طريق المفاوضات يبدو مسدوداً.. هل أصبح غزو أوكرانيا مسألة وقت رغم نفي روسيا؟

كما كان متوقعاً، لم تحقق محادثات روسيا والولايات المتحدة نجاحاً يُذكر على طريق الحلول الدبلوماسية لأزمة أوكرانيا التي تعيد أجواء أزمة الصواريخ الكوبية للأذهان، فهل بات الغزو الروسي مسألة وقت؟

وتتمثل الأزمة في أوكرانيا في حشد روسيا عشرات الآلاف من جنودها، فيما تصفه تقارير غربية وأمريكية بأنه استعداد للغزو، بينما تنفي موسكو نية الغزو وتتهم الغرب باستفزازها عن طريق نشر قوات لحلف الناتو بالقرب من حدود روسيا، في انتهاك لوعد عمره أكثر من 3 عقود بعدم توسع الحلف شرقاً.

ويشبه كثير من المراقبين الموقف الحالي على الحدود الروسية-الأوكرانية بأزمة أخرى وقعت قبل 6 عقود وهددت العالم باندلاع حرب نووية. أزمة الصواريخ الكوبية أو أزمة أكتوبر/تشرين الأول 1962 كما يعرفها الكوبيون، تمثلت في سعي الاتحاد السوفييتي لنشر صواريخ نووية على أراضي كوبا، وهو ما رفضته واشنطن بالطبع وكادت الأمور تخرج عن السيطرة.

الخلافات بين أمريكا وروسيا بشأن أوكرانيا

وفي ظل هذا الموقف المتأزم الذي يهدد باندلاع حرب لا أحد يمكنه الجزم بمسارها أو تداعياتها، التقى الأمريكيون والروس في جنيف في أولى جولات التفاوض الهادف إلى نزع فتيل الأزمة.

لكن لا روسيا ولا الولايات المتحدة قدمت أي مؤشر على تضييق خلافاتهما بشأن أوكرانيا والأمن الأوروبي الأوسع في المحادثات التي جرت في جنيف الإثنين 10 يناير/كانون الثاني، وسط تمسك موسكو بمطالبها التي تقول واشنطن إنها لا يمكن أن تقبلها.

والقصة هنا تتعلق بمطالب روسيا، التي تشمل حظر توسيع حلف الناتو شرقاً والتعهد بعدم ضم أوكرانيا أبداً ووضع حد لنشاط الحلف العسكري الغربي في دول وسط أوروبا وشرقها التي انضمت إليه بعد 1997.

ترجع قصة “الخطوط الحمراء” بين روسيا والولايات المتحدة إلى نهايات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق -الذي كان يتزعم حلف وارسو- والمعسكر الغربي وحلفه العسكري “الناتو” بزعامة الولايات المتحدة.

وباتت “الخطوط الحمراء” عنواناً رئيسياً لأزمة أوكرانيا، بعد أن كشفت وثائق أمريكية وسوفييتية وأوروبية رُفعت عنها السرية مؤخراً أن وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر، أكَّد للرئيس السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، في عام 1990 أن الناتو لن يتوسع “بوصة واحدة” شرق ألمانيا، وآنذاك، كان هذا هو الخط الأحمر لروسيا.

لكن خلال ثلاثة عقود، توسع حلف الناتو شرقاً عبر المجر وجمهورية التشيك وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود وبولندا. وتبلغ تلك المسافة قرابة 965 كيلومتراً أوصلت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى حدود أوكرانيا.

وبعد أن تراجعت روسيا 965 كيلومتراً عن الخط الأحمر لآخر قادة الاتحاد السوفييتي غورباتشوف، رسم بوتين خطاً أحمر جديداً في الثاني من ديسمبر/كانون الأول، سعياً وراء “ضمانات أمنية موثوقة وطويلة الأجل”، وأن تقرَّ هذه الضمانات “التخلي عن أي تحركات أخرى لحلف شمال الأطلسي باتجاه الشرق أو نشر أسلحة تهددنا على مقربة من الأراضي الروسية”.

وبعد محادثات جنيف الإثنين، قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف للصحفيين: “للأسف، التباين كبير في مناهجنا المبدئية إزاء هذا. لدى الولايات المتحدة وروسيا وجهات نظر متعارضة من بعض النواحي إزاء ما ينبغي القيام به”.

