تحول مفاجئ لموقف إسبانيا بقضية الصحراء المغربية.. دبلوماسية عالية المستوى ومصالح مشتركة

 

عبرت إسبانيا لأول مرة في تاريخها عن موقف جديد من قضية الصحراء المغربية، معتبرة في رسالة وجهها رئيس الحكومة بيدرو سانشيز، إلى العاهل المغربي محمد السادس أن مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب سنة 2007، حل واقعي وذو مصداقية، بل و”الأساس” والأكثر جدية.

ويرى عدد من الباحثين والمراقبين المغاربة في تصريحات لـ”المجتمع” أن هذا التحول غير المسبوق في الموقف للجارة الشمالية يعتبر خطوة حاسمة لطي القضية، يدعم ذلك سياق دولي يسير نحو الحفاظ على الوحدة الترابية في إطار التوازن الدولي والحفاظ على المصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية الكبرى.

كما يعتبر قبل ذلك إنهاء للأزمة التي نشبت بين البلدين بعد استضافة إسبانيا لزعيم جبهة البوليساريو الانفصالية في أبريل الماضي، وما أعقب ذلك من استدعاء سفيرة المغرب في مدريد، ونشوء مشاكل أمنية بسبب محاولة الهجرة الجماعية لشباب وأطفال مغاربة نحو سبتة، وتأجيل اللجنة العليا المشتركة، وإغلاق المعابر التجارة غير القانونية مع كل من سبتة ومليلية المدينتين المغربيتين المحتلتين.

الموقف الجديد لإسبانيا جاء نتيجة دبلوماسية هادئة وجادة من المغرب

دبلوماسية عالية المستوى

الموقف الجديد لإسبانيا وإن بدا مفاجئاً للجميع بما في ذلك الداخل الإسباني، إلا أنه جاء نتيجة دبلوماسية هادئة وجادة من المغرب، وسيعطي زخماً جديداً للعلاقات الثنائية وتقوية دور إسبانيا كحليف إستراتيجي للمغرب.

وفي هذا السياق، يؤكد أستاذ القانون الدولي خالد شيات في تصريح لـ”المجتمع” أن الهدوء والجدية والصرامة التي تعامل بها المغرب إزاء تصرفات الجارة الشمالية إثر استقبالها لزعيم البوليساريو تحت هوية مزورة للاستشفاء من “كوفيد19″، انتهت بنتائج محمودة.

فيما يبرز الأكاديمي المغربي وأستاذ العلوم السياسية عبدالصمد بلكبير، في حديث لـ”المجتمع”، أن هذه الدبلوماسية كانت عالية المستوى يقودها الملك محمد السادس شخصياً، وهي لم تقف عند محور واحد، بل كانت نشيطة جداً وبمحاور متعددة.

ويوضح بلكبير أن هذا التفاوض على هذا المستوى العالي أثرت فيه قضايا أخرى كبيرة مثل الأمن والهجرة ووضعية سبتة ومليلية المدينتين المغربيتين المحتلتين من إسبانيا، معتبراً أن نجاح المغرب في الحفاظ على وحدته الترابية والتي تعتبر ذات أهمية كبيرة للمغاربة هو نجاح للدولة المغربية، وأيضاً تعزيز الشعور بالاستقرار الذي ينعم به البلد مقارنة مع دول مجاورة.

بلكبير: لا يمكن إنكار ما لعبه السياق الدولي من دور في تغيير الموقف الإسباني

أهمية الخطوة

ويفرق أستاذ العلاقات الدولية سعيد الصديقي بين مسار قضية الصحراء التي ينتظر أن تعرف تطورات أخرى، وبين عودة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية بين البلدين مما يعزز مكانة المغرب على المستوى الإقليمي.

