الهند.. الانحدار نحو التفكك أم الحرب الأهلية؟

 

هل تأجيج المشاعر المعادية للمسلمين الطريقة الوحيدة التي وجدها رئيس الوزراء الهندي «ناريندرا مودي»، وحزبه «بهاراتيا جاناتا»، والمنظمة الأم «RSS”، وجميع منظمات «سانغ باريوار» للحفاظ على الهند موحدة؟! سؤال نطرحه هنا لعلنا نجد له إجابة!

رغم أن المسلمين ينتمون إلى أكثر شرائح المجتمع الهندي فقراً وتخلفاً بسبب التمييز المنهجي من قبل كل من القطاعين العام والخاص، فإنهم يظهرون في جميع أنحاء الهند كأقلية قوية، يريدون البقاء في الهند العلمانية التي تصورها القادة الهنود آنذاك.

لهذا السبب، كتب أول رئيس وزراء للهند «جواهر لال نهرو»، بعد التقسيم، إلى رؤساء الوزراء في جميع الولايات، في عام 1947م: «لدينا أقلية مسلمة بأعداد كبيرة لدرجة أنهم لا يستطيعون -حتى لو أرادوا- الذهاب إلى أي مكان آخر، يجب أن يعيشوا في الهند، هذه حقيقة أساسية لا جدال بشأنها، مهما كانت الاستفزازات من باكستان، ومهما كانت الإهانات والفظائع التي قد يتم إلحاقها لغير المسلمين هناك، يجب أن نتعامل مع هذه الأقلية بطريقة حضارية، يجب أن نوفر لهم الأمن وحقوق المواطنين في دولة ديمقراطية».

لكن للأسف، تعرض هذا الأمر للكثير من التغييرات مع مرور الوقت، خاصة خلال حكم «مودي»؛ حيث قوض حكم حزب «بهاراتيا جاناتا» الفاشي مفهوم الحماية المتساوية للقانون، كما تسربت الأغلبية الفاشية إلى جميع المؤسسات الحكومية.

لقد غير التعصب والتحيزات والإجحاف والأحكام المسبقة المتضمنة في حكومة حزب «بهاراتيا جاناتا» القومي الهندوسي الحاكم جميع المؤسسات تقريباً، مثل الشرطة ووكالات التحقيق والمحاكم؛ ما تسبب في فقدان استقلاليتها، وتمكين الجماعات القومية الهندوسية المتطرفة من التهديد والمضايقة والهجوم على الأقليات الدينية مع الإفلات من العقاب؛ حيث تقوم الحكومة وكافة أجهزتها والحزب الحاكم بتوفير الرعاية السياسية والغطاء للتعصب الأعمى.

الحكومة وأجهزتها والحزب الحاكم يقومون بتوفير الرعاية السياسية والغطاء للتعصب ضد الأقليات

قوانين عنصرية

لقد سن «مودي» ورؤساء وزرائه في الولايات المختلفة العديد من القوانين التي أخلت بالعدالة؛ ما أبعد الهند عن المراسي العلمانية والتعددية، وفيما يلي بعض الأمثلة:

– قانون تعديل المواطنة (CAA) جنباً إلى جنب مع السجل الوطني للمواطنين (NRC) بقواعد تمييزية للمسلمين.

– قوانين جهاد الحب التي تجرم الزواج بين أتباع الديانات المختلفة.

– قانون الطلاق الثلاثي الذي يجرم الطلاق من قبل الرجال المسلمين فقط.

– القوانين التي تجرم حيازة لحوم البقر كطعام، ابتداء بولاية هاريانا ومهاراشترا، تليها ولايات أخرى يحكمها حزب «بهاراتيا جاناتا»، وتجريم ذبح الماشية من أجل الطعام في ولايات جوجرات وكارناتاكا التي يحكمها الحزب ذاته.

– إلغاء المادة (370) من الدستور التي نقضت الوضع الخاص للأغلبية المسلمة في كشمير المكفول لها دستورياً وقت انضمامها إلى الهند، وحتى إنكار مكان الولاية الفيدرالية التي تتمتع بها جميع الولايات الهندية الأخرى.

