هل يتحول “التدخل” الروسي إلى اجتياح شامل للأراضي الأوكرانية؟

اندلعت الحرب في أوكرانيا، وبدأت روسيا ما وصفتها بعملية عسكرية في إقليم دونباس، فهل يتحول هذا “التدخل” الروسي إلى غزو أو اجتياح شامل للأراضي الأوكرانية؟ وما فرص صمود كييف في تلك الحالة؟
 
كان الأوكرانيون والروس والعالم أجمع قد استيقظوا، الخميس 24 فبراير/شباط، على وقع الحرب في أوكرانيا، بعد أن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن بدء عملية عسكرية في دونباس: “مجمل تطورات الأحداث وتحليل المعلومات يُظهر أن المواجهة بين روسيا والقوى القومية في أوكرانيا لا مفر منها.. إنها مسألة وقت”.
 
ومنذ وقَّع بوتين، مساء الإثنين 21 فبراير/شباط، مرسوماً يعترف باستقلال دونيتسك ولوغانسك، وهما منطقتان انفصاليتان تقعان في إقليم دونباس شرق أوكرانيا، ازدادت المخاوف من أن الخطوة التالية لموسكو ستكون إرسال قوات إلى تلك المناطق ومن ثم إعلان ضمها إلى روسيا، وهو السيناريو الذي نفذه بوتين في شبه جزيرة القرم عام 2014.
 
 
لكن لأنَّ الانفصاليين في شرق أوكرانيا لا يسيطرون سوى على نحو ثلث مساحة إقليم دونباس، كانت هناك تكهنات بأن روسيا ستساعد الانفصاليين على إحكام السيطرة على الإقليم بالكامل، خصوصاً أن بوتين أعلن بالفعل دعمه لمزاعم الانفصاليين بأن الإقليم بالكامل يتبعهم لكن الجيش الأوكراني استولى عليه بالقوة.
 
روسيا لا تتحدث عن “غزو” أوكرانيا
يمكن القول إن الجولة الحالية من التصعيد في الأزمة الأوكرانية قد بدأت قبل بضعة أشهر عندما تحدثت تقارير استخباراتية أمريكية عن حشد روسيا قواتها على الحدود الأوكرانية استعداداً لغزو جارتها، ورجحت تلك التقارير أن يبدأ الغزو الروسي في وقت ما من شهر يناير/كانون الثاني الماضي. لكن موسكو نفت وجود أي نية لديها لغزو أوكرانيا واتهمت الغرب بدق طبول الحرب من خلال السعي لضم أوكرانيا لحلف الناتو ونشر قوات للحلف في أوروبا الشرقية على مقربة من روسيا.
 
وبالتالي فإن الأزمة الأوكرانية هي بالأساس أزمة جيوسياسية يريد من خلالها بوتين أن يحصل على ضمانات من نظيره الأمريكي جو بايدن بأن كييف لن تنضم أبداً إلى حلف الناتو، إضافة إلى سحب الحلف العسكري الغربي أسلحته وقواته التي نشرها في دول أوروبا الشرقية التي كانت أعضاء في الاتحاد السوفييتي السابق.
 
لكن الأزمة الأوكرانية ليست وليدة أحداث هذه الأشهر الأخيرة، والتي وصلت إلى اندلاع الحرب في أوكرانيا، بل يرجع تاريخ تفجرها إلى عام 2013 عندما اندلعت انتفاضة أوكرانية ضد الرئيس يانكوفيتش بعد رفضه التوقيع على اتفاقيات الشراكة بين كييف والاتحاد الأوروبي، وما تلا ذلك من أحداث دموية سقط فيها مئات القتلى والجرحى من المدنيين برصاص قوات الأمن ومن ثَم الإطاحة بيانكوفيتش وهروبه من كييف.
 
 وكردّ فعل على الإطاحة بيانكوفيتش، الذي ينحدر من مدينة دونيتسك في إقليم دونباس، اندلعت حركات انفصالية في الأقاليم الشرقية من أوكرانيا كشبه جزيرة القرم ودونباس. تلك الحركات الانفصالية مدعومة من روسيا، التي رأت في الإطاحة بيانكوفيتش مؤامرة غربية، وأعلن الانفصاليون في القرم الاستقلال واعترفت بهم روسيا ثم طلبوا الانضمام إلى روسيا، وهو ما حدث بالفعل.
 