ويضيف الصديقي، في تصريح لـ”المجتمع”، أن رئيس الحكومة الإسبانية ومنذ نشوب الأزمة كان تصرفها هادئاً وواقعياً وحكيماً إلى حد كبير في إدارة سوء الفهم، وهو ما سهل الوصول إلى هذا التفاهم، مبرزاً أن هذا الموقف الإسباني الجديد يشكل نقلة إلى الأمام لكنه لا يمثل اعترافاً صريحاً بمغربية الصحراء كما ورد مثلاً في نص اعتراف الإدارة الأمريكية في عهد ترمب، لكن هذه الخطوة مهمة جداً؛ لأن الجارة الشمالية بقيت دائماً ولعقود في منطقة رمادية، والآن أصبح موقفها واضحاً بخصوص الوحدة الترابية للبلدين، وهذا يمكن أن يفهم منه اعتراف ضمني بالوحدة الترابية للمغرب، لأن كل بلد يحدد إقليمه وفق قوانينه.

ويشير إلى أنه كان هناك ضغط من قبل المغرب على كل المستويات يطالب بتحديد الموقف الإسباني من قضية الصحراء المغربية، وتحدد مبادئ جديدة ومهمة وعلى رأسها عدم القيام بإجراءات أحادية الجانب واحترام الوحدة الترابية والتنسيق الدائم في إطار الشفافية.

فيما يبرز الأكاديمي المغربي خالد شيات أن المسار بات واضحاً أممياً وأوروبياً، ويجب أن يكون منسجماً أيضاً على مستوى الاتحاد الأفريقي، كما أن تأثير إسبانيا على الموقف الأوروبي كبير جداً، علماً أن هذا المشكل بدأ إسبانياً باحتلال الأراضي المغربية في أواخر القرن 19، وعليه أن ينتهي بهذا المسار باعتبارها تتحمل مسؤولية تاريخية وأخلاقية في هذا الملف.

وعن أهمية موقف إسبانيا الجديد يشير الباحث الإعلامي المغربي يونس مسكين إلى أن هذه الخطوة تطور مهم وحيوي في مسار ملف الصحراء، وبالرغم من أن الجارة الشمالية ليست عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي، ولا تملك تأثيراً دولياً يقارن ببعض القوى الدولية الكبرى، لكن موقفها يعتبر تحولاً مهماً جداً باعتبارها المستعمر السابق للصحراء، وكلمتها من هذا الموقع مسموعة ومؤثرة، بل قد تكون مرجعية بالنسبة لبعض القوى الدولية، إلى جانب كونها عضواً في مجموعة أصدقاء الصحراء التي تعد قرارات مجلس الأمن الدولي، وواحداً من المعاقل التي يتحرك فيها بشكل مكثف خصوم المغرب من حاملي أجندة الانفصال.

الصديقي: أوروبا تواجه ضغطاً كبيراً في حاجتها مستقبلاً إلى مصادر الطاقة وخاصة الغاز والنفط

سياق دولي

ولا يمكن إنكار ما لعبه السياق الدولي من دور في تغيير الموقف الإسباني، برأي الأكاديمي بلكبير، إذ منذ الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء إبان حكم ترمب، وأيضاً عبر الموقف الأخير لإدارة بايدن بعد الزيارة الأخيرة لنائبة كاتب الدولة الأمريكي في الخارجية للمغرب.

كما أن مع وقوف الصين المنافس القوي للدول الغربية، منتظرة أي إشارة من المغرب لتصبح حليفاً بديلاً، تغيرت الكثير من الأمور، وبات يُرى إلى المغرب قوة إقليمية مرشحاً لشغل منصة القيادة في العالم على المستوى الأفريقي يمكن أن تصبح “تركيا” جديدة في غرب المنطقة العربية، بل وفي أفريقيا، حسب تعبير عبدالصمد بلكبير، بالنظر إلى موقعه الإستراتيجي وغنى ثرواته المعدنية والبحرية ولا سيما توفره على أكبر احتياطي للفوسفاط في العالم وواجهتين بحريتين.

