“على غرار إنزال نورماندي”، وصلت ناقلات الغاز المسال الأمريكية إلى شواطئ أوروبا، بعد عبورها الأطلنطي، لتنقذ القارة من أزمة الغاز، ولكنها تكشف أيضاً أخطاء سياسات الطاقة الأوروبية الحالية، فهل يستطيع الاتحاد الأوروبي بعد هذه التجربة المريرة وضع سياسات تضمن عدم تكرار أزمة الطاقة الأوروبية الحالية.
فمع اقتراب عام 2021 من نهايته كانت وكالة Bloomberg الأمريكية قد أفادت أن عشرات الناقلات الأمريكية التي تحمل الغاز الطبيعي المُسال تتَّجِه حالياً إلى موانئ مختلفة في أوروبا.
واعتباراً من 1 يناير/كانون الثاني 2022، حدَّدَ مراسل الوكالة الأمريكية سيرجيو تشابا 49 شحنة من الغاز الطبيعي المسال الأمريكية، متجهة إلى أوروبا، لمساعدة القارة على تجنّب أزمة طاقة كاملة مع حلول فصل الشتاء. هذا هو أكبر أسطول للسفن الأمريكية بهدف إنقاذ أوروبا من ورطتها، منذ إنزال نورماندي، في 6 يونيو/حزيران 1944، حسبما ورد في تقرير لمجلة Forbes الأمريكية.
عيوب منهجية في سياسات الطاقة الأوروبية أدت إلى أزمة الغاز
الكثير من الجدل حول أزمة الطاقة الأوروبية يُلقي باللوم على الطاقة المتجددة أو الوقود الأحفوري.
يشير منتقدو الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة إلى اعتمادهم على الرياح والشمس المتقطعة (التي كانت ضعيفة في معظم أنحاء أوروبا هذا العام)، بينما يشير مؤيدوهم إلى التقلبات في أسعار الوقود الأحفوري، وانخفاض واردات الغاز من روسيا.
وترى Foreign Policy الأمريكية أن كلاً من أيديولوجية السوق اليمينية وقمع السوق الانعكاسي لليسار قد أسهما في أزمة الطاقة الحالية، بسبب عيوب منهجية في سياسات الطاقة الأوروبية.
تحرير سوق الغاز تسبب في أزمة الطاقة الأوروبية
كجزء من تحرير تجارة الطاقة شجَّع الاتحاد الأوروبي الدول الأعضاء على الانتقال إلى عقود توصيل الغاز على أساس السعر الفوري اليومي، بدلاً من التفاوض على أسعار ثابتة وطويلة الأجل مع الموردين، مثل شركة غازبروم الروسية. استند هذا الرأي إلى أيديولوجية السوق أكثر من التحليل الشامل لكيفية تحقيق أمن العرض وانخفاض الأسعار. خلقت هذه السياسة العديد من النتائج السلبية. أولاً أدى الاعتماد على الأسواق الفورية مع تقلباتها اليومية إلى زيادة قدرة روسيا على التأثير في أسعار الغاز، بصفتها أكبر مورد للغاز في أوروبا، مع قدر كبير من الطاقة الاحتياطية، يمكنها تحرير الإمدادات أو الحد منها، وبالتالي تحديد الأسعار بشكل فعال، بالإضافة إلى ذلك فإن إلغاء العقود ذات السعر الثابت يخفف من الإمدادات المستقرة.
كما أن إنتاج الغاز الطبيعي وخطوط الأنابيب الجديدة مكلف للغاية، ويتطلب استثمارات بمليارات الدولارات وسنوات عديدة من التطوير، وهذا يخلق حافزاً مثبطاً لمجموعة أكثر تنوعاً من المنتجين، للاستثمار في توريد الغاز إلى أوروبا، ما يزيد من نفوذ روسيا على السوق.
حماس الأوروبيين للطاقة الصديقة للبيئة لا يشاركهم فيه بقية العالم
البعض يرى أن جزءاً من الأزمة هو حماس الاتحاد الأوروبي لسياسات الطاقة الخضراء، وهو اندفاع يضغط على إمدادات الطاقة لديه، وهو في الوقت ذاته لن يؤتي أُكله؛ لأن القوى الصناعية الأخرى الملوِّثة للبيئة لن تفعل الشيء ذاته، حسبما ورد في تقرير لمجلة Forbes.
