الأزمة الروسية – الأوكرانية تربك المشهد الاقتصادي العالمي.. الأسعار قد تفلت من عقالها

 

تعلو دقات طبول الحرب بين روسيا والغرب على خلفية الأزمة الأوكرانية أحيانا وتخفت أحيانا أخرى.

لكن قرع طبول الحرب وضجيج الاستعدادات الجارية على خطوط التماس، لا يمنع مواصلة الجهود الدبلوماسية مساعيها على قدم وساق لنزع فتيل الأزمة، عبر زيارات ولقاءات ومحادثات واتصالات هاتفية بين كبار القادة والزعماء، بهدف تهدئة الأجواء، مع أمل أن تفلح الدبلوماسية في الوصول إلى حل مرض للأطراف كافة.

بالطبع الحرب إن وقعت أو لم تقع فإنها جزء من صراع النفوذ الغربي – الروسي، وبينما تبدو موسكو وواشنطن في حالة تأهب وأيديهما على الزناد، فإن النتائج النهائية للصراع ومداها، قد يصعب التكهن به الآن.

أسواق المال والاقتصاديون يتابعون الموقف ويحللون أبعاده، لكن في الواقع فإنهم أكثر انشغالا بموعد ومدى رفع “الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي” أسعار الفائدة.

مع هذا يحذر بعض المحللين البارزين من عدم الاستهانة بتداعيات الأزمة الأوكرانية وتكاليف السلام غير المستقر على الاقتصاد العالمي. فحتى إن تراجعت احتمالات المواجهة الكاملة بين أطراف الأزمة فالاقتصاد الدولي في حالة من عدم الاستقرار وغياب اليقين نتيجة التأثيرات المختلفة لجائحة كورونا، ما يتطلب عدم التقليل من خطورة الصراع الروسي – الغربي على جهود شفاء الاقتصاد الدولي من وعكته الصحية.

“الاقتصادية” استطلعت آراء مجموعة من الاقتصاديين والخبراء حول تداعيات الأزمة الأوكرانية على المشهد الاقتصادي العالمي.

يرى أوين ريث الباحث الاقتصادي أن الأزمة أسهمت بالفعل في ارتفاع أسعار النفط والغاز، فضلا عن المعادن الرئيسة المستخدمة في كل شيء تقريبا، من صناعة السيارات والإلكترونيات إلى أدوات المطبخ والبناء.

ويعتقد أوين ريث أن الأزمة إذا أفلتت من عقالها فستكون لها آثار ضخمة في الأسواق الدولية، وقد تؤدي إلى استقطاب اقتصادي يحدث تغييرات جذرية في هياكل التجارة الدولية.

ويقول لـ”الاقتصادية”، “ستتأثر أسواق النفط والغاز بقوة في المدى القصير من استفحال الأزمة، فحرب بين روسيا وأوكرانيا والدور الأمريكي في الخلفية مساند لأوكرانيا ستؤدي إلى ارتفاع هائل في أسعار النفط والغاز على مستوى العالم عامة وأوروبا على وجه التحديد، فروسيا تزود أوروبا بنحو 30 في المائة من احتياجاتها النفطية و34 من استهلاكها من الغاز، ومع انطلاق أول رصاصة وبغض النظر عمن سيطلقها فإن موسكو ستقطع تلك الإمدادات.

ويضيف “بالطبع ستلعب السعودية دور البنك المركزي العالمي لمحاولة إعادة الاستقرار إلى أسواق الطاقة والاقتصاد العالمي عموما، ويمكن لقطر أن تلعب دورا مشابها في هذا السياق – وإن كان أقل نسبيا – في مجال احتياجات الغاز، مع الأخذ في الحسبان أن الدوحة وصلت تقريبا إلى مرحلة التشغيل الكامل لطاقتها الإنتاجية، وعليها كثير من الالتزامات للدول الآسيوية، ومن ثم لا توجد لديها طاقة فائضة ضخمة للمساعدة، ومن ثم ستكون هناك حاجة لأستراليا لتزويد الأصدقاء والحلفاء في أوروبا، باختصار سترتبك سوق الطاقة العالمية، وسينجم عنها ضغط ضخم على أسعار جميع السلع والمنتجات عالميا.

لكن البعض يشير إلى أنه في 2014 عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا لم تحدث أي مشكلات جوهرية في سوق الطاقة العالمية، رغم العقوبات الدولية التي فرضت على روسيا.