في ذلك الوقت أعلنت دونيتسك ولوغانسك انفصالهما، وكلتاهما منطقتان ضمن إقليم دونباس، لكن روسيا لم تعترف بهما وقتها وإن واصلت تقديم الدعم لهما بصورة غير رسمية، وطالبت روسيا أوكرانيا بالتفاوض مباشرة مع المسؤولين في المنطقتين الانفصاليتين، لكن الحكومة الأوكرانية رفضت ذلك تماماً وأصرت على أن تتولى موسكو التفاوض مباشرة نيابةً عن الانفصاليين. وتم التوصل إلى اتفاقيات مينسك عام 2014 و2015، والتي رسمت خطاً للتماس بين القوات الأوكرانية والانفصاليين في دونباس.
 
قرار الاعتراف بدونيتسك ولوغانسك
في ضوء التطورات التي شهدتها الأزمة الأوكرانية منذ إعلان بوتين الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك، بات واضحاً أن الرئيس الروسي قد اتخذ قرار التدخل العسكري في أوكرانيا، وهو ما حدث بالفعل الخميس، لكن يظل السؤال هو إذا ما كان ذلك “التدخل” سيظل رهناً بإقليم دونباس أم سيتحول إلى اجتياح عسكري شامل لجميع الأراضي الأوكرانية؟
 
وجهة النظر الروسية، في مجمل الأزمة، تتلخص في إلقاء اللوم على الغرب منذ الإطاحة بالرئيس الأوكراني يانكوفيتش عام 2014، وتعتبر موسكو أن ما حدث كان انقلاباً مدعوماً من الغرب، وبالتالي فإن جميع الخطوات التي اتخذها الرئيس الروسي للتعامل مع تلك الأزمة حتى الآن يمكن قراءتها في ضوء ما يريده، وهو وقف تمدُّد حلف الناتو في أوروبا شرقاً.
 
فعندما تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 كانت هناك تفاهمات ووعود بين الروس والأمريكيين بأن حلف الناتو لن يتمدد شرقاً بوصة واحدة، لكن ما حدث هو أن الحلف تمدد شرقاً بأكثر من 965 كلم، بعد أن ضم بولندا ودول البلطيق، ولم يعد يفصل الحلف الغربي عن الحدود الروسية سوى أوكرانيا، وبالتالي فإن بوتين قرر جعلها “الخط الأحمر” الجديد في تعامله مع الغرب.
 
وفي ضوء هذه القراءة يمكن تفسير جميع القرارات التي اتخذها بوتين حتى اليوم كما يمكن استشراف خطوته المقبلة في هذا الصراع، خصوصاً أن رد فعل الغرب ستكون له تداعيات مباشرة على تلك الخطوة الروسية المقبلة.
 
قرار اعتراف روسيا باستقلال دونيتسك ولوغانسك، الذي يمكن القول إنه تأخر نحو 8 سنوات، كان مؤشراً على أن الخطوة التالية للرئيس الروسي ستكون إرسال قوات إلى تلك المناطق، بموجب اتفاقيات الصداقة التي وقَّعها مع رئيسَي الجمهوريتين الانفصاليتين. لكن إرسال القوات الروسية لم يتم حتى الخميس، ولم يتم الاعتراف رسمياً حتى الآن من جانب روسيا بأن قواتها دخلت أوكرانيا من الأساس، فماذا يعني ذلك؟
 
 
قال بوتين، الإثنين، عندما وقّع مرسوم الاعتراف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين، إنه سيتم إرسال قوات روسية لحفظ السلام هناك، لكن الرئيس الروسي قال، الثلاثاء، إن ذلك لا يعني إرسال القوات على الفور، لافتاً في الوقت نفسه إلى اعتراف روسيا باستقلال إقليم دونباس كاملاً، وكان هذا تصعيداً واضحاً ورسالة إلى الغرب تحمل في طياتها خطوته التالية، وهي فرض السيطرة على الأراضي التي لا تزال القوات الأوكرانية تسيطر عليها في الإقليم، وهي في حقيقة الأمر ضعف ما يسيطر عليه الانفصاليون.
 
“العملية العسكرية” التي بدأها الروس، الخميس، إذاً لا تعتبر غزواً ولا اجتياحاً من الأساس، بل هي “تدخُّل” يهدف إلى “حماية مواطني دونباس” من بطش الجيش التابع لحكومة كييف، هذه هي وجهة النظر الروسية.
 
هل سيتحول “التدخل الروسي” إلى غزو؟
تتوقف إجابة هذا السؤال على عدد من المتغيرات، منها مسار العمليات العسكرية على الأرض، ورد الفعل الغربي، والأوضاع الداخلية في روسيا ذاتها وفي أوكرانيا أيضاً. فإذا تمكنت القوات الانفصالية، المدعومة من روسيا بطبيعة الحال، من حسم السيطرة على إقليم دونباس بالكامل في إطار زمني قصير ودون خسائر ضخمة في الأرواح والمعدات، قد يشجع ذلك بوتين على أن يواصل “المسيرة العسكرية”، لكن بعد أن يتوقف قليلاً انتظاراً لما سيفعله الغرب.
 