بينما قالت ويندي شيرمان نائبة وزير الخارجية الأمريكية: “كنا حازمين… في الرد على مقترحات أمنية مستحيلة بكل بساطة بالنسبة للولايات المتحدة. لن نسمح لأحد بإلغاء سياسة الباب المفتوح… التي كانت دوماً سياسة محورية بالنسبة لحلف شمال الأطلسي”.

وأضافت: “لن نتخلى عن التعاون الثنائي مع الدول ذات السيادة التي ترغب في العمل مع الولايات المتحدة، ولن نتخذ قرارات حول أوكرانيا بدون أوكرانيا، أو قرارات بشأن أوروبا بدون أوروبا، ولا بشأن حلف الأطلسي بدون الحلف”.

روسيا تنفي الاستعداد لغزو أوكرانيا

حشدت روسيا نحو 100 ألف جندي قرب الحدود مع أوكرانيا استعداداً لما تقول واشنطن وكييف إنه غزو محتمل، لكن موسكو تنفي خطط الغزو وتقول إن ما تفعله هو مجرد رد فعل على ما تصفه بسلوك يتسم بالعداء والاستفزاز من جانب حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا التي تميل نحو الغرب وتطمح للانضمام للحلف.

وقال الجانبان إن روسيا صرحت، خلال الاجتماعات في جنيف، بأنها لا تنوي غزو أوكرانيا، وهو ما قال ريابكوف إنه شيء لا يمكن أن يحدث. لكن شيرمان قالت إنها لا تعلم ما إذا كانت روسيا مستعدة لوقف التصعيد.

وقال ريابكوف إن روسيا تريد أن ترى تحركاً من جانب حلف الأطلسي وإن التقاعس عن ذلك سيكون خطأ من شأنه أن يقوض أمن الحلف نفسه.

وقال إن روسيا سترد بشكل “عسكري-فني” إذا انهارت المحادثات، فيما قد تكون إشارة إلى إعادة نشر صواريخ نووية متوسطة المدى في أوروبا، وهو ما قال الشهر الماضي إنه قد يحدث إذا لم يستجب الغرب.

وعلى الرغم من عدم إحراز تقدم واضح، فقد بدت الأجواء بين الجانبين ودية. ووصفت شيرمان المحادثات بأنها صريحة ومباشرة، في حين قال ريابكوف إنها كانت صعبة ولكنها مهنية، وإن الولايات المتحدة تعاملت مع المقترحات الروسية بجدية. وأضاف أن روسيا ستقرر احتمالات إحراز تقدم بعد اجتماعات أخرى مع أعضاء حلف الأطلسي في بروكسل الأربعاء 12 يناير/كانون الثاني ومع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في فيينا الخميس.

خلاصة القول هنا إن روسيا لا تزال متمسكة بمطالبها والأمر نفسه ينطبق على الموقف الأمريكي الرافض تماماً تلبية تلك المطالب، وهو ما كان متوقعاً بشكل كبير قبل محادثات جنيف بين موسكو وواشنطن، فماذا يعني ذلك؟

هل يمتلك الغرب القدرة على ردع موسكو؟

يرى كثير من المراقبين أنه من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، توقع ما قد يقدم عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أزمة أوكرانيا إذا لم يقدم له نظيره الأمريكي جو بايدن والغرب عموماً، على الأقل جزءاً مما يريده، خصوصاً أن الغرب لا يمتلك أوراقاً يمكنها أن تمثل رادعاً قوياً لموسكو يثنيها عن غزو أوكرانيا.

وكان موقع Vox الأمريكي قد تناول هذه الزاوية تحديداً في تحليل له بعنوان “الغرب لا يمتلك كثيراً من أوراق التفاوض لمنع غزو روسي لأوكرانيا”، رصد آراء كثير من المراقبين بشأن رد الفعل الروسي على التهديدات الأمريكية والغربية بفرض عقوبات في حالة غزو أوكرانيا.

إدارة جو بايدن، الذي كان نائباً للرئيس باراك أوباما عندما غزت روسيا وضمت إقليم شبه جزيرة القرم الأوكراني، تقول الآن إنها مستعدة لفرض عقوبات اقتصادية تخنق الاقتصاد الروسي تماماً في حالة غزت موسكو كييف، وهي عقوبات لم تفرضها واشنطن عام 2014.

لكن حتى الآن لا يبدو أن تلك التهديدات تجد آذاناً مصغية في موسكو، وكان ريابكوف قد عبر عن ذلك بشكل مباشر عندما قال لوسائل الإعلام الروسية قبيل محادثات جنيف إن الكرملين “لن يقدم أي تنازلات تحت الضغط”، في إشارة إلى التمسك بموقف بلاده الخاص بالمطالب الأمنية من الناتو وواشنطن.

