في استقبال شهر رمضان.. مقومات تربوية

 

نقف في هذه الخاطرة الاستهلالية لشهر رمضان المبارك على بعض مقومات استقبال هذا الشهر الفضيل، وطريقة العمل فيه من أجل تجديد الإيمان الفردي والجمعي في المجتمع الإسلامي.

ما رمضان؟

إن تجديد الإيمان أمر واجب، فالإيمان يزيد وينقص، أو يتقد وينطفئ، أو يكمن ويظهر، وتأتي المناسبات الإسلامية لتزيد الشعور الإيماني وتصوبه وتجدده وتعلي جذوته وتظهره في أشكال مجسدة ومتنوعة ومتعددة. ومن أعظم تلك المناسبات الإيمانية شهر رمضان المبارك، فهو مدرسة ربانية إنسانية تدعو الجميع بلا أي شروط ولا أي درجات إيمان أن يدخلها ويتعلم منها، وتأتي عظمة هذه المدرسة الرمضانية بتعظيم الله لهذا الشهر الكريم بذكره صراحة في القرآن، وتعلق هذا الذكر بأمرين عظيمين عند المسلمين هما: نزول القرآن الكريم فيه، وارتباط هذا الشهر بأداء ركن من أركان الإسلام الخمسة وهو الصوم. وهذا هو الثابت بلفظ القرآن فيما يتعلق بشهر رمضان الكريم.

وادخلوا من أبواب متفرقة

إن شعار المسلم في رمضان هو تحصيل التقوى، والتقوى يمكن ورودها بطرق وسبل متعددة – بشرط أن تكون كلها وفق المنهجية الربانية- ومن تلك السبل:

1- التعاون مع أفراد المجتمع: من طرق تحصيل التقوى التعاون مع أفراد المجتمع على تحقيق الخير العام، الذي يدخل في باب السعي والتعاون البشري من أجل تحقيق غاية الاستخلاف والعبادة في الأرض، ولهذا أكد القرآن على قيمة التعاون البشري وهدفية هذا التعاون؛ (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2)، والبر هو كل أشكال الخير التي يقدمها الإنسان للآخرين.

2- تزكية: طريق آخر لتحصيل التقوى في رمضان وهو التزكية الفردية والجماعية، والتزكية: عملية تقوم على جانبين في النفس الإنسانية هما: التخلية من الشرور والآثام، والتحلية بالخير والطيب، فالتزكية عملية تطهير للذات، وتطهير للمجتمع من أشكال الفساد والانحراف، المادي والمعنوي، وذات أبعاد مادية كما أنها ذات أبعاد معنوية، وهي عملية مستمرة لا تتوقف ولا تنتهي إذ أنها ترتبط بحركة الإنسان التي يسعى فيها إلى الفلاح دائمًا والفوز وهذا لا يكون في عرف القرآن إلا أن تكون تلك الحركة مزكاة ويكون الإنسان الفاعل للحركة إنسان مزكى؛ (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) (الشمس: 9)، (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى) (الأعلى:14)، وهذا يعني حرص الإنسان دائمًا على أن يكون نشاطه وحركته وفق مبدأ الخير العام والخير الأسمى الذي يحقق تلك التزكية في الوسط الاجتماعي والإنساني كما أنها يحققها داخل النفس الإنسانية.

3- التماسك الاجتماعي: إن تعضيد وسائل التماسك الاجتماعي والانتماء من أبرز مظاهر تحصيل التقوى في شهر رمضان الكريم، والتراحم بين الناس، والتكافل هو عين صوم رمضان إيمانًا واحتسابًا، وفي ذلك يعالج الإنسان مرض الجفاء والانقطاع الاجتماعي الذي صبغت به الحياة المادية المعاصرة، إن إحياء سنة الاتصال بين أفراد المجتمع في أشكاله المختلفة: في الاجتماع الأسري المفقود، وصلة الأرحام، وإعطاء حق المساكين والفقراء في المال والتكافل الاجتماعي، وغير ذلك مما يفتقده الناس اجتماعيًا هو عين العمل لتحصيل أبواب الجنان المفتوحة في رمضان.

4- استعادة الاتصال النفسي بين الأرض والسماء: إن مدرسة رمضان تقدم فرصة واسعة لاستعادة الاتصال الإنساني الفردي والجماعي بين الأرض والسماء، هذا الاتصال المفقود أو الذي ضعف في ظل تمكن العولمة وأدواتها التكنولوجية في الفرد والمجتمع، والتي ظن فيها الإنسان أنها بديلًا عن السماء فأخذ يدعوها ويستنجد بها. إن مدرسة رمضان تقدم وسائل اتصالات متعددة: الصلاة الجامعة، الصوم، القرآن، الفرائض، النوافل، هي سبل تجديد لاستعادة اتصال الإنسان مع السماء مرة أخرى أو تجديد ذلك الاتصال.

5- التربية على معايرة الإيمان بالعمل: ليس هذا موقف فقهي، بل موقف تربوي إيماني، فشهر رمضان فرصة لمعايرة إيمان الفرد بالعمل وفق منهج الإيمان واختبار ذلك والتربية على الالتزام النفسي والعقلي في العمل الذي يقوم به الإنسان وفي الحركات التي يؤديها: من حيث الكفاءة والإتقان والخيرية ومنع الضرر والإفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشخصي والأسري والاجتماعي.

