هذا حوار ماتع أجراه الأستاذ بدر محمد بدر مع فضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد ـ يرحمه الله – الرئيس العام للجمعيات الشرعية بمصر، وتم نشره في العدد 1199 بتاريخ 14 مايو 1996م، ولأهمية هذا الحوار تعيد “المجتمع” نشره.
حاوره في القاهرة: بـدر محمـد بـدر
يجب أن يقوم العلماء بدور رئيسي فـي نصـح الحـكـام
تُعد الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة، واحدة من أقدم وأكبر وأهم الجمعيات الدينية العاملة في حقل الدعوة الإسلامية في مصر، منذ أن تأسست على يد العالِم الجليل الشيخ محمود خطاب السبكي رحمه الله عام 1346هـ ـ 1928م، حيث تنتشر فروعها ومساجدها في مختلف قرى مصر ومدنها، وتمتلك أكبر عدد من المساجد «أكثر من خمسة آلاف»، لا يسبقها إلا عدد المساجد الأهلية، ويأتي بعد ذلك مساجد الجمعيات الأخرى ووزارة الأوقاف.
وينص القانون الأساسي للجمعية الشرعية على عدم اشتغالها بالعمل السياسي، باعتبارها مسجلة في وزارة الشؤون الاجتماعية، وينطبق عليها قانون الجمعيات والهيئات الذي يمنع من الاشتغال بالسياسة، لكن ذلك لم يمنع علماء الجمعية وخطباءها من طرح القضايا العامة وربط الواقع بالدين، وإبداء المواقف الجريئة كلما أمكن ذلك.. وتضع الجمعية نصب عينيها حماية الدين والدفاع عن السنة المطهرة، خصوصاً سنن العبادات، وتهتم ببناء المساجد، ولها عدد كبير من المساجد التي تؤدي خدمات شاملة، مثل تحفيظ القرآن الكريم، ودور حضانة الأطفال، ودور المناسبات العامة، والمستوصفات الطبية، ومشاغل الفتيات، وغيرها من وجوه البر.
ويُقبل عدد كبير من أفراد الشعب المصري على ارتياد مساجد الجمعية، حيث يمارسون نشاطاً إسلامياً بعيداً ـ نسبياً ـ عن الضغوط السياسية والأمنية، ولا تكاد تجد داعية أو عاملاً في حقل الدعوة، أو مسلماً ناضجًا واعياً إلا ونشأ في مساجدها، أو استفاد من علمائها، وخطبائها، ومكتباتها، وتحاول السلطة باستمرار تحجيم نشاطها، والتدخل في شؤونها، ولعل آخر تلك المحاولات هو قرار بحل مجلس الإدارة، وتعيين مجلس آخر، لكن المجلس الشرعي رفع دعوى قضائية وعاد مرة أخرى لمواصلة مسيرته ورسالته.
والرئيس العام للجمعيات الشرعية هو «إمام أهل السنة» كما يطلق عليه الأعضاء، وكان آخر من تولى هذا المنصب هو العالم الجليل الشيخ عبد اللطيف مشتهري، الذي توفي في العام الماضي، فاختار الأعضاء واحداً من علماء الجمعية «المشاغبين» ليكون خليفة له.. إنه فضيلة الشيخ محمود عبدالوهاب فايد، الذي كان وكيلاً للجمعية، وواحداً من أشهر شيوخها، ولعل قصته المشهورة في الرد على الرئيس جمال عبدالناصر، وهو في عز سلطانه وصولجانه، عندما هاجم الأزهر والأزهريين على ملأ وفي لقاء عام، لم يقم أحد بالرد عليه من العلماء إلا هذا العالِم الشيخ محمود فايد، وهو ما سطره في كتابه: «وبالحق صدعنا في وجه الطغيان»، لعل هذا الموقف هو المعبر عن الشيخ وطريقته وجهره بالحق، وآخر المواقف كانت بينه وبين ثروت أباظة ـ رئيس اتحاد الكتاب، الذي هاجم «الإخوان المسلمون» ـ ولا يزال ـ بكل ما أوتي من فصاحة، فكتب الشيخ ليرد عليه الصاع صاعين، معلناً الحق الذي لا مراء فيه، ورفع أباظة دعوى ضد الشيخ فايد، لكن المحكمة حكمت بالبراءة في الاستئناف، فكان هذا نصراً عزيزاً للشيخ الذي يعيش عامه الخامس والسبعين، لكنك تشعر من حديثه المتدفق وصوته المجلجل، واعتزازه بالإسلام وكأنه شاب لم يبرح العشرينيات بعد!