– القوانين التي تنكر حرية المعتقد والممارسة الدينية (قانون حرية الدين في أوتارانتشال عام 2018م، قانون حرية الدين في هيماشال براديش عام 2019م، قانون أوتار براديش لحظر التحول غير المشروع للدين لعام 2020م، حرية ماديا براديش من قانون الدين عام 2020م).

ومن الجدير بالذكر أن أحد أهداف قانون مكافحة التحول الذي أقرته الولايات التي يحكمها حزب «بهاراتيا جاناتا» هو إساءة استخدامه ضد الرجال المسلمين الذين قد يتزوجون من نساء هندوسيات، ويعد رفع السن القانونية لزواج المرأة الحلقة الأحدث في السلسلة.

كل هذه القوانين لها دلالات طائفية، ويستهدف معظمها السيطرة على السكان المسلمين في الهند وتقليص أعدادهم، وهناك العديد من الأشياء على الأرض تحدث في الوقت نفسه بصرف النظر عن أعمال الشغب الطائفية المستمرة التي تستهدف المسلمين، التي يدبرها الفاشيون الهندوس بدعم سري وعلني من حكومة «مودي» في جميع الولايات الشمالية، مثل: حراس البقر وعمليات الإعدام خارج نطاق القانون، التحويل القسري إلى الدين الهندوسي، صفقات بيع بالمزاد لمئات النساء المسلمات اللواتي ينشطن على منصات افتراضية لإذلالهن، الصراخ والهتاف من أجل التطهير العرقي للمجتمع المسلم في مدن هندية مختلفة في حضور قادة الحزب الحاكم والوزراء، حظر الحجاب ومنع الفتيات المسلمات من دخول المدارس والكليات والجامعات به.. هذه بعض الأمثلة فقط.

ويعد حظر قناة «Media One» (القناة الفضائية الوحيدة في جميع أنحاء الهند تحت إدارة المسلمين المتلفزة من ولاية كيرالا الجنوبية) دون أي دليل إدانة مثبت إحدى حلقات المسلسل الطويل.

اللغز الطائفي

قال «ألبرت أينشتاين» ذات مرة: لا يمكن حل المشكلة بمستوى التفكير الذي أوجدها، إذا كان الأمر كذلك، فإن لغز الهند المتمثل في السياسات الطائفية الهندوسية المتشددة سيظل بلا حل، حيث تم إنشاؤه ورعايته من قبل الوكالات الحكومية وأجهزتها منذ استقلالها من خلال عشرات الآلاف من أعمال الشغب ضد المسلمين وتفجير القنابل التي دبرها شوفينيو «سانغ باريوار» الذين كانوا من أتباع «آر إس إس»، و»ليرنيان هيدرا» مع العديد من الرؤوس السامة، التي أنجبت حزب «بهاراتيا جاناتا»، والآن نفس أنصار «آر إس إس» وفرعه السياسي حزب «بهاراتيا جاناتا» في السلطة، مئات الآلاف من المسلمين الأبرياء ذبحوا وشوهوا في أعمال الشغب التي دبرها «سانغ باريوار» برعاية الدولة، لكن لم تتم إدانة أي من الجناة أو الحكم عليهم خلال السبعين عاماً الماضية عن أي عمل شنيع من أعمال الشغب والعنف المتكرر ضد المسلمين بما في ذلك هدم مسجد بابري، في 6 ديسمبر 1991م، والمذبحة التي أعقبت ذلك التي نفذها شوفينيو «سانغ باريوار» في وضح النهار.

لم يتخيل أحد أن تلك الجرائم المروعة لن تعاقب عليها جمهورية هندية ديمقراطية وعلمانية دستورياً منذ أن كان حزب المؤتمر الحاكم آنذاك يتجول مع هندوتوا الناعمة، ويدعمها سراً، ويملأ أقسام الشرطة والاستخبارات بالفاشية اليمينية.

وكانت النتيجة أن أصبحت الاشتراكية والعلمانية تسمية خاطئة، والديمقراطية عملية لا معنى لها، إلا أن تقوّي فاشيي «سانغ باريوار» وتضعف حزب المؤتمر نفسه.