6- تهيئة المكان والمحيط المادي، والنفسي أيضًا: في عاداتنا الإسلامية في استقبال المناسبات عمومًا وشهر رمضان خصوصًا تهيئة المكان باستخدام أدوات الجمال والنظافة والتزيين لاستقبال هذا الشهر، ومن النصائح التربوية هنا أن يهيئ المناخ نفسيًا كذلك بانخفاض كل تواصل يمكن أن يعارض أهداف المدرسة الربانية الرمضانية. وهذا يكون على مستوى الأطفال والشباب والكبار. سواء كانت تلك الوسائل المعطلة لأهداف المدرسة الرمضانية تتعلق بالمواد الدرامية المقدمة عبر الشاشات، أو الاقتراب من مواطن الشبهات.

7- إحسان القراءة لكلمات الله: من وجوه هذا الإحسان، إحسان القراءة الظاهرة أي تعلم القراءة لآيات القرآن الكريم، وذلك بإعطاء كل حرف حقه ومستحقه، وهذا أُولى حقوق القرآن وهو حق التلاوة أو القراءة، إن قراءة القرآن تختلف عن قراءة غيره من النصوص المكتوبة وإن كانت بنفس لغته وحروفه، حيث تشترط –هذه القراءة- شروطًا وقواعدًا في القراءة لا تشترط لغيره، أشار إليها القرآن ذاته فيما أسماه بـ(حَقَّ تِلاَوَتِهِ) (البقرة: 121)، والتلاوة: اتساق الشيء، وانتظامه على استقامةٍ، والترتيل إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة، قال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل: 4)، (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) (الفرقان: 32)؛ أي جودنا تلاوته.

أما الوجه الثاني في إحسان القراءة للقرآن فهو المدارسة، التعلم، وهذا ثابت، بالغاية من القرآن ذاته بأنه كتاب هداية، فكيف يتحقق الهدى من القرآن دون درسه أي تعلم ما فيه من مقومات تلك الهداية بجانبيها العقلية والقلبية. وقد أثبت القرآن هذا الحق بشكل مفصل لا لبس فيه، قال تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران: 79).

والوجه الثالث في إحسان القراءة للقرآن هو: عرض الواقع على القرآن، فمن أهم صفات القرآن الكريم أنه “بيان” للناس، كل الناس، وكذلك للمسلمين والمؤمنين به، إذ هو أيضًا بيان لهم في أحوالهم وما يصيبهم من تغير أو تحول، وهو في ذلك من أجل تحقيق ما وصف به -أيضًا – بصفة “الهداية”. فالبيان من أجل الهداية.

ولا يتحقق ذلك “البيان- الهداية” إلا بعرضنا الواقع عليه، من أجل “تبين” حقيقة واقعنا على مراد القرآن، وباعتباره من ناحية أخرى معيار “الهداية” للمسلمين.. ولعل التقصير في جانب القياس و”التبين” لهذا الواقع هو الذي أدى إلى خلل في وظيفة “الهداية للقرآن”. فالمسلمين – حتى أولئك الذين يتسابقون في ختم القرآن من أجل زيادة رصيد الحسنات! قليل منهم يبحث في دور القرآن في “البيان” وفي الهداية”.. ومن حيث لا ندري عطلنا القرآن عن أهم وظيفتين في الحياة؛ “البيان”؛ أي الحقيقة، و”الهداية”؛ أي الاستقامة على الطريقة التي يريدها القرآن.

رمضان والأسرة

رغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الأسرة العربية المعاصرة، يظل شهر رمضان نفحة ربانية لها في هذا التوقيت، ونتناصح دائمًا ألا يغيب رمضان عن أسرنا.. ونقترح ما يلي:

–  استمرار استحضار فكرة الثواب بين أفراد الأسرة، وتعظيم الأعمال التي ترتبط دائما بالثواب، وهذا يعني استمرار فعل الخير للأسرة داخلها وخارجها.

–  التأكيد على حضور القرآن، بأي طريقة أو وسيلة: القراءة، السماع، المدارسة البسيطة، فليكن القرآن حاضرًا بين أفراد الأسرة، ونحذر، ونحتاط من هجره من عام إلى عام.

– الفجر والمسجد: اعتاد أطفالنا ونحن على المواظبة على صلاة الفجر والذهاب إلى المسجد، لا يجب أن تنقطع هذه العبادات وأن تكون جزء من مسيرة التنشئة التربوية لأطفالنا، وضمن سلوكهم المعتاد.

– كذلك أيضًا فإن قيم “الغيب” و”المراقبة لله” واستذكار “حضور الله في أعمالنا” ينبغي أن تظهر في سلوكنا ونعلمها لأطفالنا.

– كذلك أيضا قيمة الدعاء، الذي يمثل رابطًا وجدانيًا ذا أثر كبير في التشكيل الوجداني للإنسان، يجب أن يتم تعزيزه بالدوامة عليه وعدم الانقطاع عنه لا سيما وأنه أقرب السبل لله تعال، وتحقيق التقوى المرجوة.

– تعظيم المعاني الإسلامية في نفوس النشء: من تلك المعاني وحدة المسلمين في القبلة والقرآن والصوم، ومن ثم دعم فكرة تعددية دوائر الانتماء للفرد المسلم من الذات والأسرة والمجتمع والوطن والأمة.

 

 

 

 

 

____________________

باحث وأكاديمي مصري.

 

Exit mobile version