هكذا واجهت الدولة العثمانية انقلاب أحمد باشا

كشأن أي إمبراطورية كبيرة مترامية الأطراف، واجهت الدولة العثمانية خلال تاريخها الطويل العديد من المحاولات الانقلابية التي استهدفت إسقاط السلطة المركزية أو الانفصال بإحدى ولايات الدولة العثمانية.

وكان من أبرز المحاولات الانقلابية التي تمت خلال العصر الذهبي للدولة العثمانية – عهد السلطان سليمان القانوني- تلك المحاولة التي قام بها أحمد باشا، الذي عينه السلطان سليمان القانوني واليا على مصر.

شارك أحمد باشا في الفتوحات التي قام بها العثمانيون في أوروبا، وبذل جهودا كبيرة في خدمة الدولة العثمانية، ولذا أصبح الوزير الثاني بعد الصدر الأعظم، وكان من المرشحين لتولي الصدارة العظمى بعد عزل بيري باشا الصدر الأعظم لظروفه الصحية.

إلا أن إبراهيم باشا منافس أحمد باشا قد فاز بهذا المنصب ما أثار سخط الأخير وزاد هذا السخط بعد أن استصدر إبراهيم باشا من السلطان سليمان أمرًا بتعيين أحمد باشا واليا على مصر الأمر الذي اعتبره إنقاصا من حقه وقدره.

في أغسطس/ آب عام 1523م، تسلم أحمد باشا مهام منصبه كوالٍ على مصر، ولاحت أمارات رغبته في الانقلاب على الدولة العثمانية سخطًا على فشله في الوصول إلى منصب الصدر الأعظم.

وبدأ أحمد باشا بتعيين المقربين منه في المناصب المختلفة، وأعدم عددا من ضباط الإنكشارية بعد أن أشاع أن السلطان سليمان أرسل إلى قائد الإنكشارية يأمره بقتله وتصفية أمراء المماليك.

إزاء هذه الإجراءات أرسل القاضي محمد زاده إلى الصدر الأعظم في إسطنبول بأن أحمد باشا ينوي إعلان التمرد على الدولة العثمانية بعد أن قتل معارضيه ومالأ المماليك وقتل قادة وضباط الإنكشارية الموالية للسلطان العثماني.

وقد استفاد أحمد باشا في انقلابه من أمرين، أولهما بعد مصر عن عاصمة الدولة العثمانية، والثاني هو نقمة أمراء المماليك على الحكم العثماني، ومن ثم رأى أنه يمكنه الاعتماد عليهم في تنفيذ الانقلاب.

قام أحمد باشا بتأسيس جيش خاص به من المماليك، والذين استمالهم بشدة وأعلن العفو عمن كان يعارضه منهم وأعاد من كان قد عزل منهم من منصبه إلى عمله.

وإمعانًا في إظهار العصيان صكّ أحمد باشا عملة جديدة باسمه، وأجبر شيخ الإسلام على أن تكون الخطبة باسمه، وحاصر القلعة التي تحصن بها الإنكشارية الذين رفضوا الانصياع لأوامره، حتى ألجأهم للفرار منها.

كان العثمانيون يخشون من قيام أحمد باشا بالتحالف مع الصفويين، فاستغلوا سلاح الدعاية بمهارة وذكاء، فروجوا بأن أحمد باشا قد تشيّع تأثرًا بالصفويين، فنجحت في تشويه صورته أمام أتباعه، وأمام الشعب المصري، فأصدر قضاة المذاهب الفتاوى في التصدي لأحمد باشا، ما أضعف موقفه بشكل كبير.

كان السلطان سليمان قد أرسل القاضي محمد زاده مرافقًا لأحمد باشا عندما توجه لاستلام مهام الإدارة في مصر، ولما حدث الانقلاب اضطر القاضي إلى التظاهر بولائه لأحمد باشا، بينما كان في حقيقة الأمر مواليا للسلطان العثماني.

وظل القاضي محمد زاده يراسل السلطان سرًا، وقام بانقلاب مفاجئ على أحمد باشا، حيث قام بتحرير قادة الإنكشارية الذين سجنهم، وحمل الراية ونادى في القاهرة: “من أطاع الله ورسوله والسلطان فليقف تحت هذه الراية”.

وانضم إلى القاضي محمد زاده عدد كبير من الجنود والمصريين، وشنوا هجوما على أحمد باشا الذي فرّ إلى منطقة الشرقية، وكوّن قوة عسكرية من المماليك وبعض الجنود العثمانيين الموالين له، إضافة إلى العربان، ووعد القبائل بإعفائهم من الضرائب ثلاث سنوات إن ساعدوه في السيطرة مرة أخرى على القاهرة.

تولى القاضي محمد زاده نيابة عن العثمانيين إدارة شؤون البلاد، وعيّن قائدًا جديدا للانكشارية، كما قام بتعيين أحد قادة الجيش العثماني حاكمًا على القاهرة، وتم إعلان التعبئة العامة للتخلص من أحمد باشا الذي لُقّب بالخائن.

انطلقت قوة عسكرية من القاهرة للقضاء على أحمد باشا الخائن، لكنها فشلت، ما جعل القاضي محمد زاده يرسل آغا الإنكشارية على رأس حملة عسكرية مزودة بتسعة مدافع، مستغلًا الانشقاق الذي حدث في صفوف القبائل العربية التي مالأت أحمد باشا، بسبب خوفهم من الوقوع تحت طائلة السلطان العثماني، فتراجعت كثير من القبائل عن دعمه.

تمكنت القوات العثمانية من دحر أحمد باشا، ثم قامت بقطع رأسه وتعليقه على باب زويلة في السادس من مارس/ آذار عام 1524م، ثم أرسل إلى السلطان في إسطنبول حتى يتأكد من مقتله بنفسه.

تيقظت الدولة العثمانية بعد إجهاض هذا الانقلاب إلى ضرورة إجراء تعديلات إدارية في نظام الحكم حتى تقطع الطريق على النزعات الانفصالية.

وأصدر السلطان سليمان أوامره إلى الصدر الأعظم بالتوجه إلى مصر على رأس قوة عسكرية كبيرة، لإجراء تنظيمات إدارية وسياسية جديدة أطلق عليها “قانون نامه مصر”، تضمنت نظاما معقدا من الناحية السياسية والإدارية والعسكرية لتفادي تكرار الانقلابات والحركات الانفصالية.

لقد أظهرت تلك المحاولة الانقلابية قوة سلاح الدعاية، والتي تمكنت من صرف كثير من أتباع وحلفاء أحمد باشا عنه.

كما أبرزت تلك الأحداث نوعية القضاة والعلماء العثمانيين الذين لم يكونوا مجرد فقهاء منظّرين، بل كانوا على وعي بأمور الحكم والإدارة والسياسة، وهو الذي تمثل في قيادة القاضي محمد زاده للحركة الثورية ضد أحمد باشا بالتنسيق مع السلطة في إسطنبول، وقيامه بإدارة البلاد وتسيير أمورها.

 

Exit mobile version