أفريقيا 2022.. قارة الإسلام رغم التحديات

 

ما زالت أصداء صوت بلال الحبشي وهو يصدح «الله أكبر.. الله أكبر» تتردد في أعماق القارة السمراء، ليُحيِي نداءه روح الإسلام داخل الأفارقة، ويذكِّرهم دائماً أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنباً إلى جنب، وأنَّ هذا الدين قام بهم أيضاً؛ فقد دخل الإسلام أفريقيا قبل المدينة المنورة؛ حيث كانت القارة السمراء موطن الهجرة الأول، وهذا -بلا شك- كان له عظيم الأثر في تاريخ الأفارقة وتكوينهم، وأبرز ما في الأمر أن أفريقيا أضحت قارة الإسلام؛ يتأصل بها الدين الحنيف يوماً عن آخر، ويزيد عدد معتنقيه رغم التحديات الجسيمة التي تحيط بالقارة، ورغم استهدافها من الغرب والمؤسسات التنصيرية، ورغم قلة إمكانات مسلمي القارة ومؤسساتها الإسلامية.

فكيف صارت أفريقيا قارة الإسلام؟ ولماذا يترسخ الدين الإسلامي بها رغم التحديات؟ هذا وأكثر نرصده في هذا التحقيق.

يلاحظ الناظر لخريطة توزيع المسلمين في أفريقيا أنها تأخذ شكلاً دائرياً، كما لو كان الإسلام يحتضنها ويحتويها فاستحقت بحق أن تكون قارة الإسلام؛ حيث إنها القارة الوحيدة التي تُقدر فيها نسبة المسلمين بأكثر من نصف السكان، ففي شمال القارة الأفريقية تقدر نسبة المسلمين 90.9%، وفي غرب القارة 62.7%، بينما في شرقها 49.7%، وفي وسطها 15.4%، وفي جنوب القارة السمراء تبلغ نسبة المسلمين 10.2%.

لماذا ينتشر الإسلام بأفريقيا رغم كل ما يُبذل على التنصير من أموال وجهود؟

فالإسلام ينتشر في أفريقيا بقوة دفع ذاتية، يذكيها واقع كل من المسيحية والديانات التقليدية، وهو ما يثير تساؤلات ما زال يطرحها المفكرون الغربيون منذ القرن التاسع عشر، محورها: لماذا ينتشر الإسلام في أفريقيا رغم كل ما يُبذل على التنصير؟

في هذا الصدد، يقول المدير التنفيذي لاتحاد علماء أفريقيا، د. عمر بامبا، في حواره مع «المجتمع»: إن غالبية الشعوب الأفريقية لم تعتنق الإسلام عن طريق حملة عسكرية، أو بنصر جيش المسلمين في واقعة بعينها، إنما انتشر الإسلام في تلك المناطق بفعل احتكاك التجار المسلمين بسكانها، حيث تأثروا بأخلاقهم النابعة من دينهم الإسلامي فاعتنقوه ثم نشروه، وبجهود القادمين من شمال أفريقيا، وبتأثير أوائل الأفارقة المعتنقين للإسلام على المجتمع المُحيط بهم، ليستلموا راية نشر الدين بعد ذلك.

وأضاف بامبا أن البلاد الأفريقية المجاورة للشمال الأفريقي المسلم كان لها حظ وافر من الثقافة الإسلامية، مثل مالي ونيجيريا وتشاد، حيث سهل القرب الجغرافي من زيادة البعثات العلمية إلى أعرق الجامعات في شمال أفريقيا، مثل القرويين في مدينة فاس في المغرب والأزهر في مصر.

بامبا: أنشئ اتحاد للعلماء بـ46 دولة أفريقية جنوب الصحراء بهدف توحيد صفوفهم لقيادة الأمة

وأوضح أن الطرق الصوفية قديماً أدت دوراً مهماً في نشر الإسلام، ومن إنجازات الصوفيَّة أنَّ الإسلام تحوَّل على يديها من حالات فردية إلى جماعية، فقد أنشؤوا «الكتاتيب»، وأقنعوا الأهالي بإرسال أولادهم من الجنسين إلى هذه المدارس الصغيرة، التي يتعلم فيها الأطفال القرآن، ويتلقوا الدروس في الشريعة واللغة العربية.