تقول المجلة الأمريكية إذا عشنا حقاً في العالم الذي تَصوَّره المندوبون المشاركون في مؤتمر المناخ الدولي، فسيكون على الصين والهند التزاماتٌ حقيقية للوفاء بها الآن، بموجب اتفاقياتهما المختلفة، ولن تعمل الصين على تمويل أكثر من 300 محطة طاقة جديدة تعمل بالفحم في الداخل وفي أنحاء مختلفة من العالم، لكن هذا ليس العالم الذي نعيش فيه، وعلى الأرجح لن يكون كذلك أبداً.
وتضيف قائلة “بالنظر إلى الواقع يجب أن نبحث بدلاً من ذلك عن حلول أكثر عملية وقابلية للتطبيق، لتحقيق أهداف المناخ العالمية”.
مع تفاقم أزمة الطاقة الأوروبية، خلال ديسمبر/كانون الأول، لجأت العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إلى جانب بريطانيا، إلى حرق المزيد من الفحم والوقود بسبب ضعف أداء طاقة الرياح. إنها أزمةٌ نشأت بالكامل تقريباً من خلال الجهود التي تبذلها هذه الحكومات لفرض انتقال الطاقة الجديدة قبل الأوان، باستخدام الرياح ومصادر الطاقة المتجددة الأخرى غير المستعدة لتحمل أعباء التخلِّي عن الفحم ومحطَّات الطاقة، التي تعمل بالفحم والطاقة النووية والغاز الطبيعي.
في حين أن الاتحاد الأوروبي ملتزم رسمياً بالاعتماد على قوى السوق، فإنه غالباً ما أخضع تلك القوى لتحقيق أهداف سياسية. مع فرض الحكومات الأوروبية حصة أكبر من مصادر الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة، لا يُسمح للمرافق باختيار الوقود الأكثر جدوى من الناحية الاقتصادية، حسب Foreign Policy.
كما حولت المفوضية الأوروبية الحالية سياسة الطاقة إلى مجرد مجموعة فرعية من سياسة المناخ، مع القليل من الاهتمام بأمن الإمداد أو القدرة على تحمل تكاليف الطاقة. بينما تم العثور على مصادر رئيسية جديدة للغاز الطبيعي، على مقربة شديدة من أوروبا، في شرق البحر الأبيض المتوسط، على سبيل المثال، رضخ القادة الأوروبيون لضغوط النشطاء، ولم يسعوا بجدية إلى أي من هذه المصادر المتاحة حديثاً.
إضافة لذلك لم تحل أوروبا أيضاً مشكلة كيفية تعاملها مع الارتفاعات الكبيرة في الطلب على الطاقة، مثل فترة البرد الممتدة.
كيف بدأت أزمة الغاز الأوروبية؟
كانت هناك وفرة في الغاز الطبيعي المسال في عام 2019، واستوردت أوروبا الكثير منه، خاصة أن لديها الكثير من منشآت تخزين الغاز الطبيعي، وكانت القارة في طور التحول من الفحم إلى الغاز الطبيعي لتوليد الطاقة.
ثم انهارت أسعار الغاز الطبيعي المسال في عام 2020 بسبب وباء كورونا، وبدأ الغاز الطبيعي المسال على نحو متزايد في استبدال إمدادات شركة “غازبروم” الروسية في أوروبا.
ولكن أظهرت أحداث عام 2021 مدى تقلب السوق الفوري للغاز الطبيعي المسال، التي كان الاتحاد الأوروبي يراهن عليها في سياسته الخاصة بالطاقة.
بدأت الأزمة الحالية عندما ارتفعت الأسعار بشكل حاد في آسيا بسبب الطقس البارد والانتعاش السريع للاقتصاد الصيني بعد جائحة كورونا، حسبما ورد في تقرير لمركز Carnegie Moscow.
