ماذا تحمل زيارة أردوغان الأخيرة إلى إفريقيا؟

في جولة هي الأولى إفريقيا في عام 2022، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كلاً من الكونغو الديمقراطية (زائير سابقاً) والسنغال، ضمن مناطق النفوذ الفرنسي، الذي يشهد تراجعاً ملحوظاً، آخره قرار الانسحاب العسكري من مالي.

الجولة التي بدأها الرئيس أردوغان، من الكونغو الديمقراطية (وسط إفريقيا) في 20 فبراير/شباط 2022، كان من المقرر أن يختمها في 23 من ذات الشهر من غينيا بيساو، إلا أنه أجلّ زيارتها واكتفى بلقاء رئيسها عمر سيسكو إمبالو.

واختصر أردوغان رؤيته الاستراتيجية للقارة السمراء، بالقول: “الألفية الثالثة ستكون عصر إفريقيا”، وهذا ما يفسر تكثيفه جولاته الإفريقية، أكثر من أي زعيم آخر.

فمضاعفة التبادل التجاري مع الدول الإفريقية، يمثل قاطرة الشراكة الاستراتيجية التي تتبناها تركيا، وأشار إليها الرئيس أردوغان، خلال تواجده في السنغال، عندما تحدث عن “ارتفاع إجمالي تجارتنا مع القارة الإفريقية من 5.4 مليار دولار في عام 2003 إلى 34.5 مليار دولار بحلول نهاية عام 2021”.

وإذا استثنينا الدول العربية في شمال القارة السمراء، فإن حجم التجارة مع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بلغ بحسب أردوغان، “11.7 مليار دولار في عام 2021، بعد أن كان 1.3 مليار دولار في عام 2003”.

ولم يفت أردوغان الإشارة إلى انعقاد منتدى الأعمال التركي الإفريقي الثالث في إسطنبول يومي 21 و22 أكتوبر/تشرين الأول 2021، ومؤتمر القمة الثالث للشراكة بين تركيا وإفريقيا في إسطنبول أيضاً يومي 17 و 18 ديسمبر/كانون الأول من نفس العام.

ويشكل استمرار انعقاد منتدى الأعمال ومؤتمر القمة التركية-الإفريقية، الأهمية الاستراتيجية التي يوليها الرئيس أردوغان في توسيع آفاق هذه الشراكة إلى أبعد مدى.

مطاردة النفوذ الفرنسي المتداعي

إلا أن الرئيس التركي يركّز زياراته في الفترة الأخيرة على مناطق النفوذ الفرنسي المتداعي في غرب إفريقيا، ففي آخر جولتين له للقارة السمراء، زار 5 دول ناطقة بالفرنسية من إجمالي 6، بما فيها الكونغو الديمقراطية، التي خضعت للاستعمار البلجيكي، لكنها ضمن ما يسمى بـ”فرنسا-إفريقيا”.

وبعد أن تركز تعاون تركيا مع إفريقيا في قطاع المقاولات والمبادلات التجارية، توسع هذا التعاون إلى ميادين أكثر استراتيجية على غرار الاستثمارات والتعاون العسكري.

كما فرض وباء كورونا “دبلوماسية التلقيح”؛ إذ تعد تركيا من أبرز الدول التي قدمت لقاحات ومستلزمات طبية إلى الدول الإفريقية، خاصة تلك التي تعاني من هشاشة منظومتها الصحية.

فمن بين أكثر من مليار نسمة، إجمالي سكان إفريقيا، لم يتلق سوى 11% منهم تلقيحاً كاملاً ضد كورونا، بحسب الاتحاد الإفريقي، وهو رقم بعيد جداً عن المعدل العالمي الذي يتجاوز 54%، في الوقت الذي تجاوزت أغلب الدول الأوروبية نسبة 70% من تلقيح مواطنيها.

وفي هذا الصدد، تعهّد أردوغان، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بإرسال “15 مليون جرعة من اللقاحات المضادة لفيروس كورونا إلى إفريقيا”، خاصة بعد انطلاق إنتاج اللقاح التركي “توركوفاك”.

