دور القيم القرآنية في بناء شبكة العلاقات الاجتماعية بالأمة

 

 

الإسلام أعطى مساحة كبيرة للمجتمع من حيث التشريعات والقواعد الضابطة للسلوك الفردي والجماعي معاً

الشورى تحمل في ذاتها مبدأ فكرياً شاملاً ينطلق من ذات الإنسان إلى رحابة المجتمع الإسلامي

قيمة الشهود للأمة تأتي كنتيجة مترتبة على الوسطية وهي على مستويين وهما التحمل والأداء

الأمة في المفهوم القرآني تتجاوز قيم القبيلة إلى القبلة والعرق إلى العقيدة والطبقية إلى المساواة الإنسانية

 

 

يحتاج كل نظام فكري اجتماعي إلى سلسلة من الأفكار المعنوية، وتحتاج هذه الأفكار إلى قيم فوق المادة، تكون قوية ومحركة ومقدسة، وعلامة قدسية الشيء هي اعتقاد الإنسان بأنه يستحق التضحية بحياته من أجله، إذن فكل عقيدة تتضمن/تحتاج إلى هذا النوع من الأهداف والقيم المعنوية، ولا يمكن بناء عقيدة شاملة وجامعة للبشرية على أساس الاشتراك في المنفعة فقط، كما هي الحال مع الماركسية، وبدون الإيمان بالله تعالى الذي أوجد الخلق لحكمة وهدف، لا يمكن الإتيان بأفكار تحمل تلك القيم العليا(1).

تدور القيم الاجتماعية في المنظور القرآني حول ثلاثة محاور؛ الأول: الإنسان باعتباره موضوع ونواة رسالة التوحيد، والثاني: الجماعة/الأمة، وهي حاملة الرسالة التي تحقق غاية التوحيد، والثالث: العالَم (الجماعة الإنسانية الكبرى).

من ناحية أخرى، أعطى الإسلام مساحة كبيرة للمجتمع من حيث التشريعات والقواعد الضابطة للسلوك الفردي والجماعي معاً، وأفرد علماء التراث قسماً خاصاً بالمعاملات الاجتماعية وأبعادها التشريعية، هذا فضلاً عن ارتباط العبادات ذاتها بالجانب الاجتماعي سواء في أدائها أو في آثارها المتوقعة ونتائجها الفعلية، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183).      

تظهر قيمة الأمة كمثل أعلى في النظام الاجتماعي في الإسلام، وهي قيمة تجمع حولها عدداً من القيم الوظيفية، منها “الوحدة”، و”التماسك”، و”التعاون” -أو “نبذ التفرق”- و”التشيع”، والأمة هي التي يتجلى فيها النظام القيمي الاجتماعي، وتتجلى فيها عملية التنشئة الحيوية التي تبدأ بالفرد (اللبنة الأولى)، ثم تمر بالجماعة وصولاً إلى الأمة، وهذه بالأساس عملية بناء القيم في المجتمع.

إن “التوحيد” قوامه الشهادة، ولأن الشهادة تنطوي على إقرار مزدوج بالوحدانية والإمامة (رسول الله إمام الأمة وحامل الرسالة وقدوة الجماعة)، فإنه ينتج عن ذلك التزام وجهة وتأكيد انتماء، ويجتاز بذلك الكيان الذاتي للفرد –وبموجب العقيدة– تحولاً نوعياً، يتحول الفرد فيه من كيانه الطبيعي الحيواني أو الخلقي إلى كيان كوني أخلاقي، وتتحقق ذاتيته في تمثله الوجهة والانتماء حتى يخرج من عزلته في الفرد المغلق في مطلقه الذاتي والمرتد إليه إلى رحابة الانطلاق في هوية فاعلة متفاعلة في دائرة انتمائه والتزامه التي يخرج إليها واعياً متحرراً(2).

قيمة الإنسانية العالمية:

أكد القرآن في أكثر من موضع قيمة الإنسانية العالمية؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)؛ فالمسلم في الأمة ينشغل بالعمل للآخرين لكل الناس من باب قيم الرحمة والخيرية التي تمثل غاية الرسالة ووظيفة الأمة.

ومن هنا، فوظيفة الأمة تتخطى حواجز الجغرافيا؛ لأن حدود الدعوة والهداية لا تعرفان الحدود البشرية أو الطبيعية.

قيمة الوسطية:

ترتبط قيمة الإنسانية العالمية بقيمة أخرى هي “الوسطية”؛ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143)، و”الوسط” المقصود في رسالة الأمة أن تكون “شاهدة” على الناس، لا تكون أمة غائبة، معتزلة؛ بل يجب أن نكون مجتمعاً أممياً في وسط الشرق والغرب، اليمين واليسار، مركز الأقطاب، وسط المعترك يحمل رسالته العالمية.

قيمة الشهود:

تأتي قيمة الشهود كنتيجة مترتبة على قيمة الوسطية، فالأمة الوسط هي أمة الشهود؛ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)، هذه الشهادة على مستويين؛ الأول: مستوى التحمل، والثاني: مستوى الأداء، وبتحقيق المستويين يتم الشهود للأمة المسلمة، وتتطلب قيمة الشهود في الأمة عدة أمور، أهمها: الاستقلالية الفكرية والمنهجية للذات الشاهدة، وامتلاك “الحجة الحضارية”، وهي شرط أساس لقبول الشهادة، وتحقق “العدل الحضاري” للأمة يتطلب فيها أن يكون الشهداء عدولاً، كما يتطلب “القوة الحضارية” للذات التي تقوم بالشهادة، فلا شهادة لضعيف أو واهن أو متخلف، وشرط “البصرية الحضارية”، وتقتضي سلامة المنهج النظري والعملي للذات الشاهدة، حتى يثبت صدق شهادتها؛ لأن الكذب يلازم غياب المنهج أو مرضه، وشرط وحدة الذات الشاهدة، لأن الانقسام والتعدد يؤديان إلى الانفصال النفسي ويشككان في قبول الشهادة وقيمتها.