يانس ستولتنبيرغ الأمين العام لحلف الناتو كان قد أعلن أمام الصحفيين الجمعة الماضي عن استعداد الحلف للدفاع عن أوكرانيا: “لدينا قوات ولدينا جيوش ولدينا الجاهزية ولدينا الخطط كي نكون قادرين على حماية جميع الحلفاء ونقوم بالتكيف بشكل دائم واستثمرنا في السنوات الأخيرة أكثر مما استثمرناه طوال الوقت لتحديث قواتنا بغرض الحفاظ على الأمن في أوروبا”.

لكن ستولتنبرغ رفض الإجابة بشكل مباشر على سؤال محدد: هل الناتو مستعد لإرسال قوات إلى أوكرانيا لمساعدتها على صد الغزو الروسي المحتمل؟ وحقيقة الأمر هي أن إجابة السؤال معروفة للجميع وهي “كلا”. وجاءت الإجابة على لسان بايدن نفسه وباقي مسؤولي حلف الناتو بمن فيهم أمينه العام ستولتنبرغ.

وستولتنبرغ يوجه دائماً انتقادات عنيفة للكرملين، وكان قد قال في ديسمبر/كانون الأول الماضي إن “تهديد دولة ذات سيادة مثل أوكرانيا هو استفزاز”، وأضاف: “فقط أوكرانيا و30 من حلفاء الناتو هم من يقررون متى تكون أوكرانيا مستعدة للانضمام إلى الناتو. وليس لروسيا حق النقض، وليس لروسيا رأي، وليس لروسيا الحق في إنشاء مجال نفوذ لمحاولة السيطرة على جيرانها”.

ماذا يتوقع الغرب من بوتين؟

في ظل هذه المعطيات جميعاً، هناك عنصر هام يراه كثير من المحللين حاسماً في اتخاذ فلاديمير بوتين قراره بشأن أزمة أوكرانيا في نهاية المطاف، وهو العنصر المتعلق بصورة بوتين نفسه في الداخل الروسي، فالرئيس سيجد صعوبة بالغة في التراجع عن “خطوطه الحمراء” في الأزمة بعد أن كررها في أكثر من مناسبة.

وفي هذا السياق يعتبر كثير من المحللين الغربيين أن تصريحات ستولتنبرغ “غير مسؤولة، وتمثل تحدياً صارخاً للرئيس الروسي”، في وقت تدق فيه طبول الحرب بالفعل، ويتساءل كثير منهم: “ماذا يتوقع ستولتنبرغ أن يكون رد فعل الدب الروسي عندما يوجّه له هذا التحدي العلني؟ هل هي دعوة للحرب؟”.

الصورة إذا تبدو قاتمة والحلول الدبلوماسية تتقلص كل ساعة، بحسب محللين غربيين، فهل يعني هذا أن غزو روسيا لأوكرانيا قد أصبح مسألة وقت، بغض النظر عن النفي الروسي؟

صحيح أن الإجابة بشكل جازم على هذا السؤال تبدو شبه مستحيلة، لكن قراءة النفي الروسي لنية غزو أوكرانيا تشير إلى أن ذلك النفي مشروط بتقديم الغرب ضمانات مكتوبة بأن كييف لن تنضم لحلف الناتو، وبالتالي فمن الصعب أخذ ذلك النفي على محمل الجد.

النقطة الأخرى هي أن روسيا لم تعترف أصلاً أنها غزت أوكرانيا عام 2014 وضمت إقليم شبه جزيرة القرم، فالنسخة الروسية من الأحداث تقول شيئاً آخر مختلفاً تماماً. سكان القرم طالبوا بالانفصال عن أوكرانيا وأعلنوا جمهوريتهم المستقلة ثم أجرت تلك الجمهورية استفتاء طالب من خلاله أهل القرم الانضمام للاتحاد الروسي. تلك هي الرواية الروسية لما حدث عام 2014.

والآن يبدو أن نفس السيناريو قد يكون خطوة بوتين المقبلة إذا ما فشل في الحصول من بايدن ولو على جزء من مطالبه في الأزمة الأوكرانية. إقليم دونباس يشهد الآن نفس ما شهده إقليم القرم من قبل، وبالتالي قد يكون هو الجزء الثاني الذي سيقضمه الدب الروسي بديلاً عن الغزو الشامل، بحسب ما يراه بعض المراقبين.

 

Exit mobile version