وكان قائد الانفصاليين في دونباس قد قال، في مؤتمر صحفي الخميس، إن هدف العملية العسكرية الرئيسي هو استعادة السيطرة على كامل منطقتي لوغانسك ودونيتسك؛ حيث تقع مناطقهم الانفصالية، مؤكداً أن العملية ستُنهي لحظة السيطرة على كامل المناطق في لوغانسك ودونيتسك، أي إقليم دونباس بالكامل.
 
أوكرانيا روسيا
وقد أعلن الانفصاليون السيطرة على 5 قرى في الساعات الأولى من بدء العملية العسكرية، لكن لا أحد يمكنه التكهن بالمدى الزمني الذي قد تستغرقه سيطرة الانفصاليين على الإقليم بالكامل، وبالطبع إذا ما طال المدى الزمني وارتفعت حصيلة الخسائر بين المدنيين والعسكريين سيمثل ذلك إضعافاً كبيراً لموقف روسيا في الصراع.
 
لكن إذا ما تمكنت القوات الانفصالية، المدعومة من روسيا، من السيطرة بالكامل على إقليم دونباس، فإن السيناريو المرجح هو أن القوات الروسية ستتوقف عن التوغل في أراضي أوكرانيا أبعد من حدود الإقليم، وقد يتكرر سيناريو شبه جزيرة القرم، أي تجري السلطات الانفصالية في الإقليم استفتاءً حول الانضمام إلى الاتحاد الروسي، وبالتالي تضم موسكو إقليم دونباس كما فعلت مع القرم.
 
وفي هذه الحالة، سيكون تحوُّل “التدخل” الروسي في شرق أوكرانيا إلى غزو شامل سيناريو أقل ترجيحاً، بحسب أغلب المراقبين، انتظاراً من بوتين للمرحلة المقبلة من المواجهة مع الغرب، وعلى الأقل لن يكون هذا التحول إلى غزو شامل خطوة تلقائية تلي خطوة السيطرة على دونباس، بل سيكون هناك فاصل زمني.
 
هل تتمكن أوكرانيا من صدِّ غزوٍ روسي شامل؟
لكن ماذا لو وقع المحظور بالفعل وقررت روسيا غزو أوكرانيا بالكامل؟ هل تتمكن كييف من الصمود أمام القوات الروسية؟ إجابة هذه التساؤلات تكشف عنها المقارنة بين الجيشين الروسي والأوكراني من جهة، وبين رد الفعل المتوقع من جانب الغرب من ناحية أخرى.
 
فيما يخص رد الفعل الغربي، لا أحد يتوقع تدخلاً عسكرياً من جانب حلف الناتو أو أمريكا أو أوروبا بشكل منفصل لمساعدة كييف في مواجهة روسيا، وهذا ما أعلنه الرئيس الأمريكي بايدن بشكل واضح وكذلك باقي القادة الأوروبيين: “لن نرسل قوات إلى أوكرانيا”، تلك هي الرسالة.
 
أما عن قوة الجيش الروسي في مواجهة نظيره الأوكراني، فحقيقة الأمر هي أنه لا توجد مقارنة بين الأول وترتيبه الثاني عالمياً، والثاني وترتيبه 22 عالمياً من حيث القوة النيرانية.
 
وكان موقع الجزيرة قد نشر تقريراً حول الجيشين الروسي والأوكراني، أظهر كيف تمكنت روسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، من استعادة إمكانياتها العسكرية وحدثت قواتها الجوية والبحرية والبرية، ما سمح لها بسد الفجوة مع منافسيها الأمريكيين، والقدرة على إنتاج جميع أنواع الأسلحة.
 
وورث الجيش الروسي مجمّعاً صناعياً عسكرياً ضخماً من الاتحاد السوفييتي. وتستثمر الدولة أموالاً طائلة في التصنيع العسكري والتطوير التقني لمخزون الأسلحة الهائل الذي تمتلكه. ودخلت روسيا ضمن أكبر 5 دول في مجال الإنفاق العسكري بنهاية عام 2019. ووفق تقرير “معهد ستوكهولم لأبحاث السلام” (SIPRI) -الذي صدر في أبريل/نيسان 2020- تحتل روسيا المرتبة الثالثة في قائمة الدول الأكثر إنفاقاً على التسليح، بميزانية سنوية بلغت نحو 64 مليار دولار.
 
كما تحتل روسيا المرتبة الثانية عالمياً في حجم تصدير الأسلحة إلى الخارج، وبلغت مبيعاتها في العام الحالي 13.7 مليار دولار، وفقاً لبيانات شركة “روس أبورون إكسبورت” (ROSOBORONEXPORT)، المسؤولة عن صادرات الأسلحة الروسية. وفي عام 2021، بلغ عدد أفراد الجيش الروسي نحو 900 ألف عسكري.
 