بدوره، يقول لـ”الاقتصادية” جونسون مات الخبير في مجال الطاقة، “في 2014 انخفضت أسعار الطاقة بشكل حاد لأن الطلب العالمي كان منخفضا للغاية، وكانت هناك وفرة من الغاز والنفط الصخري. الآن الوضع مختلف فنحن في فصل الشتاء حيث يزيد الطلب على الطاقة، واحتياطيات الغاز الطبيعي أقل بكثير في أوروبا”.

من جهتها، لا تنفي الدكتورة تشارلوت رولينج أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة ليدز أن الاقتصاد العالمي سيشعر “ببعض الألم” إذا اتفقت أوروبا مع الولايات المتحدة على ضرورة تأجيل خط أنابيب نوردستريم 2 الذي سينقل الغاز من روسيا عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا وبعض الدول الأوروبية، لكنها ترى بصفة عامة أن الحرب ستكون لها تداعيات على الاقتصاد الأوروبي والروسي أكثر من تداعياتها على الاقتصاد العالمي، رغم عدم استبعادها أن تكون هناك تأثيرات ذات صبغة عالمية.

وتقول لـ”الاقتصادية”، “إن التراجع الذي سيتعرض له الاقتصاد الروسي إذا ما فرضت عليه عقوبات تسفر عن توقف خط أنابيب نورد ستريم 2 أو تم طرد روسيا من شبكة مراسلة نظام سويفت التي يستخدمها 11 ألف بنك في جميع أنحاء العالم من أجل تحويل الأموال بسرعة وأمان، سيؤثر في روسيا، لكن لن يؤثر في النمو العالمي، فحجم الاقتصاد الروسي ضئيل، إذ يمثل 1.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أي نصف مساهمة الاقتصاد الفرنسي ونحو عشر الاقتصاد الصيني أو الاتحاد الأوروبي”.

مع هذا تحذر الدكتورة تشارلوت رولينج من أن يكون للأزمة الأوكرانية تأثير في الأمد الطويل في طريقة تنظيم النظام المصرفي العالمي من زاوية التحويلات المالية، إذ ترى أنه من الخطر الشديد استبعاد روسيا من نظام سويفت للتحويلات المالية، فالنظام بمنزلة اتفاقية دولية بشأن أداة فنية للتمويل المالي الدولي، وفرض عقوبات على روسيا من هذا الجانب سيجعل الأمر يبدو “كأننا أمام أدوات مالية مؤسسية لكنها مسيسة تتحكم فيها الولايات المتحدة، ما يدفع دولة كالصين إلى استكشاف أدوات بديلة قد تمثل منافسا حقيقيا وقويا لأدوات التنظيم المالي للدول الغربية التي تمثل أحد عناصر القوة لديه في الاقتصاد العالمي”.

لا يتفق البروفيسور بل أستون أستاذ التجارة الدولية والاستشاري في منظمة التجارة العالمية مع وجهة النظر تلك كثيرا، ويرى أن وقوع حرب بين روسيا وأوكرانيا والتدخل الأمريكي وتورط بعض الدول الأوروبية في هذا النزاع ستكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي وستكون شديدة القسوة.

ويؤكد لـ”الاقتصادية” أن التحدي الأكبر للاقتصاد الدولي في الوقت الراهن ارتفاع معدلات التضخم، حيث إن الأمر لا يتعلق فقط بتضرر أسواق الطاقة الدولية نتيجة الصراع، بالطبع ارتباك أسواق النفط والغاز سيؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع على مستوى العالم، لكن أيضا التوتر الاقتصادي الذي سيجتاح أوروبا في الأساس نتيجة الحرب، سيؤدي إلى خفض آفاق النمو في القارة، وسيؤثر ذلك بشدة في الانتعاش الاقتصادي الأمريكي والعالمي.

ويضيف “عزل روسيا اقتصاديا سيضر بدول أوروبية أبرزها ألمانيا نظرا إلى طبيعة العلاقات الاقتصادية القوية بين الدولتين، وتضرر الاقتصاد الألماني ستكون له انعكاسات على الصين، أحد كبار المستوردين والمصدرين والمستثمرين في ألمانيا، وطبعا الصين حجر الزاوية في الاقتصاد الدولي في الوقت الراهن”.

باختصار يشير البروفيسور بل أستون إلى أن الطبيعة الراهنة لتداخل النظام الاقتصادي العالمي تجعل حربا في أوكرانيا وعلى الحدود المباشرة لأوروبا وتدخل الولايات المتحدة فيها ذات آثار اقتصادية عالمية ضارة للغاية.