إن عمليات التجميل بتعيين بعض المسلمين دون التزام تجاه المجتمع الذي ينتمون إليه في مناصب غير تنفيذية لم تساعد في تقليل تآكل التربة تحت أقدام حزب المؤتمر، بل إن هذا التجميل حرض على الدعاية الاسترضائية للأقلية التي أطلقتها منظمات «سانغ باريوار» الفاشية فقط.

وكان بإمكان وسائل الإعلام المساعدة في حل القضية إذا كانت على استعداد للخوض في عمق المشكلة، والوصول لنتيجة منطقية وطبيعية؛ فلو كانت تلك الانفجارات قد بدأها ونفذها المسلمون فعلاً، لكانوا قد عرضوها أمام أعين الجمهور من خلال التقارير الاستقصائية بطريقة لا تقبل الجدل، لكن لأنه تم تنفيذها من قبل بعض العناصر الأخرى التي ربما تكون على صلة بالفاشية اليمينية، لم تفعل وسائل الإعلام سوى تقليد الشرطة، المتسبب الأكبر في هذا اللغز.

إن الدراما الكاملة التي بدأت بعد تعيين «يوغي أديثيا» في منصب رئيس وزراء ولاية أوتار براديش، في عام 2017م، أكبر ولاية بالهند، توضح مدى عمق واتساع انتشار معاداة المسلمين في البلاد؛ فقد تمكن حزب «بهاراتيا جاناتا» من التغلب على النتائج السلبية لنزع قيمة العملة، والسياسات الخاطئة الأخرى من خلال نشر مخالب الكراهية الدينية والطائفية السامة تجاه المسلمين.

فالصوت النشاز الذي توجده وسائل الإعلام والشرطة والاستخبارات المعادية للإسلام فور وقوع أي انفجار، والتفسير المتسرع، ووصف أي انفجار بأنه «إرهاب إسلامي»، و»تطرف إسلامي» ساعد بالفعل في تحريض الجماهير ضد المسلمين، كما هو مخطط له من أبطال هذه الأنشطة الغادرة.

لقد عملت وسائل الإعلام وما زالت تعمل جاهدة على تصنيف المسلمين كإرهابيين، وتحميلهم مسؤولية جماعية عن الإرهاب دون النظر إلى جذوره وعمقه واتساع نطاقه؛ فالمقالات والتقارير التي ظهرت ولا تزال تظهر في الصحف، والمقابلات التي يتم بثها في القنوات، كلها تثبت ما كان سبب وجود السلطة الرابعة الهندية لفترة طويلة من حيث الخطاب المسهب العنيف الذي لا أساس له، والتهجم الشيطاني اللاذع ضد المسلمين الهنود، ويبدو أن وسائل الإعلام انحنت إلى أدنى المستويات عن طريق الترويج للكراهية، وإثارة الغضب والعنف؛ حيث كانت التقارير الاستقصائية التي رددتها وسائل الإعلام عن الشرطة تفتقر دائماً إلى المحددات المعرفية والأدلة المؤيدة، وتنسى الأدوار التي قامت بها منظمات «سانغ باريوار» في التفجيرات المماثلة والأنشطة العنيفة، كما اعترف بها «سوامي أسيماناندا»، وأثبتها «مهارشترا هيمانت كاركاري»، رئيس فرقة مكافحة الإرهاب (ATS).

ويبدو أن الهدف والنية من مثل هذه المقالات والتقارير التي تنفث السموم وتشع الغضب والعنف تعمق الانقسامات وتوسع فجوة الثقة الموجودة بالفعل بين المجتمعات الدينية المختلفة في الهند؛ وبالتالي المساعدة والتحريض على الفوضى والعنف الطائفي.

تأرجح الحكومة بين قمع المسلمين والتراخي مع الهندوسيين سيؤدي لانتفاضة من المسلمين المكبوتين

انتفاضة وشيكة

تأرجُح الحكومة بين قمع المسلمين والتراخي مع متطرفي «سانغ باريوار» الهندوس سيؤدي بالتأكيد إلى انتفاضة وشيكة من المسلمين المكبوتين؛ فوجود عشرات الآلاف من المسلمين الأبرياء المسجونين في مختلف أنحاء الهند دون حتى محاكمة صورية هو في الحقيقة بركان ينتظر أن ينفجر في نوع من الحرب الأهلية التي ستغطي هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 1.4 مليار نسمة.

