تحويل القبلة ومنظومة القيم

 

تحفل أحداث السيرة النبوية والأحكام التشريعية بالعديد من القيم التي جاء الإسلام لترسيخها وأعاد من خلالها تشكيل الإنسان وعياً وسلوكاً، ومن بين تلك الأحداث والتشريعات حادثة تحويل القبلة، ولن نقف عند تحديد تاريخها، فالحادثة ثابتة والعِبر منها والقيم التي يمكن أن نستخلصها عابرة للزمان والمكان.

والقبلة في المفهوم الإسلامي تلك الجهة التي يتوجه إليها من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم استقبال القبلة مع علامات أخرى دليلاً على الإيمان.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ المُسْلِ مُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ (عهد) اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ (لا تغدروا)» (صحيح البخاري)، أما تحويلها فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة يمكنه أن يجمع بين التوجه إلى الكعبة وبيت المقدس معاً لكنه لما انتقل إلى المدينة لم يستطع أن يجمع بينهما فكانت قبلة المسلمين هي بيت المقدس لمدة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم تحولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة.

وفي سورة “البقرة” آيات تتناول شأن القبلة وتحويلها تؤكد مع نصوص أخرى على عدة قيم، منها:

الإسلام لم يمنع المسلم من البحث ومحاولة الفهم لحكم الله وأحكامه وأقداره مع التسليم

قيمة الوحدة

فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وعبر العصور المختلفة لهم قبلة واحدة تجمعهم يتجهون لها في صلاتهم ألا يدعوهم ذلك إلى البحث عن القواسم المشتركة التي يمكن أن يجتمعوا حولها لسنا بحاجة إلى التأكيد على أهمية الوحدة لسلامة الأمة الإسلامية وقدرتها على أداء الأمانة التي كلفها الله تعالى بها.  

هناك من يضع قواعد حسب ما بدا له -وقد يكون ما بدا له غير صحيح- ثم يلزم الناس جميعاً بالإيمان بها، ومن لم يوافقه في اعتبار هذه القواعد من الإيمان أو هي الإيمان حكم بكفره أو بفسقه وبدعته دون أن يراعي أن من خالفه لم يخالف الله ورسوله بل خالف فهمه هو فقط، وقد يكون لهذه المخالفة ما يسبقها من أقوال لأهل العلم والفضل بل للسلف الذين عاشوا في خير القرون، أليس وضع مفاهيمنا على قاعدة: “قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب”؟ أليس وزننا لأفكارنا التي نقاتل من أجلها بميزان الاجتهاد واحتمال الصواب والخطأ مما يضيق الهوة بيننا ويعيد اعتبار مفهوم أهل القبلة وهو مفهوم واسع يضم بين أفراده أطيافاً مختلفة؟ ولنضع عاملاً آخر قد يعيد لمفهوم القبلة اعتباره وهو صدق النية والرغبة في معرفة الحق وإدراكه وبذل الوسع في سبيل هذا الإدراك، ومنهم من يوفق للوصول إلى الحق، ومنهم من يعجز، والمطلوب منا أن ندعو للجميع: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (الحشر: 10)، ومن إخواننا الذين سبقونا بالإيمان من اجتهد فأخطأ، ومن وقع في الذنب ومع ذلك ندعو لهم.

وإذا عدنا إلى تراثنا المليء بصواب النظر واعوجاجه لنجد الحكمة التي تقوم المعوج وتعيد مفهوم أهل القبلة كمفهوم حاكم في تقدير تصرفات من نوالي ومن نعادي على حد سواء.

سمع عمار رجلاً يقول: كفر أهل الشام، قال: لم يكفروا، إن حجتنا وحجتهم واحدة، وقبلتنا وقبلتهم واحدة، ولكنهم قوم مفتونون جاروا عن الحق فحق علينا أن نردهم إلى الحق، وعن عمار بن ياسر قال: قبلتنا واحدة ودعوتنا واحدة ولكنهم قوم بغوا علينا فقاتلناهم. (تاريخ دمشق لابن عساكر).

ولعل من بين ما ينبغي أن يستذكره المسلم وهو يؤدي الصلاة قيمة الوحدة، فنحن نتجه إلى القبلة خمس مرات كل يوم على الأقل عدا السنن والنوافل، كيف يتفرق أهل القبلة كل هذه الفرقة ويتشعبوا كل هذه الشعب مع وجود القبلة التي تجمعهم، إنها الدنيا التي تفرقهم، بل مما يؤسف له أن تجد البعض إذا التقى شخصاً للمرة الأولى يحاول أن يكتشف الفوارق التي بينهما بدلاً من اكتشاف القواسم المشتركة، إن هذه العقلية لم تدرك بعد أثر القبلة الجامع للشتات والمضيق لهوة الاختلاف.  