وتبرعت تركيا بـ100 ألف جرعة من لقاح كورنا إلى الكونغو الديمقراطية، على هامش زيارة أردوغان لكينشاسا.

ولا يبدو اختيار كل من الكونغو الديمقراطية والسنغال اعتباطياً، بل لكل دولة من الدولتين أهميتها الخاصة.

الكونغو الديمقراطية.. قلب إفريقيا

تعد الكونغو الديمقراطية (زائير سابقا) أكبر بلد إفريقي من حيث المساحة بعد الجزائر، وعدد سكانها يفوق 100 مليون نسمة، أو ما يقارب عدد سكان مصر، وتضم أكبر عدد من الناطقين بالفرنسية.

وبفضل مناخها الاستوائي ومساحتها الكبيرة (2.345 مليون كلم مربع) تزخر الكونغو كينشاسا بمساحات زراعية شاسعة وكمية تساقط أمطار معتبرة، ومحاصيل متنوعة، ناهيك عن المعادن المختلفة، مثل الكوبالت (الأولى عالمياً) والألماس والنحاس.

إلا أن البلد العملاق، من حيث تنوع خيراته الطبيعية، عانى، منذ استقلاله عن بلجيكا في 1960، من عدة أزمات وحروب أهلية ونشاط لعدة جماعات متمردة وحتى إرهابية مرتبطة بتنظيم “داعش”، ما عرقل نموه وتطوره.

لذلك تمثل زيارة أردوغان إلى الكونغو، فرصة تاريخية للبلدين لتعزيز التعاون الأمني والعسكري، بالدرجة الأولى، وتطوير البنية التحتية، والاستثمار في قطاعات مختلفة.

وهذا ما أشار إليه الرئيس الكونغولي فليكيس تشيسكيدي، في ندوة صحفية مع أردوغان، على هامش الزيارة، قائلاً إن تركيا ستقدّم الدعم لبلاده في مكافحة الإرهاب، وستشارك تجاربها وخبراتها في هذا المجال معها.

إذ إن المناطق الشرقية من الكونغو الديمقراطية المحاذية لأوغندا، تعج بالجماعات المتمردة والانفصالية والمصنفة إرهابية، بلغت أكثر من 120 جماعة مسلحة، بحسب منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية، وعلى رأسها “القوات الديمقراطية المتحالفة”، التي تنشط منذ 1995، وضاعفت عملياتها ضد المدنيين منذ 2014، خاصة بعد إعلانها الانضمام إلى تنظيم “داعش”.

وبفضل الخبرة التي تمتلكها في مكافحة التنظيمات الإرهابية، والأسلحة التي تطوّرها وبالأخص طائرات بيرقدار المسيرة، يمكن لتركيا تقديم الدعم لكينشاسا في إعادة الاستقرار لشرقها المضطرب، ما سيمهّد لفتح باب الاستثمار في هذه المنطقة الغنية بالثروات المعدنية.

وبناء على ذلك، شدد تشيسكيدي، على أن الأولوية في التعاون بين البلدين، هي “للأمن”، وأشار إلى أنه بحث مع أردوغان “زيادة نطاق مكافحة المجموعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية”.

لكنه لم يغفل التعاون في قطاعات أخرى مثل الصحة، والبنية التحتية، والنقل وغيرها من “القطاعات التي لها مستقبل واعد”.

حيث منحت تركيا 100 ألف جرعة لقاح للكونغو الديمقراطية خلال هذه الزيارة، التي تعد من أقل بلدان العالم تحصيناً ضد كورونا؛ إذ حصل 0.4% فقط من السكان على جرعة واحدة على الأقل من اللقاح.

وهذا أحد الأسباب التي تجعل الرئيس الكونغولي، الذي انتهت ولاية رئاسته للاتحاد الإفريقي مطلع فبراير/شباط الجاري، يصف زيارة أردوغان لبلاده بأنها “يوم تاريخي” في علاقات البلدين.

وتسعى تركيا إلى تطوير حجم التجارة مع الكونغو الديمقراطية، التي ما زالت في حدودها الدنيا، وبلغت الصادرات التركية إلى الكونغو الديمقراطية في 2021 نحو 53.7 مليون دولار فقط، رغم العلاقات الجيدة بين البلدين.