كان الإصرار الأحمق للحكومات، في الماضي والحاضر، على اعتقال ومحاكمة مسلمين ليس لهم صلة بالانفجارات وأعمال العنف، وإخلاء سبيل الهندوس الفاشيين الذين ثبت ارتباطهم الوثيق بمثل هذه الانفجارات وأعمال العنف؛ كان سبباً واضحاً لتكرار هذه العمليات على نطاق واسع خلال حكم حزب المؤتمر الذي أدى إلى تمهيد الطريق لحكم «سانغ باريوار» المباشر من خلال حزب «بهاراتيا جاناتا».

ومن العجيب في هذ السياق، أن العديد من الأشخاص ذوي الآراء الليبرالية والمحامين يتعاطفون مع الهندوس اليمينيين المتطرفين، إلى حد تحريضهم على المزيد من هذه الأفعال، بدلاً من دعم الجهود في حل المعضلة التي أوجدها هؤلاء المتطرفون، وظل القضاء متحيزاً لهم، كما ثبت في قضيتي «عبدالناصر معداني»، و«سوامي أسيماناندا»، فالأول لا يزال في السجن منذ فترة طويلة دون محاكمة، بينما تمت تبرئة الثاني رغم اعترافه بتورطه في العديد من التفجيرات وأعمال العنف التي نُسبت في البداية إلى ما يسمى بـ«المجاهدين الهنود» الغامضين!

أصبح الوصم بالإرهاب عشوائياً ومتشابكاً بشكل لا ينفصل عن سياسات فاشية «سانغ باريوار» اليمينية تحت أنظار الحكومات، بينما تتم الإشادة بالفاشيين أنفسهم في وسائل الإعلام اليمينية كما لو كانوا صانعي سلام!

تحتاج الهند إلى التفكير بجدية في الكيفية التي يمكن أن تتخذ بها موقعها الذي تستحقه بين دول العالم لتكون قوة عظمى؛ فكيف يتم ذلك إذا كانت تهمش أقلية مسلمة يبلغ عددها 250 مليوناً، وهي أكبر أقلية في العالم من حيث العدد، وتنفيها وتحرمها ثمار التقدم والازدهار وتدفعها إلى الأحياء الفقيرة؟

ومن المنطقي والطبيعي أن يولد الوقت آلافاً من الثوار الشباب المسلمين الذين سيعلنون أنهم لا يستطيعون المطالبة بالحرية لأنفسهم؛ لأن إخوانهم وأخواتهم يعانون في السجون المخزية في مختلف أنحاء البلاد.

ستقوم الشبكة الاجتماعية بتنظيمهم في «Ramleela» أو «Jantar Mandar»، وسيطلب الملايين منهم من السلطات إرسالهم أيضاً إلى نفس السجون للانضمام إلى إخوانهم المسجونين بالفعل لمشاركة مصيرهم، وقد شوهدت مظاهر لهذا الأمر خلال احتجاجات شاهين باغ والاحتجاجات ضد حظر الحجاب المستمر في مختلف أنحاء الهند.

هؤلاء سيترسخ في أذهانهم أن الرجال الشرفاء يجب أن يكونوا إما ميتين وإما مسجونين، في جمهورية شرطتها واستخباراتها وبيروقراطيتها مجرمون بشكل فظ، والقضاء في حالة من اليأس الشديد، قد يكون هذا ما كان يتوق إليه الهندوس اليمينيون المتطرفون لفترة طويلة؛ فهل ستؤدي استفزازاتهم إلى النتائج التي كانوا ينتظرونها؟ إذا كان الأمر كذلك، وإذا كان التاريخ أكثر تنبؤاً وإنذاراً واستشرافاً للأحداث المستقبلية من رواية قصص الماضي؛ فإن الهند ستنزلق نحو حرب أهلية مدمرة.

Exit mobile version