الدعوة الإسلامية 2022.. واقع متنامٍ:

وعن واقع الدعوة الإسلامية في القارة السمراء، قال الباحث والكاتب من بوركينا فاسو، د. هارون سوادغو، في حواره مع «المجتمع»: إنه ليس من الهيّن وصف واقع الدعوة في أفريقيا بكاملها، لكن يمكن القول إجمالاً: إنّ الدعوة الإسلامية في أفريقيا بخير ولا تزال تؤتي أكلها كل حين، حتى هذا العام الميلادي (2022م) بفضل مِن الله تعالى، فهي تستمر بمقتضى حرية الاعتقاد، وحرية التّدين، وحرية إنشاء الجمعيات، وغيرها من الحريات الفردية والجماعية التي تكفلها دساتير دول القارة.

سوادغو: الدعوة بأفريقيا تعاني في بعض الجوانب نتيجة الظروف الدولية الناجمة عن حملات مكافحة الإرهاب

وأوضح سوادغو أنه رغم هذه الحريات المكفولة دستورياً، فإن الدعوة في أفريقيا تعاني في بعض الجوانب نتيجة الظروف الدولية الناجمة عن حملات مكافحة الظاهرة المعروفة في أبجديات المجتمع الدولي بـ«الإرهاب»؛ إذ تواجه الجمعيات والمؤسسات الخيرية العربية صعوبات بالغة في دعم الدعوة في أفريقيا مقارنة بما كان عليه الوضع قبل أحداث 11 سبتمبر 2001م.

وأردف أن النشاط الدعوي مستمر ومتنامٍ، بفضل الله تعالى ثم بفضل الدعم المحلي وقليل من الدعم الخارجي، وبفضل جهود العلماء والدعاة وطلاب العلم الذين ينشرون نور الإسلام بعقد حلقات العلم والدروس، وبالجولات الدعوية في القرى والأرياف والمدن، وبالتعليم في المؤسسات الإسلامية، والتوعية في الإذاعات وصفحات التواصل الاجتماعي. 

وأضاف أن الكثير من دول القارة تعيش صحوة إسلامية مباركة؛ فمراكز العلم تزداد عدداً ونوعاً، وطلاب العلم في تزايد، والعوام يُقبلون بشغف على دروس العلماء، والشعائر الدينية في انتشار.

وذهب رئيس هيئة علماء تنزانيا الشيخ عبدالله صالح، في حواره مع «المجتمع»، إلى أن الدعوة الإسلامية في أفريقيا في تَقدم، فرغم كثرة من يدعو إلى الفساد والانحراف والتضليل، فقابلية الشباب الأفريقي تجاه الدعوة تزداد، فكثير من شباب وشابات المسلمين عندهم جهود ملموسة وكبيرة، فيحثون بعضهم بعضاً على الالتزام بدينهم، ويقيمون المحاضرات والدروس، ويستضيفون فيها الشيوخ وأصحاب الدعوة ليتفقهوا في دينهم.

وأضاف قائلاً: هذا واقع مُشاهَد لأننا –نحن العلماء- نُدعى لمثل هذه المؤسسات التعليمية الحكومية من قِبَل طلبة المسلمين، كما نلاحظ كثرة من يهتم بحفظ القرآن في سنٍ صغيرة في العديد من الدول الأفريقية، وهذه إشارات بأن الأمل موجود وهو دليل على مستقبل مشرق للدعوة الإسلامية.

تحديات في طريق الدعوة:

بالرغم من النجاح المشهود للدعوة الإسلامية في أفريقيا، فإن هناك الكثير من التحديات التي تعترض طريق الدعوة، يُصنفها د. هارون سوادغو إلى تحديات داخلية وأخرى خارجية، قائلاً: التحديات الخارجية تعود إلى الضغوطات الدولية لفرض القيود على الدعوة الإسلامية ومراقبة النشاط الدعوي، وتضييق الخناق على بعض الشعائر الإسلامية الظاهرة، والسعي الحثيث لإعادة قولبة هوية المسلم وشخصيته من خلال التغييرات العبثية للمناهج الدراسية.

وكذلك دعم المساعي «البنافريقانية» التي يقودها بعض الشباب للعودة بالمجتمع الأفريقي إلى الوثنية؛ بادّعاء إحياء الأديان والمعتقدات الأفريقية والبحث عن الهوية الأفريقية المفقودة، وفسح المجال أمام الجماعات الهدامة كالأحمدية مثلاً.