قيمة القِبلة لا القَبيلة:

يقوم مفهوم الأمة -أيضاً- على مناهضة قيم التمركز حول العرق (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52)، فالأمة في المفهوم القرآني تتجاوز قيم القبيلة إلى قيم القبلة، وقيم العرق إلى قيم العقيدة، وقيم الطبقية إلى قيم المساواة الإنسانية؛ فالأمة الإسلامية هي الأمة التي يجتمع حولها كل الأجناس والأعراق لا يفترقون، وهنا تبدو قيمة “الوحدة” “وَاحِدَة” المذكورة في الآية هي القيمة الأعلى للأمة، والأمة بذلك هي الأمة القطب التي تجتذب حولها كل بني الإنسان مهما اختلفت أعراقه وأجناسه، ونلحظ قيمة القبلة في مبدأين رئيسين في الأمة هما:

الأول: الكلية؛ أي كلية وجامعية القيم للنشاط الإنساني كله، النظام الاجتماعي الإسلامي كلي من حيث إنه يقوم على اعتبار الإسلام متعلقاً بكل مجالات النشاط الإنساني؛ “فأساس هذا النظام الاجتماعي هو الإرادة الإلهية التي هي وثيقة الصلة بكل مخلوق، من حيث إنعام الله عليه بناموس وبنية ووظيفة” (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (الفرقان: 1).

وفي حين تبدو عالمية الإسلام جلية في حقيقة أن تعاليمه موجهة لكل البشر بحكم إنسانيتهم؛ فإن كلية الإسلام جلية هي الأخرى بحقيقة أن الإسلام يضع على كاهل المسلم -بالنسبة لأي مجال من مجالات السلوك الإنساني المتروكة دون تشريع معين خاص بها- عبء التشريع المنظم لها على نحو يجعله موافقاً للشرع، ويجعل تطبيق الشرع شاملاً لكل ما يواجهه من مشكلات يومية؛ فالاجتهاد فريضة عامة على كل المسلمين(3)

الثاني: العضوية؛ فالأمة في الرؤية التوحيدية تحمل أيضاً قيم العضوية، فيقوم كل أعضائها بدور في تأدية الرسالة الكونية المنوطة بالأمة ككل (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104).

قيمة الشورى:

أشار الوحي إلى “الشورى” في ثلاثة مواضع باللفظ؛ الأول: وهو أقرب إلى الحالة السياسية (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)، والثاني: وهو أقرب إلى الحالة الاجتماعية؛ (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى: 38)، والثالث: في العلاقات الأسرية وما يجب في إحدى حالاتها؛ (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) (البقرة: 233).

يشير الموضوع الأول للشورى إلى حالة خاصة هي أقرب إلى مسألة شكل العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وطبيعتها وطبيعة اتخاذ القرارات من قِبل الحاكم، وذلك كما أوردتها أغلب كتب التفاسير، رغم أنها بالتأكيد كانت حالة أو توجيهاً عاماً فيما يتطلب الأمر بين المسلمين، بينما يرتبط الموضوع الثاني والثالث للشورى بحالة المجتمع الإسلامي الكبير (الأمة) والصغير (الأسرة)، فحالة الشورى من شروط وخصائص استجابة الأمة لله تعالى، وجاءت على ترتيب بعد الإيمان وإقام الصلاة، وهو ما يعني أن قيمة الشورى تحمل في ذاتها مبدأ فكرياً شاملاً ينطلق من ذات الإنسان إلى رحابة المجتمع الإسلامي في نشاطه وحركته وقصده، وهو ما ينبغي أن يرتبط بحالة التنشئة الحيوية على قيمة “الشورى” للإنسان المسلم باعتبارها صفة لازمة لكل حركته ومقصده الاجتماعي والكوني بصفة عامة.

إن الشورى في القرآن تقدم للجماعة المسلمة درساً تربوياً أعمق وأشمل من أن يخصص في جانب من جوانب حياتها، فالشورى مبدأ عام ومطلق في الحياة الإسلامية، ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكراً، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشؤون الحكم فيها، إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية، وهي من ألزم صفات القيادة، أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوباً في قالب حديدي، فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان، لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة الإسلامية.

هذه أهم القيم التي نراها مؤطرة لشبكة العلاقات الاجتماعية في الأمة، التي تحدد سلم القيم فيها والمثل الأعلى والتفضيلات الاجتماعية للفرد والجماعة، التي يجب أن تدخل في برامج التنشئة الفردية والاجتماعية على السواء، بحيث تشكل ثقافة المجتمع المنشودة.

* أستاذ أصول التربية المساعد- جامعة دمياط.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) مرتضى مطهري: التكامل الاجتماعي للإنسان، ص46. 

(2) منى أبو الفضل: الأمة القطب، القاهرة، دار الشروق الدولية، ص67.

(3) إسماعيل الفاروقي: التوحيد ومضامينه في الفكر والحياة، ص 244.

Exit mobile version