ويشير الأكاديمي المغربي سعيد الصديقي إلى أن أوروبا تواجه ضغطاً كبيراً في حاجتها مستقبلاً إلى مصادر الطاقة وخاصة الغاز والنفط، ويمكن أن يشكل المغرب بديلاً مهماً سواء من خلال مصادر الطاقة المتجددة واحتمال اكتشاف احتياطي مهم من الغاز وقد بدأت بعض بوادره خلال الشهور الماضية، وأيضاً إمكانية نجاح أنبوب الغاز القادم من نيجيريا إلى أوروبا عبر المغرب.

من جهته، يؤكد الأكاديمي المغربي خالد شيات أن موقف إسبانيا خيار واقعي ينسجم مع تطورات القضية ميدانياً، ويعتبر أن الموقف هو تضييق على داعمي الانفصال تماشياً مع المقررات الإسبانية سياسياً داخلياً وخارجياً، وتوسيع مجال المساندين للحل السياسي المتوافق حوله والقابل للتنزيل، جاء منسجماً مع قرارات مجلس الأمن وأسسها المعيارية خاصة القرار (2602) الذي يقضي دفع الأطراف المباشرة بما فيها الجزائر إلى التفاوض الذي لا يوجد في مساره سوى مقترح الحكم الذاتي، ونبذ المسارات الأخرى المبنية على حمل السلاح. 

شيات: موقف إسبانيا خيار واقعي ينسجم مع تطورات القضية ميدانياً

ربح وخسارة

يشدد الأكاديمي بلكبير أن لإسبانيا مصالح اقتصادية وأمنية كبيرة، سواء إذ تعتبر الشريك التجاري الأول للمغرب حيث تنشط أكثر من 800 شركة إسبانية في المملكة وهو ما يشكل “لوبي” اقتصادياً إسبانياً يدافع عن مصالحه داخل المغرب، بل ويضيق الخناق عن الجهات الداعمة للبوليساريو سواء على شكل مواد غذائية أساسية أو في مجال السياحة والسفر، كما أن المغرب أبدى احترافية كبيرة في المجال الأمني بتفكيك خلايا إرهابية من خلال التعاون المشترك بين البلدين واحتضان ندوات علمية حول المخاطر الأمنية، معززة أجواء الثقة بينهما.

لكن الإعلامي المغربي يونس مسكين يذهب إلى أبعد من ذلك، فهو يرى من مصلحة إسبانيا دعم مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء في إطار قطع الطريق أيضا على مبادرة الانفصال في إقليم كاتالونيا، خاصة بعد إعلان “الحكومة المنفتحة في هذا الإقليم اعتزامها افتتاح تمثيليات حكومية جديدة في أوروبا وأفريقيا وأمريكا وآسيا خلال هذا العام 2022، على أن تكون الرباط واحدة من هذه الوجهات الجديدة لتمثيليات هذه “الحكومة” الانفصالية.

ويبرز مسكين أن تحريك المغرب لهذه الورقة وإن لم يعلن عن قبوله بهذه التمثيلية يشير إلى وجود “لعب” على مستوى عال من الاحترافية والدهاء من الجانب المغربي في هذا الخصوص، مذكراً بما حصل عام 2003 من رد فعل إسباني شديد الغضب بعد افتتاح المغرب تمثيلية كاتالونية في الدار البيضاء.

ويؤكد مسكين أن محتوى رسالة التي وجهها رئيس الحكومة الإسبانية لملك المغرب، كما كشفه بلاغ الديوان الملكي، يكشف في الحقيقة عن طبيعة المطالب المغربية وطبيعة التفاوض الذي جرى قبيل إعلان هذا الانفراج، حين تتحدث الرسالة عن احترام إسبانيا “على الدوام التزاماتها وكلمتها”، وخاصة عندما ينتهي بلاغ الديوان الملكي بالإشارة إلى تأكيد سانشيز أن الخطوة جاءت “من أجل ضمان الاستقرار والوحدة الترابية للبلدين”.

Exit mobile version