أما عن التحديات الداخلية، أوضح سوادغو أنها أسباب خاصة بالرسالة ذاتها، ومنها اختلاف المرجعيات والمنطلقات، الذي أفضى إلى انقسام الجمعيات والمؤسسات الإسلامية العاملة في المجال الدعوي في كثير من البلدان، وتصادم الخطابات الدعوية في كثير من المسائل، حيث إن الخطاب المستند إلى المنهج السلفي غير الخطاب المستند إلى المنهج الصوفي مثلاً، كما أن الشيعة أيضاً توغلوا مؤخراً في القارة، وهم أحياناً يعملون على إيهام بعض القيادات الصوفية أن لهم عدواً واحداً مشتركاً يتمثل في المنهج السلفي وأتباعه، فينجحون تارة في اختراق صفوف بعض المتصوّفة.

صالح: الدعوة الإسلامية بأفريقيا في تقدم رغم كثرة مَنْ يدعو إلى الفساد والانحراف

بينما صرح د. عمر بامبا أن علينا مواجهة التحديات التي تواجه الدعوة في قارة أفريقيا، وخاصة وقد دخلنا عام 2022م، فنظراً إلى الواقع العالمي والإقليمي، هناك افتقاد لصوت معبر عن المسلمين في القضايا العامة والمشكلات، وعدم وجود مرجعية علمية للمسلمين في أفريقيا، وانتشار الصراعات التي يكون المسلمون طرفاً فيها أو كلا طرفيها، كما نعاني من تشتت جهود الدعاة وضعف التنسيق بينهم، وضعف التأصيل العلمي للفتوى.

وأضاف بامبا أنّ الفكر المتشدد والمتطرف والصراعات داخل القارة لها تبعات كثيرة، منها: إعطاء فرصة للمتربصين للطعن في الإسلام وزرع الفرقة والخلاف بين المسلمين، وظهور الفكر التكفيري، وزرع النزاعات الطائفية التي تنهك البلاد وتشتت شمل الأمة.

إنجازات محمودة.. ولكن:

تنتشر في أفريقيا مؤسسات إسلامية ذات تراث كبير وعريق، تعمل في مجال الدعوة الإسلامية، وقد حققت نجاحات كبيرة في الآونة الأخيرة، مثل: الأزهر الشريف، وجامع الزيتونة والقيروان، وكذا مؤسسات إسلامية فاعلة مثل: منظمة الدعوة الإسلامية بالسودان، ولجنة مسلمي أفريقيا الكويتية، وجمعية الرحمة العالمية بالكويت، والندوة العالمية للشباب الإسلامي بالسعودية، علاوة على جهود منظمة التعاون الإسلامي، والجماعات والمؤسسات الإسلامية المحلية داخل كل دولة إسلامية.

إلا أن المؤسسات الدعوية الإسلامية تعاني من ظاهرة تشتت الجهود وعدم التنسيق بينها، الأمر الذى يُضعِف تلك الجهود ويقلل من فاعليتها وثمارها؛ وفي هذا الصدد، يرى الشيخ عبدالله صالح أن هذه المؤسسات مشكورة لمجهوداتها في مجال نشر الدعوة الإسلامية في أفريقيا، ولكنها تحتاج إلى شيء كبير ومهم وهو التنسيق الجيد بينها في مجال الدعوة؛ لأن احتياجات الناس واحتياجات الدعوة كثيرة، وما نراه أن المؤسسات الإسلامية في أفريقيا قد تعمل كلها في أعمال شبيهة ببعضها، فيما يقدمونه إلى المحتاجين الذين نريد أن تصل الدعوة إليهم.

ويضيف رئيس هيئة علماء تنزانيا أن الاحتياجات تختلف؛ فهناك احتياجات مادية أو توجيهية أو تحفيزية وغيرها، قائلاً: إننا نرى المؤسسات الإسلامية تعمل بنفس الوتيرة مثل بناء المساجد وإنشاء المراكز التعليمية وحفر الآبار، وهي أعمال مطلوبة لكنها أعمال عامة، وهناك عمل خاص وهو إعداد من سيقومون بمهمة الدعوة في المستقبل، فنحتاج مثلاً لإقامة المعاهد التي تعمل على إعداد الدعاة والمشايخ من الناحية الإسلامية الصحيحة لحمل هذه الدعوة، في سبيل مواجهة التيارات الغربية التي تواجهنا.

