خبير مالي لـ”المجتمع”: الاقتصاد التونسي بين مطرقة العجز المتفاقم وسندان الدين المتراكم

 

أكد الخبير الاقتصادي التونسي محمد النوري أن الوضع في بلاده في حالة خطر غير مسبوق على جميع المستويات ولا سيما من الناحيتين المالية والاقتصادية.

وقال، في تصريحات لـ”المجتمع”: هذا الوضع الذي يعود لأسباب هيكلية تاريخية مثل ترهل المنوال التنموي وتخبّط التوجهات التنموية والوقوع في فخ المديونية وتمويل العجز بالعجز، كما يعود أيضاً إلى أسباب ظرفية مباشرة مثل تأخر الإصلاحات الضرورية، وفشل حكومات ما بعد الثورة في تحقيق الانتقال الاقتصادي، فضلاً عن مزيد من التردّي والانحدار خلال الأشهر القليلة الماضية بسبب تفاقم الأزمة السياسية بالبلاد.

مرحلة الإفلاس الوشيك  

وأشار النوري إلى أن تحليل حقيقة المأزق الراهن يحيلنا إلى مأزق الاقتصاد السياسي للدولة التونسية منذ الاستقلال، حيث يمكن وصف مرحلة ما قبل الثورة برمتها بمرحلة الانكشاف الاقتصادي والاعتماد المفرط على الخارج والفشل في بناء اقتصاد تنافسي ذي مناعة عالية، بينما يمكن وصف مرحلة ما بعد الثورة بمرحلة الانكماش الاقتصادي وتقهقر النمو واستفحال المديونية، في حين بلغت البلاد بعد 25 يوليو مرحلة الإفلاس الوشيك.

تحليل حقيقة المأزق الراهن يحيلنا إلى مأزق الاقتصاد السياسي للدولة التونسية منذ الاستقلال

وأوضح أن هذا المأزق الخطير الذي آلت إليه الأوضاع عبر أزمة مركّبة ومعقّدة سياسية واقتصادية واجتماعية وصحية وضع اقتصاد البلاد بين المطرقة والسندان؛ مطرقة العجز المالي المتفاقم وسندان الدين العام المتراكم.

الخيارات المطروحة

وحول الخيارات المطروحة والعمل لتفادي الكارثة، أفاد بأن هناك طريقين يبدو لا ثالث لهما؛ وهما طريق الخيارات التقليدية لمعالجة أزمة غير تقليدية مثل التمادي في الحلول الترقيعية القائمة على الجمع بين الإحداث النقدي وإصدار السندات الحكومية لتغطية النفقات اليومية، وسياسة التسوّل الدولي دون اتفاقات وشراكات إستراتيجية.

وأردف: مثل الإذعان لشروط صندوق النقد الدولي وتنفيذ الإصلاحات والسياسات التي يطلبها، وهي كما يسميها إصلاحات موجعة ولها كلفة اجتماعية واضحة، إلا أن الملاحظ في هذا الخيار هو أنّ نفس الإصلاحات ونفس الوصفة سبق وأن تم تطبيقها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي دون أن تؤدي إلى نتيجة تذكر، بل كانت نتائجها سلبية بشهادة الصندوق نفسه.

وأوضح بأن اللجوء إلى نادي باريس لإعادة جدولة الديون أو على الأقل جزء منها خيار تحفّه العديد من المخاطر السيادية للدولة التونسية.

أما الطريق الثاني وفق النوري فهو الطريق الأصعب لكنه الأنجع وهو المزج بين خيارات عاجلة وخيارات آجلة، وبين معالجات ظرفية ضرورية ومعالجات إستراتيجية هادفة.

الخيارات العاجلة محدودة ولا مفر من العودة إلى صندوق النقد الدولي باعتباره البوابة الوحيدة إلى الأسواق المالية الدولية

كيفية الولوج للأسواق العالمية  

الخيارات العاجلة وفق النوري محدودة ولا مفر من العودة إلى الصندوق (صندوق النقد الدولي) باعتباره البوابة الوحيدة للولوج إلى الأسواق المالية الدولية ولكن بشرط أن يكون هذا الخيار محدوداً زمنياً وبمنهجية تفاوضية وفريق تفاوضي جديد ومصحوباً برؤية إستراتيجية للتخلص من ربقة المديونية والتوجه نحو الاعتماد الإستراتيجي على الذات على غرار بلدان عديدة، وذلك عبر تحريك الادخار الذي سجل تراجعاً غير مسبوق 4% بعدما كان في حدود 21%، وترشيد الإنفاق وتطوير الاستثمار عبر تخفيض سعر الفائدة، وإصلاح الجباية نحو مزيد من العدل وتوسيع الوعاء، ومحاربة الفساد وتهريب الأموال والسلع، وإدماج القطاع الموازي.

وأما الخيارات الآجلة كما يراها النوري فيجب أن تكون ضمن رؤية إستراتيجية بديلة لتونس 2040 تهدف إلى تحقيق الاقتدار الاقتصادي والاجتماعي في إطار منوال تنموي جديد يقوم على نهج اقتصاد السوق الاجتماعي التضامني ضمن الخصوصيات والثوابت الوطنية ويستفيد من التجارب الدولية الناجحة.

يهدف هذا التوجه، حسب النوري، إلى القطع مع النموذج التمويلي القديم القائم على الاقتراض والجباية، ويسعى إلى تطوير موارد تمويلية بديلة وأفكار جديدة؛ مثل فكرة الضريبة على الثروة وصندوق الزكاة ونظام الوقف وتفعيل ترسانة القوانين المهملة أو المجمدة، مثل قانون الاقتصاد الاجتماعي التضامني وقانون التمويل التشاركي وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وقانون الصكوك وقانون الصناديق الاستثمارية الإسلامية وغيرها.

ربما تكون هذه الأزمة من قبيل رب ضارة نافعة وفرصة أخيرة للتدارك وإنقاذ البلاد من مزيد التدهور والانحدار ونقل الاقتصاد من اقتصاد ريعي اتكالي إلى اقتصاد إنتاجي تضامني.

Exit mobile version