شعبان شهر الانتباه

 

عبادة الانتباه سبب لصلاح دين الإنسان ودنياه، فإذا غفل قائد السيارة عن قيادته للحظات، أو غفل العامل عما بين يديه من عمل، أو غفل صانع القرار عما يحيط به من ملابسات؛ وقعت الواقعة وتضرر الجميع، وإذا غفل الإنسان عن مهمته في هذه الحياة خسر الدنيا والآخرة.

كان الصحابة رضوان الله عليهم في منتهى اليقظة لحركات النبي صلى الله عليه وسلم وسكناته يتابعون ما يصدر عنه صلوات الله وسلامه عليه من فعل أو ترك، وإذا فعل شيئاً لاحظوا في أي الأوقات يكرر هذا الفعل أكثر من غيره، ومن ملاحظتهم لعبادة النبي صلى الله عليه وسلم قال له أسامة بن زيد رضي الله عنهما: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم في شعبان؟ قال: “ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يُرفعَ عملي وأنا صائم” (مسند أحمد)، أسامة رضي الله عنه منتبه لصيام النبي صلى الله عليه وسلم وقد أسفر  هذا الانتباه عن ملاحظة دقيقة وهي أن صيام النبي صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان أكثر من صيامه في بقية الشهور، سأل أسامة رضي الله عنه عن سر ذلك، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب كثرة الصيام في شعبان بأنه شهر يغفل عنه الناس.

نبهتنا هذه العبارة النبوية الشريفة إلى الغفلة عن مواطن الخير، وكم تفوت على الإنسان من منافع، فأكثر التجار ربحاً أولئك الذين انتبهوا لحركة السوق والسلع الرائجة أو التي يمكن أن تروج، وأكثر الطلاب حصولاً على المعدلات العليا أولئك الذين انتبهوا لما يدرسون، وانتبهوا في أوقات الامتحان للمغزى من السؤال، وهكذا يفوز أهل الانتباه في الدنيا.

إن المواضع التي يجب أن ننتبه لها في حياتنا كثيرة، منها:

1- الانتباه إلى الشكر عندما نستخدم نعمة من نعم الله تعالى، فكثير من الناس يتلهى بالنعمة ويفوته أن الشكر سبب للإحساس بالنعمة والتلذذ بها، فكم من أناس يتقلبون في النعيم ويشعرون بالتعاسة لأنهم لم يقولوا يوماً: يا ربي لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وآخرون يفقدون النعم ويبحثون عن كل الطرق التي يظنون أنها ستعيد لهم ما فقدوا وينسون طريق الله المستقيم، يطرقون كل الأبواب ويغفلون عن الوقوف أمام باب الكريم سبحانه وتعالى.

2- الانتباه إلى أن طريق الانحراف عن الصراط المستقيم يبدأ بخطوة، وأن الحكماء يقولون: معظم النار من مستصغر الشرر، فإذا أطفأنا الشرارة الصغيرة جنبنا أنفسنا الحرائق الكبيرة، وإذا أغلقنا الأبواب أمام الفواحش نكون قد اعتصمنا بالله تعالى، أما ترك الأبواب مفتوحة ولو قليلاً لتمر منها رائحة الفتن والفساد ثم لا تزال هذه الرائحة تزداد حتى تزكم الأنوف وتحول بيننا وبين الإحساس بالطيبات وتهجم على القلب لتغيره، وكان يكفينا الانتباه من أول الأمر بغلق أبواب الشر واليقظة لأوائلها حتى لا نتورط في نهاياتها.

3- الانتباه إلى الأثر الذي يجب أن تتركه كل عبادة على القلب، فكل العبادات -إذا أديت بطريقة صحيحة- تركت نوراً في القلب يطرد هذا النور بدوره شياطين الإنس والجن، ويطهر هذا النور القلب من آثار المعاصي، ولا يزال هذا النور يزداد حتى نصل إلى القلب السليم الذي ينفع العبد في الدنيا والآخرة، فكوننا نؤدي العبادات دون أن يكون لها أثر في راحة القلب والإقبال على الله وطرد الهموم والحصول على القوة الروحية والبدنية معناه أننا بحاجة إلى إعادة النظر في طريقة أدائنا للعبادات.

4- الانتباه للأوقات الفاضلة التي تنزل فيها بركات الله على خلقه ورحماته في الثلث الأخير من الليل وبين الأذان والإقامة وفي يوم الجمعة وساعة الإجابة فيه وغير ذلك من أوقات يمكن استثمارها للتقرب من الله تعالى.