بعد عدة أشهر، صعدت الأسعار في المراكز الأوروبية بجنون إلى أرقام قياسية، 250 دولاراً لكل 1000 متر مكعب في يناير/كانون الثاني، بحلول يوليو/تموز كانت 500 دولار، وفي سبتمبر/أيلول وصلت إلى 1000 دولار.
مع هذه الأسعار قد يتخيل المرء أن الغاز الطبيعي المسال كان سيبدأ في التدفق إلى أوروبا، لكن هذا لم يحدث، بين يناير/كانون الثاني وبداية نوفمبر/تشرين الثاني 2021، انخفضت شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى السوق الأوروبية بنحو الربع تقريباً، مقارنة بالعامين السابقين.
بدلاً من ذلك، تم إرسال كل الغاز الطبيعي المسال الموجود في السوق الفورية إلى آسيا، حيث كانت الأسعار أعلى (وصلت إلى 2000 دولار لكل 1000 متر مكعب، في أكتوبر/تشرين الأول 2021).
كانت الأسعار أعلى بكثير في آسيا من أوروبا، لدرجة أن مورّدي أحواض المحيط الأطلسي، الذين أرسلوا منتجاتهم لآسيا، حققوا أرباحاً رغم تكاليف النقل الإضافية من الأطلنطى إلى هناك.
بالطبع تزَامَن ذلك مع تباطؤ توريد الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب، خاصة مبيعات الغاز الفورية وليس المتعاقَد عليها من قبل، ورغم وجود بعض الأسباب الفنية والمناخية والتجارية لتباطؤ إنتاج الغاز الروسي، منها بيعه لآسيا أيضاً، فإن الساسة والمحللين الغربيين يشتبهون في أن موسكو تضغط عبر إغلاق صنبور الغاز قليلاً على أوروبا، ولاسيما ألمانيا، لتشغيل خط السيل الشمالي الذي يمر مباشرة من روسيا لألمانيا عبر بحر الشمال، دون المرور على أي دولة أوروبية أخرى كحال الخطوط الحالية.
تكمن مفارقة الوضع في حقيقة أن أزمة الغاز الطبيعي في أوروبا هي إلى حد كبير نتيجة المحاولات في العقود الأخيرة لتحرير الأسواق وزيادة دور التداول الفوري، حسب تقرير Carnegie Moscow.
أظهرت أزمة الغاز الطبيعي مدى خطورة أن تعتمد الحكومات حصرياً على آليات السوق غير المرئية، لتنفيذ استراتيجيات الطاقة.
وما يزيد من مخاطر سياسات الطاقة الأوروبية الحالية أنه ستنتهي عقود أوروبا طويلة الأجل لاستيراد 100 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً بحلول عام 2025. ويبدو أنه لا توجد طريقة لتمديد هذه العقود بنفس الشروط (أي لفترة طويلة).
كيف يضمن الأوروبيون عدم تكرار أزمة الطاقة الحالية؟
من المرجح أن يُنشئ الأوروبيون آليات لحماية أنفسهم من النمو غير المنضبط لفقاعات الأسعار.
ومن المحتمل أن تشمل استجابتهم إنشاء احتياطيات الغاز الطبيعي الاستراتيجية، أو مناقشات جديدة حول نظام “النافذة الواحدة” لمشتريات الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي (رغم صعوبة تنفيذ ذلك).
والأرجح أنه ستكون هناك جولة جديدة من الانتقادات الموجّهة إلى شركة غازبروم الروسية، من قبل دول أوروبا الشرقية.
طاقة نووية خضراء وغاز طبيعي انتقالي
في الأول من الشهر الجاري، يناير/كانون الثاني، صاغ الاتحاد الأوروبي، بعد عامٍ كاملٍ من النقاش والجدل، خطة “تمويل مستدام” جديدة متعلقة بالطاقة، من شأنها تصنيف العديد من مشاريع الغاز الطبيعي والطاقة النووية الجديدة كاستثماراتٍ خضراء.
وستصنِّف الخطة الجديدة المشاريع النووية -التي لا تنتج انبعاثات كربونية- على أنها خضراء فقط إذا كان “المشروع لديه خطةٌ وأموال وموقع للتخلص الآمن من النفايات المشعة”، وإذا استخرجت المحطَّات المخطَّط لها تصاريح البناء الخاصة بها قبل عام 2045.
