الأزمة الليبية.. نحو فصل جديد من الفوضى الممنهجة

 

عملياً، تعتبر سنة 2014م البداية الحقيقية للأزمة الليبية؛ ففي هذه السنة اندلعت حرب عملية “فجر ليبيا”، واندلعت فيها أيضاً حرب “عملية الكرامة”، كما أنها شهدت بداية الانقسام السياسي عندما تشكلت حكومتان؛ إحداهما في شرق ليبيا والأخرى في غربها، وإن كانت البلاد وبفضل الدور الذي قامت به بعثة الأمم المتحدة الدائمة في ليبيا، قد استطاعت أن تنهي نسبياً حالة الانقسام السياسي الذي تمر به عندما تم توقيع اتفاق الصخيرات في أواخر عام 2015م.

غياب الإرادة الوطنية والحد الأدنى من الثقة والتدخلات الإقليمية والدولية أدى إلى تفاقم الأزمة بشكل أكبر

لكن غياب الإرادة الوطنية وغياب الحد الأدنى من الثقة بين أطراف الصراع الليبي، إضافة إلى سبب آخر مهم وهو الدور السلبي للتدخلات الإقليمية والدولية، كل ذلك أدى إلى تفاقم الأزمة بشكل أكبر مما كانت عليه، ووصل بها إلى درجة الصدام المسلح من جديد، عندما شن حفتر حرباً على طرابلس في أبريل 2019 انتهت بتعرضه للهزيمة في يونيو 2020، وكان من أهم نتائجها توقيع اتفاق سياسي جديد من رحم اتفاق الصخيرات في عام 2021 بمدينة جنيف، إلا أن هذا الاتفاق هو أيضاً مهدد اليوم بالانهيار إن لم يكن قد انهار فعلاً نتيجة للصراع القوي الحاصل بين القوى الليبية الرئيسة حول تفسير نصوص هذا الاتفاق، وحول أحقية كل منها بشرعية الحكم وإدارة الموارد المالية للدولة.

مضامين حادة

أهم ملامح هذا الصراع وأخطرها أنه يحمل مضامين حادة جداً تؤشر إلى أن نتائجه ستكون كارثية جداً على مستقبل العملية السياسية في هذا البلد، وربما بنسبة كبيرة ستؤدي إلى تشظيه وانقسامه.

السؤال هنا: هل السياق الأخير للأزمة الليبية يأتي في ظل مسارات طبيعية منطقية وبالضرورة ستكون هذه هي نتائجها المتوقعة، أم في ظل سياق ممنهج يدار بطريقة معينة الهدف منها الوصول إلى نتائج محددة ومتفق عليها، مع إظهارها بأنها ليست هي المقصودة، وبأن الجميع قد بذل أقصى ما في جهده من أجل منع حدوثها؟

المتابع للأزمة الليبية قد لا يجد كثير عناء ليدرك أن هذه الأزمة ظلت طوال السنوات الماضية رهينة مجموعة ثابتة من العناصر الحاكمة التي ظلت تتنازع ترتيب درجة قوة تأثيرها من سنة لأخرى.

الدولة الليبية تفتقر للنخب المجتمعية التي تمتلك عقلاً سياسياً قادراً على صناعة الرؤية والمشروع السياسي المناسب

أهم هذه العناصر على الإطلاق هو افتقار الدولة الليبية للنخب المجتمعية التي تمتلك عقلاً سياسياً قادراً على صناعة الرؤية والمشروع السياسي المناسب لإخراج البلاد من أزمتها السياسية التي تعاني منها، رؤية ومشروع سياسي يجيب عن كل الأسئلة الحرجة التي تعيق الوصول إلى الخارطة التي تمتلك أكبر قدر ممكن من خصائص القابلية للتطبيق، هذا إضافة إلى عناصر حاكمة أخرى لعل أهمها سيطرة غريزة متقدمة جداً من شهوة البقاء في السلطة عند جل الشخوص التي استطاعت في لحظة فارقة أن تتموضع بديمومة في مفاصل الدولة السياسية المالية والإدارية في السنوات الخمس الأولى من عمر ثورة فبراير، كل ذلك دون أن نغفل محورية عناصر حاكمة أخرى لا تقل أهمية من قبيل خوف هذه الشخوص المشار إليها آنفاً مما قد يترتب عن أي حالة استقرار دائمة من متابعات وملاحقات قانونية وحقوقية ليست هي بمأمن منها.