فيما يصرح د. هارون سوادغو أن المؤسسات الدعوية الإسلامية في أفريقيا تواجه مشكلات، من أبرزها: مشكلات تنظيمية؛ كأن تكون بعض المؤسسات لا تزال في طور البدائية من حيث استيفائها متطلبات العمل المؤسسي، وهو ما يُفضي إلى مشكلات قيادية؛ فالأبعاد القيادية لا تزال ضعيفة وهشة في بعض المؤسسات الدعوية في أفريقيا، على أن الأمر يختلف من دولة لأخرى، إذ تمكنت القيادات الإسلامية في بعض البلدان مثل مالي وكوت ديفوار من تطوير أدائها وتعزيز العمل المؤسسي.

وأضاف أن كثيراً من المؤسسات تعاني من النقص الحاد في مواردها، في ظل شح التمويل الخارجي بعد أحداث 11 سبتمبر، في حين أن التمويل الداخلي عاجز عن تغطية المشاريع، فضلاً عن نقص الكفاءات في بعض المجالات التي لا تستغني عنها الدعوة، كالمجال الإعلامي مثلاً، كما تعاني المؤسسات من الانقسامات الداخلية، نتيجة الاختلاف القائم بين المنطلقات والمناهج والمرجعيات، بحسب سوادغو.

المستقبل للإسلام:

رغم التحديات الجسيمة التي تحيط بالقارة الأفريقية، فالإسلام ما زال يلقى قبولاً واسعاً لدى الأفارقة، مع قلة الجهود الإسلامية المبذولة في هذا الشأن مقارنة بالجهود الضخمة للجماعات التنصيرية، وهو ما أكده كثير من العاملين في جمعيات العمل الخيري الإسلامي في القارة السمراء.

فمن جانبه، يرى الشيخ عبدالله صالح أنه عند الحديث عن المستقبل يجب استرجاع الماضي، والنظر للجهود التي بذلها الأجداد والعلماء الأفارقة لنشر الدعوة الإسلامية؛ لكي نستمد منها ونبني للمستقبل، وأضاف قائلاً: إنه تمت إقامة مجموعة من الندوات في عدة نواح بأفريقيا؛ للنظر في جهود علماء أفريقيا في نشر الدعوة الإسلامية، وتشجيع أبناء القارة للنظر في تاريخ أجدادهم من العلماء وما قدموه لأفريقيا، وهذا ما يجعلنا نستبشر خيراً في مستقبل الدعوة الإسلامية.

ويؤكد هذا الطرح د. عمر بامبا، قائلاً: إن مستقبل الدعوة في أفريقيا مبني على العلماء، والقارة مليئة بالعلماء والدعاة الذين هم على الدرب الصحيح، وأضاف أنه تم إنشاء اتحاد لعلماء أفريقيا جنوب الصحراء بهدف تعزيز جهودهم وتوحيد صفوفهم لقيادة الأمة، وفق المنهج الإسلامي الصحيح.

ويضيف المدير التنفيذي لاتحاد علماء أفريقيا أن الاتحاد اليوم يضم 46 دولة من أفريقيا جنوب الصحراء، من أجل تنسيق الجهود العلمية والدعوية والتربوية في القارة، عن طريق إنشاء المكاتب الفرعية في بلدان الاتحاد واستقطاب العلماء والدعاة وفق شروط ومبادئ معينة.

وأوضح بامبا أن أدوار الاتحاد تتمثل في تعزيز التعايش السلمي بين أطياف المجتمعات الأفريقية، وإصدار البيانات حول القضايا العامة ونشرها عبر وسائل الإعلام، وتنظيم المحاضرات والندوات الدولية والإقليمية للتصدي لظاهرة الإرهاب والتطرف؛ لوضع سبل العلاج والحلول المقترحة للخروج من هذه الظاهرة، كما تتضمن إصدار الفتاوى في الشأن العام والنوازل، وترجمة الكتب والرسائل العلمية لتقديم مفاهيم صحيحة للدين الإسلامي بالتعاون مع جهات مختلفة.

وختاماً، فإن مقولة المفكر جمال حمدان عن أفريقيا بأنها «جبهة زحف الإسلام واحتياطي توسعه في المستقبل» يجب أن تظل حاضرة، فهي حقيقة يؤصلها التاريخ ويؤكدها الحاضر، وهذه الإنجازات الكبيرة للدعوة داخل أفريقيا حققتها قوة الإسلام الذاتية الداخلية مع الجهود والإمكانات التي يعتريها بعض النقص؛ فكيف إذا تحققت الوحدة والتعاون والتنسيق بين هذه الجهود؟ وكيف إذا وجد الاهتمام الأكبر لقارة الإسلام المَنسيّة؟ وكيف إذا ضَخت دول العالم الإسلامي إمكاناتها في هذه القارة الواعدة؟

Exit mobile version