وستكون محطَّات الغاز الطبيعي مؤهَّلة لتصنيفها باعتبارها خضراء إذا كانت:
لديها ملف انبعاثات أقل من 270 غراماً من مكافئ ثاني أكسيد الكربون لكلِّ كيلو وات/ساعة.
استبدلت مصنع وقود أحفوري أكثر تلويثاً.
تسلمت تصاريح البناء الخاصة بها بحلول 31 ديسمبر/كانون الأول 2030.
وأخيراً تكون لديها خططٌ للتحوُّل إلى الغازات منخفضة الكربون بحلول نهاية عام 2035.
ستشمل الخطة أيضاً التحذير من أن مثل هذه المصانع ستكون قادرةً على الحصول على هذا التصنيف الأخضر لأغراض التمويل، على أساس أنها أنشطة “انتقالية” فقط. كان الاتحاد الأوروبي والهيئات الحكومية الأخرى يحاولون تعريف الغاز الطبيعي على أنه وقود “انتقالي” لعقود حتى الآن، ولكن ما لم يكتشفوا طرقاً لفرض انخفاض الطلب العالمي على الطاقة من المرجح ألَّا تستمر هذه التعريفات.
وفي حين أن الغاز الطبيعي ينبعث منه نصف كمية ثاني أكسيد الكربون مثل الفحم عند الاحتراق، فإن غاز الميثان يتسرب من الآبار التي يستخرج منها والمعدات المستخدمة لنقله، ما يقلل المزايا المناخية للغاز الطبيعي على الفحم.
اللجوء للخام الأمريكي
قد تسهم رغبة بايدن في تقليل الانبعاثات الحرارية من صناعة استخراج الغاز الأمريكية، وهي الرغبة التي تغضب المنتجين التقليديين في البلاد، في تعزيز صادرات الخام الأمريكي إلى أوروبا في نهاية المطاف، حسبما ورد في تقرير لموقع Politico الأمريكي.
فهناك ضغوط متزايدة في الاتحاد الأوروبي بأنهم إذا كان سيتزايد اعتمادهم على الغاز، فعليهم أن يستخدموه من خلال معايير أعلى من حيث حماية البيئة، وألا يستسلموا للمعايير الأدنى المستخدمة في الولايات المتحدة، حسب جيسون بوردوف، مدير مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا ومستشار سابق للمناخ في البيت الأبيض في عهد أوباما.
والحذر الأوروبي الحالي من شراء الغاز الطبيعي الأمريكي جديد نسبياً.
فبعد أن بدأت إدارة أوباما الموافقة على تصاريح التصدير في عام 2015، رحبت البلدان في جميع أنحاء أوروبا بشكل عام بالشحنات الأمريكية كبديل لمورديها التقليديين في روسيا أو الشرق الأوسط.
لكن الجدل الدائر حول ممارسة شركات النفط في تكساس في إطلاق غاز الميثان غير المرغوب فيه ببساطة، خلال عملية استخراج الغاز الطبيعي في الهواء أو حرقه، أصبح قضية رئيسية لبعض الدول الأوروبية، التي تعتزم مكافحة تغير المناخ.
وقامت شركات تكساس بإطلاق تريليون قدم مكعبة من الميثان في الغلاف الجوي منذ عام 2013، وفقاً لتقدير صندوق الدفاع البيئي.
ومن أجل فتح أسواق أوروبا أمام الغاز الأمريكي بشكل أكبر يُطالب بعض العاملين في صناعة الطاقة الأمريكية، بايدن بالتفاوض على معيار مشترك للدول لقياس محتوى الكربون في الغاز الطبيعي، مع جعل لوائح غاز الميثان أولوية سياسية عليا في الداخل الأمريكي، لتصبح متوائمة مع المعايير الأوروبية.
سيوفر هذا للأمريكيين نفاذاً أقوى للسوق الأوروبية، ويضمن لأوروبا بديلاً ولو جزئياً عن الغاز الروسي.