ومع كل ذلك، يظل العنصر الحاكم الأهم في مسار الأزمة الليبية هو ذلك الدور المحوري الذي أصبحت تؤديه القوى الإقليمية والدولية في صيرورة الأزمة ومآلاتها، حيث تكاد تكون كل القوى السياسية الليبية الآن مرتهنة بشكل تام وبقابلية عالية من الخضوع والتبعية لمن يتولى إدارة الملف الليبي في الدوائر المخابراتية لهذه القوى الإقليمية والدولية.

كل هذا يحدث أولاً في وسط حالة متقدمة جداً من تضليل إعلامي ممنهج يستهدف به مواطني هذا البلد بغية تحقيق الأهداف السياسية للأطراف الرئيسة في الصراع الليبي داخلياً وخارجياً، وفي وضعية وصلت فيها البلاد إلى درجات غير مسبوقة من مستويات الفساد الإداري والمالي كان من أكبر ضحاياه انهيار القيم والأعراف الحاكمة لمنظومة العلاقات المجتمعية التي طالما تميزت بها هذه الدولة الليبية.

العنصر الحاكم الأهم في مسار الأزمة الليبية هو الدور المحوري الذي أصبحت تقوم به القوى الإقليمية والدولية

فصل جديد

كل ما سبق قد يسمح لنا بالقول: إن الطريقة والكيفية التي تم بهما تكليف حكومة جديدة برئاسة فتحي باشا آغا ما هي إلا بداية لفصل جديد من فصول الأزمة الليبية أصبح فيه القول بأن هناك ضوءاً ما في آخر النفق نوعاً من التفاؤل المحمود ليس إلا.

ما من شك أن ظهور حكومة جديدة برئاسة باشا آغا، ورفض الحكومة الحالية التسليم لها مع عدم اعتراف جل القوى المؤثرة في المنطقة الغربية بهذه الحكومة، يدفعنا للاقتراب أكثر من الافتراض القائل بأن هذه الصيرورة التي تبدو عليها الأزمة الليبية ليست عبثية، وإنما على درجة عالية من المنهجية تتحكم في مفاصلها ومراحلها عقول سياسية، كل همها تحقيق مصالح قوى إقليمية ودولية، ولو على حساب مصالح ومستقبل هذا البلد المنكوب، مستفيدة في ذلك من توافر قابلية عالية للتماهي مع ذلك من قبل من قدر لهذا لبلد أن يتحكموا في قراره السياسي والمالي.

في المجمل، آخر التصريحات الصادرة عن ستيفاني وليمايز التي جاءت بعد أداء من تمكن من أعضاء حكومة باشا آغا لليمين الدستورية في مجلس النواب، وقالت فيها بالنص: إنها بصدد إرسال خطاب إلى مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة بخصوص المشاورات التي تقترح الشروع بها على الفور لوضع أساس دستوري ينقل البلاد إلى الانتخابات في أقرب وقت ممكن، تصريحات تسمح لنا بالتوقع بأن البلاد مقبلة على فصل جديد يبدو أنه أشد صعوبة من جولات الحوار.

الوصول إلى ذروة التأزم كثيراً ما يكون البداية الأنسب للانطلاق نحو تحقيق الانفراج

العناصر الحاكمة التي أشرنا إليها آنفاً تجعلنا نقول: إن أي مخرجات يمكن أن تتمخض عن هذه الجولات ستكون نتائجها حتماً كنتائج جولات الحوار السابقة، ليستمر ترحيل الأزمة بعناصرها الحاكمة مع تدوير شخوصها وفقاً لمقتضيات متطلبات المرحلة المصطنعة القادمة.

كل ذلك يحدث في وسط أحداث إقليمية ودولية متسارعة لا يمكن بأي حال من الأحوال القول بأن الأزمة الليبية لن تتأثر بتطوراتها وتداعياتها، لكن مع كل ذلك تخبرنا حقائق التاريخ بأن الوصول إلى ذروة التأزم كثيراً ما يكون هو البداية الأنسب للانطلاق نحو تحقيق الانفراج، وما من شك أن التطورات الأخيرة في الأزمة الليبية تحمل كل سمات وصولها إلى الذروة.

Exit mobile version