قيمة العبودية

المسلم دائماً يسلم أمره لله تعالى حيثما وجهه توجه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 115)، يفعل ذلك وهو متيقن أن لله تعالى الحكمة البالغة، وأن جل جلاله هو العليم الخبير وقد يخفى على العبد وجه الحكمة في تشريع من التشريعات الإلهية، لكنه ما إن يوقن بربه وبحكمته وعلمه حتى يفتح الله تعالى له آفاق العلم والإدراك، وسواء فهم الحكمة أم لم يستطع عقله أن يهتدي لها، فإنه ممن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن.

وكم كشف العلم الحديث عن الحكم البالغة وراء الأحكام الشرعية التي حرمت على الإنسان ما يضره ولم يظهر وجه الضرر إلا في العصور المتأخرة بعد الكشوف العلمية الحديثة.

ومع التأكيد على قيمة العبودية أحب التأكيد على أن الإسلام لم يمنع المسلم من البحث ومحاولة الفهم لحكم الله تعالى وأحكامه وأقداره مع التسليم الذي يتفق عليه أصحاب الفطر السليمة، وتدل عليه التجربة، أن الإنسان قد يعجز أحياناً عن فهم نفسه وتقديم تفسير مناسب لسبب غضبه أو حزنه أو حبه أو كرهه إلى غير ذلك من المشاعر، فكيف يريد الوصول إلى الحكمة من كل أمر ونهي إلهي الآن دون اعتقاد بالحكمة المطلقة لرب العالمين واستغراق في العبودية بالعقل والقلب تتفتح معه آفاق الفهم والإدراك.

تحويل القبلة تعلمنا ضرورة التحصين الفكري والثقافي أمام الادعاءات الكاذبة التي توجَّه للإسلام

قيمة التحصين

في مسألة تحويل القبلة، نتعلم درساً مهماً، وهو ضرورة التحصين الفكري والثقافي أمام الادعاءات الكاذبة التي توجه للإسلام، ففي قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (البقرة: 142)، هم لم يقولوا بعد لكن إذا قالوا فكونوا جاهزين بالرد، ثم إنهم سفهاء لا يفهمون حكمة التشريع ولا معنى العبودية التي تقتضي من المسلم أن يطيع ربه وهو واثق أن قوله سبحانه الحق وحكمه الحق.

يعلمنا ربنا تبارك وتعالى في شأن تحويل القبلة وكيف نرد على أولئك الذين يتهموننا بالتذبذب بقوله عز من قائل: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: 142)، نحن لله والمشرق والمغرب لله فإذا وجهنا إلى أي وجهة توجهنا لأننا سلمنا أمرنا له سبحانه وأيقنا.

أبناؤنا الذين يعيشون في عصر السماوات المفتوحة ويرون طوفان الأفكار التي يجتهد أصحابها أن تغزو العقول والقلوب في شكل رسمه أو طرفة أو مشهد أو مسلسل إلى غير ذلك من أدوات تتعدد وتتنوع، ومراد هؤلاء هدم الدين والقيم التي تجعل للحياة معنى وقيمة، ما التحصين الذي نقوم به قبل أن يدخلوا إلى هذا العالم الأزرق؟ وما التحصين الذي نقدمه لأبنائنا قبل أن يذهبوا لديار الغربة طلباً للعلم أو للعمل؟ والانبهار عند البعض يهدم أسسه وينشئ قواعد جديدة لا مكان فيها لقيمة أو خلق.

والتحصين ليس تلقيناً فحسب، بل له وسائل عدة، منها النقاش الذي تتاح فيه الفرص لتبادل الأفكار، ومنها مشاركة البحث عن الحقيقة عبر ما يطرح من آراء وأفكار وأعظمها التحصين بالقرآن تلاوة وتدبراً.    

من لا قِبلة له

هناك من الناس من يضيع عمره دون أن يضع لنفسه وجهة يكرس جهوده وعمره في سبيل بلوغها، وهؤلاء يذهبون دون أن يتركوا أثراً فيُذكروا به فيترحم الناس عليهم، كم يهدرون من طاقات ويشعرون بملل ويكونون عبئاً على من حولهم وهم أكثر الناس عرضة للاستغلال.

Exit mobile version