السنغال.. بوابة غرب إفريقيا

على عكس الكونغو الديمقراطية، التي استلمت منها رئاسة الاتحاد الإفريقي، تشهد السنغال استقراراً أمنياً وسياسياً، ما يجعلها منطقة مثالية للتجارة والاستثمار، خاصة أنها تعد البوابة الشمالية لدول غرب إفريقيا، وحلقة الوصل الرئيسية بين دول المغرب العربي (موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا) والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.

وتبرز أهمية السنغال كحجر أساس في الرؤية التركية لتوسيع التجارة مع دول المنطقة، من خلال ما صرح به أردوغان، من داكار “نريد أن تصبح السنغال، وهي واحدة من البلدان الرائدة في إفريقيا، مركزاً اقتصادياً وتجارياً وأن تمضي بتنمية القارة إلى الأمام”.

إلا أن التهديد الإرهابي يقترب من السنغال، لوقوعها بجوار منطقة الساحل الملتهبة أمنياً، وبالأخص مالي، ما يجعلها تتجهز لمرحلة صعبة، وهذا ما يفسر توقيع وزيري الدفاع التركي خلوصي أكار، والسنغالي صديقي كابا، اتفاقية إطار في المجال العسكري بين البلدين، على هامش زيارة أردوغان للبلاد.

وهذه الاتفاقية واحدة من ضمن خمس اتفاقيات مختلفة تم التوقيع عليها ضمن هذه الزيارة.

الرئيس السنغالي ماكي سال، عبّر عقب التوقيع على هذه الاتفاقيات عن امتنانه “لحُسن علاقاتنا السياسية والتجارية مع تركيا”، وأشار إلى أن هذا التعاون “يشمل قطاعات الطاقة والزراعة والتعليم والمواصلات والبيئة والصناعة والدفاع”.

وعلى عكس الكونغو الديمقراطية، فإن التجارة مع السنغال أكبر؛ حيث صدرت تركيا بضائع بقيمة 529.5 مليون دولار إلى السنغال، واستوردت منها منتجات بقيمة 10.9 ملايين دولار.

وبينما شهدت الصادرات التركية إلى السنغال زيادة بـ 47%، انخفضت الواردات بنسبة 43%، ويطمح البلدان إلى رفع المبادلات التجارية البينية إلى مليار دولار.

لكن الحدث الأبرز مشاركة الرئيس أردوغان، في مراسم افتتاح “ستاد السنغال” الذي يتسع لـ50 ألف شخص، وبنته شركة تركية، خلال عامين فقط، ويمثل أحد نماذج التعاون الناجح بين تركيا وإفريقيا.

وكانت الزيارة فرصة لأردوغان، للقاء نظيره الألماني فرانك- فالتر شتاينماير، الثلاثاء، داخل “ستاد السنغال”، في ظل تصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية عقب اعتراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، باستقلال منطقتين انفصاليتين في أوكرانيا.

ونظراً للتطورات الساخنة على الساحة الأوكرانية، اضطر الرئيس التركي لتأجيل زيارته إلى غينيا بيساو، التي كانت مقررة الثلاثاء، من أجل المشاركة في قمة قادة حلف شمال الأطلسي “ناتو”، التي ستعقد مرئياً بعد غد الأربعاء.

وختم أردوغان زيارته بتغريدة، كتب فيها “الحمد الله، أتممنا بنجاح زيارتينا إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية والسنغال، ونعود إلى وطننا”.

والنجاح الذي يتحدث عنه أردوغان يتمثل في توقيع مزيد من اتفاقيات التعاون في مجالات مختلفة، وفتح مزيد من الأسواق الإفريقية أمام البضائع والاستثمارات التركية، بالإضافة إلى تجفيف منابع منظمة غولن الإرهابية، في القارة السمراء.

وتحتاج الدول الإفريقية إلى الشراكة التركية لمواجهة التحديات الأمنية التي تحد من تقدمها، وتطوير بنيتها الاقتصادية، والتخلص من التبعية للدول الغربية، وبالأخص فرنسا، بانتهاج سياسة مبنية على المنفعة المتبادلة.

 

Exit mobile version