنهم نوع جديد من اللاجئين، ذوو شعر أشقر وعيون زرق، أو كما قال مراسل قناة «الجزيرة الإنجليزية» «بيتر دوبي»: «شعب مزدهر من الطبقة الوسطى الذين ليسوا من الواضح أنهم لاجئون يحاولون الهروب من مناطق بالشرق الأوسط لا تزال في حالة حرب كبيرة»، أو «فيليب كورب» الذي قال على قناة «BFM» الفرنسية: «نحن لا نتحدث هنا عن فرار السوريين من قصف النظام المدعوم من «بوتين»، نحن نتحدث عن الأوروبيين الذين يغادرون في سيارات تشبه سياراتنا»، أو الصحافي البريطاني «دانيال هنان» الذي كتب في صحيفة «التليجراف»: «إنهم يشبهوننا كثيراً، وهذا ما يجعل الأمر صادماً للغاية».

وقد لخّصت «كيلي سوبيلا»، مراسلة محطة «NBC»، حالة التمييز القائمة على الدين والعرق: «هؤلاء ليسوا لاجئين عراقيين أو سوريين، هؤلاء لاجئون من الجارة أوكرانيا، وهذا بصراحة سببُ استقبالهم في بولندا، هم مسيحيون وبيض يشبهون سكان بولندا بشكل كبير».

وعلى المستوى السياسي، كانت التصريحات أكثر عنصرية، فقد صرح رئيس وزراء بلغاريا «كيريل بيتكوف»: «هؤلاء ليسوا اللاجئين الذين اعتدنا عليهم، إنهم أوروبيون وأذكياء ومتعلمون، وبعضهم مبرمجون لتكنولوجيا المعلومات، هذه ليست موجة اللاجئين المعتادة للأشخاص، الذين ليس لديهم ماضٍ مجهول، ولا يوجد بلد أوروبي يخاف منهم»، أما «جان لويس بورلانج»، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية الفرنسية، فصرح بأن اللجوء الأوكراني ستكون هجرة عالية الجودة.

الغريب أن العنصرية كانت حاضرة وقت الهروب على الحدود، إذ كان يُمنع غير الأوكرانيين من تجاوز حدود الدول الأوروبية، وكانت الشرطة تمنع الفارين من أوكرانيا من الجنسيات الأخرى من تجاوز الحدود، مثلما فعلت بولندا التي أغلقت حدودها في وجه الأفارقة!

العنصرية ضارة

«العنصرية مُضرة بالمجتمعات»، هذا ما أكدته المفكرة «حنا أرندت»، في كتابها «أصول الشمولية» الصادر عام 1951م، حيث ذكرت أن العنصرية قد تؤدي إلى هلاك العالم الغربي؛ بل الإنسانية بأسرها؛ فنمو الروح العنصرية والقومية أشعل الحربين العالميتين، وقالت: «العرق، من الناحية السياسية، ليس بداية الإنسانية بل نهايتها، ليس أصل الشعوب، ولكن اضمحلالها، ليس الولادة الطبيعية للإنسان، ولكن موته غير الطبيعي».

فمع العنصرية تنمو عُزلة الجماهير، والدعاية السوداء، والتلقين، وتُدَمر الإرادة الحرة، وتختفي المُطلقات الأخلاقية، وتصبح البشرية أمام عصر الجماهير المُسيطر عليها، وبعد أكثر من ستين عاماً جاء عالم اللغويات الشهير «نعومي تشومسكي» ليؤكد خطورة العنصرية وكارثيتها في كتابه «كيف يعمل العالم؟»، فتحدث بلغة أشد وضوحاً، قائلاً: «عندما يكون لديك حذاء على رقبة شخص ما، فعليك أن تبرر ذلك، يجب أن يكون التبرير فسادهم»، ومن ثم فالعنصرية التي يتعرض لها المسلمون في أوروبا، يجري تبريرها من خلال اتهامهم بالإرهاب والتخلف.

Exit mobile version