أيها الخير بيننا وبينك حجاب (2-2)

 

في المقال السابق، تناولنا معوقات الإنسان عن التقدم مع توافر النية لإحداث طفرة في الحياة بمختلف جوانبها المادية والوظيفية إلى غير ذلك، وذكرنا من القيود التي تعيق الإنسان عن الرفعة الهم والحزن والعجز، أما الهم فناتج عن النظرة السوداوية للحياة وتوقع الشر في المستقبل، ومن أسبابه الفراغ والشك والتسخط والتسبب في إدخال الهم على الناس، وعلاجه اليقين في الله تعالى وما عنده من خير، والاستفادة من التجارب المريرة، أما العجز فسببه غياب القدرة على فعل ما يريده الإنسان أو عدم تفعيلها؛ لأن صاحبها لا يدرك وجودها، ومع وجود بعض القدرات وعدم ملاحظتها أو الانتفاع بها هناك من يغالب العجز ويغلبه، وهناك من أسرهم العجز وبقوا في أسره بعد انتهاء أسبابه، ونواصل الحديث عن قرين العجز وهو الكسل.  

الكسل هو وجود القدرة وغياب الإرادة، فالكسلان يقدر على فعل الخير وفعل الطاعة لكن كأنه ينسى ما أعده الله تعالى من الجزاء لمن يعمل الخير فيتكاسل، ولا يزال الكسل بالإنسان حتى يؤدي به إلى التفريط في حقوق الله تعالى وحقوق من حوله.

أحد مظاهر الكسل ما نلحظه يوم الجمعة، لا يزال البعض يتكاسل حتى ينزل الإمام من على المنبر ويدخل في الصلاة، بل يزداد الكسل ببعضهم حتى لا يدرك من الصلاة شيئاً، يسبب الكسل لهؤلاء في فقدان العديد من الدرجات والحسنات، ومظهر آخر يسبب لهم فقدان الأموال، أولئك الذين يتأخرون عن أوقات العمل فيضطرون غير آسفين إلى تجاوز السرعات المقررة وتجاوز الإشارات الحمراء والتأخير عن البداية المقررة للعمل، كم هي الخسائر التي تعود عليهم مالاً وإحراجاً وخصماً من رصيدهم عند زملائهم ومن يتعاملون معهم.. إن قدراً من الانضباط والإرادة ترحم الإنسان من كل هذا الخجل.

الكسلان يتذرع بالتسويف، وأكثر ما يضيع الفرص على الإنسان في الدنيا والآخرة هو الكسل، العجز والكسل من مقيدات الإنسان التي تربط فكره ويده ورجله.

الجبن والبخل

وصف الله تعالى المنافقين من شدة جبنهم بأنهم {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4]، وإذا أصيب الإنسان بالجبن لن يستطيع أن يتحرك ولو خطوة واحدة في حياته، بل تحكي كتب التاريخ أن واحداً من التتار كان يمر على عدد من المسلمين ويأمرهم بالوقوف حتى يحضر سيفاً يقتلهم به ولا يفكر أحدهم في الهرب أو في التعاون على قتل هذا الرجل الواحد.

ونريد أن نفرق بين الجبن الذي يعيق الإنسان عن اتخاذ القرار الصحيح، والحكمة التي تدعوه إلى التفكير والتقدير قبل التحرك، الجبان يتصور أنه يفكر ويفكر حتى تفوت أفضل فرص الشراء، وتتزوج أنسب النساء له، وتضيع كل الفرص المتاحة له ليأخذ نصيبه من الدنيا ومن مواضع الشرف.

الحكيم يزن الأمور بالموازين؛ بميزان المكاسب والخسائر والمصالح والمفاسد، ثم يتخذ قراره وينفذه بلا تردد ولا خوف، فعلى المرء أن يسعى وليس عليه إدراك النجاح.

أما البخل فهو أحد الأمور التي تعوق الإنسان عن تحقيق الأرباح في الدنيا والآخرة، فقد أعد الله تعالى لأهل السخاء الدرجات العلا؛ فتجد لهم القبول بين الناس، وتجد الأبواب مفتوحة لهم، بينما البخيل مبغوض من المحيطين به وممن يتعاملون معه، ونريد أن نفرق بين البخيل ومن يضع المال في موضعه ليعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة.. رأيت من يتهم والده بالبخل مع أن الوالد وعده بهدية قيمة جداً كان يحلم بها إذا حصل على شهادة عليا ونفذ الوالد وعده وما زال الولد يتهمه بالبخل.