وتضم القوات النووية الاستراتيجية الروسية 517 مركبة إيصال استراتيجي لنشر الأسلحة النووية، وصواريخ باليستية عابرة للقارات وغواصات وقاذفات ثقيلة مزودة بـ1420 رأساً نووياً.
 
كما تمتلك روسيا 12 غواصة نووية تحمل صواريخ استراتيجية، و7 غواصات محملة بصواريخ كروز، و10 غواصات ذرية متعددة الاستخدامات، و21 غواصة تعمل على طوربيدات الديزل، وحاملة طائرات، و4 طرادات، و15 فرقاطة، و125 سفينة للدوريات وخفر السواحل، و11 مدمرة، و48 سفينة إنزال، بعدد أفراد يبلغ تعدادهم 150 ألفاً.
 
ويبلغ عدد أفراد القوات الجوية الروسية حوالي 170 ألفاً، وتشغل هذه أكثر من 3600 وحدة من المعدات العسكرية، بالإضافة إلى 833 وحدة تخزين، وفق معطيات العام 2019. ويمتلك سلاح الجو الروسي نحو 4500 طائرة، بينها 789 مقاتلة، و742 طائرة هجومية، و429 طائرة للشحن العسكري، و520 طائرة تدريب، و130 طائرة مهام خاصة، و1540 مروحية، من بينها 538 مروحية هجومية.
 
أما القوات البرية الروسية، فتضم 13 ألف دبابة ونحو 27 ألف مدرعة، و6540 مدفعاً ذاتي الحركة، و4465 مدفعاً ميدانياً، و3860 راجمة صواريخ، و450 كاسحة ألغام، ويبلغ تعداد أفرادها 350 ألفاً.
 
أما أوكرانيا فقد ورثت عن الاتحاد السوفييتي معظم قواعدها وقواتها الحالية، وكان قوام الجيش الأوكراني يبلغ نحو 455 ألف جندي في عام الاستقلال 1991، ثم تراجع شيئاً فشيئاً إلى نحو 120 ألفاً عام 2013. لكن أحداث عام 2014 التي تصفها كييف بـ”العدوان الروسي” على القرم وإقليم دونباس، أعادت الاهتمام بالقوات الأوكرانية ودعمها، فزادت ميزانيتها المخصصة لهذا الغرض لتبلغ نحو 6% من ميزانية 2021، بنحو 9.4 مليار دولار، بينما لم تتجاوز هذه الميزانية 1% قبل 2014.
 
وزادت أوكرانيا قواتها إلى نحو 204 آلاف جندي، أكثر من نصفهم متعاقدون، مع 46 ألف موظف عسكري إداري، بالإضافة إلى قوات داعمة أخرى، كحرس الحدود (نحو 53 ألفاً)، والحرس الوطني (60 ألفاً).
 
وتتألف القوات الأوكرانية اليوم من 6 أفرع، هي القوات البرية والبحرية والجوية، وكذلك قوات الهجوم (المحمولة جواً)، والقوات الخاصة، التي لا تُعرف أعدادها. واستحدثت أوكرانيا في 2016 “القوات الموحدة”، التي تشارك فيها عدة وحدات عسكرية وأمنية، لقتال المسلحين الروس والانفصاليين في شرق البلاد.
 
ويبلغ تعداد قوات أوكرانيا البرية نحو 145 ألف جندي، وتمتلك 11.435 مركبة مدرعة، و2430 دبابة، و2815 مدفعاً، و550 راجمة صواريخ.
 
أما قوات أوكرانيا الجوية فيبلغ تعدادها نحو 45 ألفاً، ولديها 285 طائرة، منها 42 مقاتلة، و111 طائرة مروحية متعددة الأغراض، و34 طائرة مروحية هجومية. ويعتبر البحر من أبرز نقاط ضعف أوكرانيا العسكرية، وأكبر الفروقات التي تميز روسيا عنها، فقواتها البحرية تضم 25 قطعة بحرية، منها فرقاطة واحدة فقط، والباقية عبارة عن سفن مراقبة واستطلاع.
 
ولسدّ هذه الفجوة في ميزان القوة بينها وبين روسيا، تعتمد أوكرانيا على مساعدات الغرب العسكرية، ولا سيما مساعدات الولايات المتحدة، التي خصصت لأوكرانيا أكثر من 4 مليارات دولار منذ 2014. وتوجه كييف جزءاً كبيراً من ميزانية الدفاع وخططه لشراء سفن من فرنسا وبريطانيا، ولإجراء مناورات في البحر الأسود.
 
Exit mobile version