يتفق بيلي بيدفورد الباحث الاقتصادي في مجال الموارد الغذائية مع وجهة نظر البروفيسور بل أستون، بأن اندلاع حرب في أوكرانيا سيؤثر سلبا في مستويات الأسعار عالميا خاصة المواد الغذائية.

ويقول لـ”الاقتصادية”، “إن روسيا أكبر منتج للقمح في العالم، بينما تعد أوكرانيا الرابع عالميا، كما قد يتأثر الإنتاج العالمي من مواد غذائية أخرى مثل الشعير والذرة، إذ المتوقع أن تكون كييف ثالث أكبر مصدر للذرة في العالم في موسم 2022، ولهذا ستكون (سلة خبز أوروبا) الاسم الذي تطلقه بعض الأدبيات الاقتصادية على أوكرانيا معرضة للخطر، والبديل هو زيادة الاعتماد على أستراليا، التي ستكون قادرة على القيام بتعويض بعض الخسائر في الأسواق، لكن مع الإشكالات الراهنة في سلاسل التوريد، فإن أسعار الغذاء سترتفع، خاصة أن جزءا لا بأس به من المواد الرئيسة في صناعة الأسمدة في العالم مصدره روسيا، كما أن الصين تستخدم أغلب إنتاجها من الأسمدة في أسواقها المحلية”.

لكن التأثير الذي يلقى ما يشبه الإجماع بين الخبراء والاقتصاديين بشأن أكثر القطاعات الاقتصادية تضررا من انفلات عقال هذه الأزمة، وتحولها إلى مواجهة عسكرية مباشرة، سينصب على قطاع المعادن العالمي.

إس. آر. سميث الخبير المالي في بورصة لندن يرى أن أسعار المعادن ومن ثم جميع المنتجات الصناعية تقريبا ستواجه ارتفاعات غير مسبوقة في الأسعار، فأسعار النيكل والبلاتين والألمنيوم كانت في اتجاه صعودي بالفعل قبل التهديدات الأخيرة بفرض عقوبات دولية على موسكو.

ويشير لـ”الاقتصادية” إلى أن حصة روسيا من صادرات النيكل العالمية 49 في المائة والبلاديوم 42 في المائة والألمنيوم 25 في المائة والبلاتين 13 في المائة والصلب 7 في المائة والنحاس 4 في المائة، ومن ثم فروسيا لاعب رئيس في سوق المعادن العالمية، وتوقف إمداد السوق الدولية بتلك المعادن يعني كارثة لقطاع التصنيع العالمي.

ربما تكون التوترات أقل حدة في أسواق المال الدولية، فروسيا وأوكرانيا ليستا من اللاعبين الرئيسين في تلك الأسواق، لكن بعض الخبراء يشيرون إلى أن الحرب أو العقوبات الشديدة على روسيا قد تولد شعورا بعدم الأمان في الأسواق المالية، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السندات خاصة سندات الخزانة الأمريكية وانخفاض أسعار الفائدة.

تقول لـ”الاقتصادية” ماجي هيل الخبيرة المصرفية، “انخفاض أسعار الفائدة قد يربك المسار الراهن للبنوك المركزية التي تخطط لرفع معدلات الفائدة، إذ إن أغلب البنوك المركزية لم تختبر بعد تأثير رفع أسعار الفائدة في معدلات التضخم، حيث إن العوامل الكامنة وراء التضخم عوامل خارجية تصعب السيطرة عليها”.

وتضيف “في ظل حالة الارتباك الاقتصادي الناجمة عن تطور الأزمة إلى منحنيات لا يمكن السيطرة عليها سيرتفع سعر الذهب إذا ما انطلقت المدافع على الحدود الروسية – الأوكرانية، باعتبار ذلك الملاذ الآمن الأول دوليا، كما سترتفع قيمة الدولار والعملات الرئيسة كالاسترليني واليورو والين والفرنك السويسري”.

وتؤكد أن النظام المالي سيرتبك لعدة أشهر، لكنه سيستعيد توازنه، لكن مع هذا فإن استعادة توازنه لا تعني أن المشكلة انتهت، إذ عليه دفع فاتورة مالية ضخمة لا تقف عند تكلفة الحرب، لكن ستمتد إلى تأثير الصراع في الاقتصاد العالمي عموما.

Exit mobile version