المجتمع التقت بالشيخ محمود عبد الوهاب فايد وكان هذا الحوار:
نود أن نتعرف على فضيلتك أكثر؟
ـ اسمي: محمود عبد الوهاب فايد، مـن مـواليد نوفمبر 1921م، في بلدة «دمنكة» مركز دسوق ـ كفر الشيخ، من أسرة علم، فمن النفائس التي نحرص عليها، أن لدينا كتباً منها صحيح البخاري بخط يد أجـدادي.. حفظت القرآن صغيراً ثم انتقلت للدراسة بمعهد دسوق الأزهــري الابتـدائي، ثم الثانوي، وتم فصلي من الدراسة مرة في الابتدائي، وأخرى في الثـانوي، وثاـلثة عندما عُينت مدرساً، لأنني منذ الصغر أغار على ديني، وعندما أجد شيئًا يمسه كنت أقوم بمظاهرة، وأدعو إلى الإضراب حتى تحل المشكلة!
حصلت على الشهادة العالية الأزهرية من كلية أصول الدين عام 1946م، وكان ترتيبي الأول على الدفعة، وأذكر أنني ذهبت مع زملائي لمقابلة الملك فاروق، الذي اعتاد مقابلة الأوائل كل عام، وقيل لي يجب أن تنحني له وأن تقبل يده، وعندما قابلت الملك انحنيت إلى الخلف وليس إلى الأمام، وابتسم الملك، لكن رئيس الديوان غضب مني غضباً شديدا، وصاح فيّ، فصحت أنا كذلك في وجهه حتى سكت، وعاقبوني بتعييني في محافظة سـوهاج في صعيد مصر، مع أن العرف كان يقضي بتعيين الأوائل في القاهرة.. وعندما ذهبت إلى سوهاج وجدت أكبر عائلتين فيها في خصومة ثأرية شـديدة، وبفضل الله تعالى تمكنت من تحقيق الصلح وإنهاء حمام الدم بعد أن فشـل رجال الأمن والسياسة في ذلك.
وقبل أن أترك القاهرة إلى سوهاج حوالي عام 46/ 1947م قمت بتأسيس الاتحاد العام للهيئات والجمعيات الإسلامية، وسافرت إلى سوهاج، ولكن الاتحاد لم يواصل مسيرته، ومازالت هناك محاولات كثيرة لإحياء هذا الاتحاد، والبعض يطالبني بإعادة العمل على توحيد الجهود للجمعيات والهيئات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية، لكن ظروفي الصحية لا تمكنني من ذلك الآن، وأرجو الله أن يكتب التوفيق للشباب لعمل هذا الاتحاد، لما له من أهمية كبرى في ظروفنا الحالية… وفي أوائل السبعينيات ذهبت إلى السعودية، وقمت بالتدريس في كلية أصول الدين، وفي كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، لمدة خمسة عشر عاماً، وعدت إلى مصر نهائياً منذ عام 1986م، وتم اختياري وكيلاً للجمعية الشرعية، ثم رئيساً لها خلفاَ لفضيلة الشيخ الجليل عبداللطيف مشتهري الذي توفي في العام الماضي، رحمه الله رحمة واسعة.
ما هي الأنشطة التي تقوم بها الجمعية الشرعية من خلال مساجدها؟
ـ تمتلك الجمعية الشرعية بفضل الله أكثر من خمسة آلاف مسجد، تتوزع من أسوان إلى الإسكندرية، تم بناؤها بمجهود أهل مصر الطيبين البسطاء، ومساجدنا تقوم بنشاط كبير في خدمة الدعوة الإسلامية مثل: «أسبوع الدعوة»، و«القوافل الدعوية»، ومشروعات كفالة الأيتام، والأرامل، والفقراء، وتحفيظ القرآن الكريم، ولدينا معهد لإعداد الدعاة، حتى يكون الداعية على قدر من العلم والوعي يؤهله لاعتلاء المنبر ونصح الناس.. والحكومة تعرف فضلنا وتقدره وتريد مني أن أكون هادئاً في كتاباتي، وأنا أحرص على نصح المسؤولين والحكام، وأجد أن ما ينقصنا الآن هو القيام بواجب نصح الحكام، وأرى أن غالبية العلماء لا يمدون أيديهم بالنصح للحكام، وهذا أمر يجب الاهتمام به أكثر.