5- الانتباه لما أعطانا الله تعالى من نعم موجودة لكننا لا نشعر بها وهي كثيرة، فلا نشعر بنعمة دخول الهواء إلى الرئة إلا عندما يصيب مدخل النفس التهاب، لا نشعر بالمواهب التي أعطانا الله تعالى إلا عندما يحدث موقف أو يأتي شخص منتبه يملك البصيرة ليكتشف هذه النعمة ويوجهنا إلى حسن استثمارها، كم عند أبنائنا وبناتنا وزوجاتنا من نعم تحتاج إلى فرصة للاكتشاف والانطلاق والتطوير ومن ثم يجني الجميع الخير.

6- الانتباه إلى ما يحدث حولنا سواء في المحيط الضيق أو المحيط الواسع، فالعالم أصبح كما يقال قرية صغيرة أو تقارب حتى صار شارعاً في قرية صغيرة، وإذا أصيب أحد الاقتصادات الفاعلة بالزكام عانى العالم من العطاس، وإذا تمت ترجمة كشف علمي إلى اختراع بيد الناس كسدت صناعات وبارت تجارات، وإذا حدثت أزمة بين بلدين في أقصى الأرض تأثرت تجارات وزراعات وصناعات وأحوال في بقية الأرض.

ننتبه إلى أن العلاقات التي تقوم على المصالح لا تثق فيها بعهد ولا وعد، وإن أخذت عليه أغلظ المواثيق لأن عالم المصالح دائم التغير، وكذلك وجهة أهل المصالح دائمة التغير.

ينتبه المسلم إلى الجحور التي لدغ منها من قبل، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وليس من الإيمان ولا من الانتباه -وهو من دواعي الإيمان- أن نقع في نفس الفخ، وأن نذهب بأرجلنا إلى أولئك المخادعين الذين عانينا منهم من قبل ليعيدوا الكرة مرة أخرى، فالمسلم المنتبه يتعلم من التجارب الناجحة والتجارب غير الناجحة يستفيد منها ألا يكرر المأساة نفسها لأن تكرار النتيجة أمر حتمي.

الغفلة عارض من الممكن أن يصيب القلب لكننا ندفعه بالذكر؛ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف: 201).

ينبغي أن ننتبه إلى مؤشرات المحبة أو الفتور داخل الأسرة الواحدة، فهي علامات تؤثر في العلاقات الأسرية، وتكشف عن سيرها في المسار الطبيعي أو حاجتها لجرعة من الحنان والحب والرعاية من أفراد الأسرة بعضهم لبعض، ونفس الشيء ينطبق على الأصدقاء.

ولأن الإنسان يستيقظ ويغفل وينتبه وينسى كان من الضروري معذرة الإنسان فيما يصيبه من أحوال الغفلة، لكن من لطف الله تعالى بالإنسان ومحبته له أنه سبحانه يوقظه من هذه الغفلة ليعيد له الانتباه بمثل تلك الأزمات التي تصيب العبد، ويجد أنها كاشفة عن مدى متانة علاقاته بالناس وقيامها على المحبة أو المصلحة، وعندما يشعر بالعجز التام منه ومن كل أصحاب القوى المحيطة به ويكتشف أنه لا بد أن يلجأ إلى الله تعالى ليكشف كربته عند ذلك يعود إلى الانتباه الذي فقده.

مصاحبة أهل الانتباه الذين يقوم بعضهم بحق بعض ويتفقد بعضهم بعضاً بعيداً عن التجسس المنهي عنه، بل تفقد المحب لحبيبه ينبهون الغافل ويذكرون الناسي ويعلمون الجاهل.

رفع النبي صلى الله عليه وسلم من شأن المنتبهين أصحاب العقول اليقظة والقلوب الحية حين قال: “عبادة في الهرج كهجرة إليَّ”، جعل النبي صلى الله عليه وسلم العبادة وقت غفلة الناس عن العبادة وعنايتهم بالفتن وأخبارها وتقلباتها كالهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن القلوب المنتبهة والعقول اليقظة دائماً تهاجر من واقع لا تحبه وحال لا ترضى به إلى معالي الأمور وأشرف الأحوال.

قد يستمتع الغافل بوقت قليل لكنه يتحسر على كل لحظة فاتته كان بإمكانه أن يترقى لكن غفلته حرمته من ذلك.   

إن الأمة الإسلامية التي تحب نبيها وتقتدي به هي أمة الانتباه لا تضيع وقتاً دون أن تترك أثراً صالحاً، ودون أن تتقدم خطوة للأمام دون أن تزيد من قوتها بالحق وللحق، ودون أن تري الله تعالى من نفسها خيراً، ودون أن يرى الناس منها الخير الذي يحببهم في الدين ويقربهم من الله.

تتذكر الأمة هذه اللفتة النبوية في حديث أسامة رضي الله عنه فتجعل من شهر شعبان شهر الانتباه للخير والانتباه لمواضع القصور والانتباه لمكائد شياطين الإنسان والجن.

Exit mobile version