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن: “شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ” [السنن الكبرى للبيهقي]، الشح أشد البخل، يجزع أشد الجزع من الإنفاق، والجبن الخالع هو الذي ينخلع منه القلب من شدة الخوف.

الجبان والبخيل يقيدان نفسيهما بقيود لم يقيدهما بها أحد، ليس هناك علاقة بين الشجاعة والحمق والتهور، بل الشجاع شخص عزيز النفس لا يرضى بالدنية في دينه أو دنياه.

ضلع الدين

عندما تغيب القناعة ويحضر الشره، عندما يسيطر الأمل ويغيب العمل؛ يغرق الإنسان في الديون، يريد أن يأكل كما يأكل الآخرون، ويركب أحدث موديلات السيارات، ويستخدم أحدث الهواتف، لكنه لا يملك من المال ما يستطيع معه شراء كل ذلك، ولا يسعى إلى تحسين وضعه المعاشي ليتناسب مع تطلعاته التي لا تتوقف، وتشبه من يشرب من ماء البحر كلما شرب عطش، إن صوت رغباته في الحصول على كل ما يرى طاغ يغطى على صوت الحكمة والمقدرة المالية والخوف من العجز عن الوفاء بالديون.

يستدين ويزداد شرهه لما يراه من زينة الحياة الدنيا ويأتي وقت السداد فيضطر إلى الكذب واختلاق الأعذار والحلف بأغلظ الأيمان أنه سيسدد ما عليه في الموعد المحدد، لكنه يخلف وعده، تتراكم الديون ويرفع الأمر إلى القضاء ينتقل من محل سكنه إلى حيث لا يعرفه أحد ليكرر نفس القصة، وَقَالَ بعض السلف: “ما دخل هم الدين قلبًا إلا أذهب منْ العقل ما لا يعود إليه”، هموم الدين تنقص من قدرات الإنسان وتعوق من حركته.

لنراجع عملية الاستدانة؛ هل نملك ما نبيعه حتى لا نقع تحت طائلة الديون؟ هل هذه الديون لحاجات ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها ولا تأجيلها وليس هناك بديل؟ ما مقدرتنا المالية على السداد؟ وما الأجل الذي يمكننا سداد الدين فيه؟ لا يزال الشره بالإنسان حتى يذله ويحمله من الديون ما لا يستطيع معه أن يقف شامخاً بينهم موفور الكرامة عزيز النفس، هل يستطيع المدين أن يقول فيسمع لقوله، أو يبدأ في عمل فيجد من يعاونه؟ هل يتركه الناس دون تجريح لشخصه وانتقاص منه إلى أن يقضي دينه.

قهر الرجال

يفسر الشراح هذا القهر بأنه وقوع الرجل تحت طائلة غيره يأمره وينهاه ويقيمه ويقعده، إنه مقيد بإرادة غيره فلا يتحرك ولا يسكن إلا بأمره، هذا قيد كبير يعوق الفكر قبل القدم واليد، تتعطل معه المواهب والأعمال حتى يأمر صاحب الأمر حتى لو كانت مصيبة كبرى لا تمنع ولا تدفع إلا بأمر صاحب الأمر ولو أدى ذلك إلى تفاقم الوضع وزيادة الخسائر، بل لو وصل الأمر إلى تلف الأرواح، فأي قيد أعظم من ذلك! أو وقوع المدين تحت طائلة الدائن يعذبه بالكلمات والنظرات القاسية.

وفسر الشراح قهر الرجال بأنه وقوع الرجل تحت طائلة شهوته، وهو من أسوأ ألوان القيود والأسر، فالهوى يعمي ويصم؛ يعمي عن المصائب، ويصم عن الاستماع للخير.

وللإنصاف نقول: إن الهموم والأحزان والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال تعرض للإنسان مرة واحدة أو على دفعات، والحكيم من يستطيع إدارة أزمته مع الهم والحزن وغيرهما من الحجب، الحكيم هو الذي يستطيع التغلب على هذه الحجب بالدعاء والانتفاع بخبرات من سبقه وبالتفكير السليم والمبادرة إلى الخروج من هذه الأزمات.

الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال معوقات عن العمل والرفعة في الدنيا والآخرة، لا بد من التخلص منها ليسير الإنسان في طريق المجد.

Exit mobile version