ضم المساجد
كيف ترون قيام وزارة الأوقاف في السنوات الأخيرة بضم المساجد الأهلية النشطة، وكذلك ضم بعض مساجد الجمعيات والهيئات، البعض يرى في ذلك محاولة لتأميم المسجد ودوره، فهل ترون ذلك؟
ـ أقول لك بكل صراحة.. إن فكرة ضم المساجد إلى وزارة الأوقاف، وتكبيلها بالقيود الإدارية، والسيطرة على الكلمة الحرة فيها، ليست نابعة من عندنا… بل هي فكرة خارجية تم إلزامنا بها، واتخذ بها قرار سياسي، فالحقيقة المعروفة أن وزارة الأوقاف نفسها ـ على قلة مساجدها مقارنة بمساجد بعض الجمعيات الدينية ـ لديها عجز واضح في عدد المشتغلين في مساجدها من الأئمة والوعاظ والخطباء والمدرسين، فكيف تأخذ وتستولي على هذا الكم الكبير.. لا يمكنها ذلك، ولا تستطيعه… وللأسف عندما نجد عالماً جليلاً وخطيباً مفوهاً من أمثال: الشيخ عبدالحميد كشك، والشيخ عبدالرشيد صقر، والدكتور عمر عبد الكافي، فإنها تمنعهم من الخطابة! الشيخ كشك يأخذ راتبه منذ 16 سنة وهو في بيته.. لماذا؟! والأمر له خلفيات كثيرة.. والعجيب أننا نجد في كل فترة مضايقات من المسؤولين ومن أجهزة الأمن، حتى إنها اعترضت على ترشيحي في مجلس إدارة الجمعية، وتم حل مجلس الإدارة بقرار من وزارة الشؤون دون وجه حق، ورفعنا دعوى أمام القضاء الذي أنصفنا، وأعاد المجلس إلى مزاولة عمله مرة أخرى، كما اعترضوا على بعض المرشحين في مجلس الإدارة، وقلت لهم أريد أسباباً لذلك فلم يردوا، فلم أستمع إلى نصحهم.
هل تتعرض مساجد الجمعية للضغوط والمضايقات من قِبَل أجهزة الأمن؟
ـ نعم تتعرض مساجدنا للضغوط، فأنا مثلاً كنت أخطب في مسجد بمدينة نصر بالقاهرة، فإذا بوزارة الأوقاف تستولي عليه، وذهبت إلى الوزارة لأناقش المسؤولين في استيلائهم على واحد من أكبر المساجد الخاصة بالجمعية، وعلمت أن أحد مستشاري رئيس الجمهورية كان يصلي فيه، واستمع إلى خطبتي ولم تعجبه، فأخذوا المسجد.. وللعلم هم يضمون المساجد الغنية التي تنفق على نفسها من تبرعات أهل الخير، ولا يأخذون المساجد التي تحتاج إلى معونة!!.
سبب المصائب.. صدّام
كيف ترى الأزمة التي تمر بها الأمة والمنطقة العربية بصفة خاصة؟
ـ سبب البلاء في اعتقادي هو هذا الرجل المسمى صدام حسين، الذي فتح على العرب والمسلمين باب المصائب، وللأسف العرب أيدوه وساعدوه بالمال، وبكل شيء، وبعد أن قتل المسلمين في إيران، جاءت أمريكا وضحكت عليه، وزينت له غزو الكويت، وأدخل المنطقة في دوامة من الكوارث حتى اليوم.
وما هو الحـل؟
ـ أمريكا الآن مسيطرة على الأمور في المنطقة، واستطاعت فرض سلطانها على المنطقة العربية، وهذا لصالح “إسرائيل” وليس لصالحنا أبداً، والحل هو أن نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نستنير بنور الله، ونور رسول الله، ونور كتاب الله، ولو استعنا بالله لأنار بصائرنا وحل مشكلاتنا.
جزاكم الله خيرا..
ـ وجزاكم.. وأتمنى للمجتمع، وما لها من مكانة طيبة في قلبي، أن يوفق الله مسعاها وخطاها، وأن يثبتها على طريق الدعوة إلى الله.