مع بداية سنة 2022.. بؤر توتر وملفات ساخنة في أوروبا

 

بدخول السنة الميلادية الجديدة، تعيش أوروبا وضعاً استثنائياً يغلب عليه حالة التأزم والتي تتمثل في وجود ثلاث بؤر توتر على مستوى كل من:

ـ العلاقات الفرنسية البريطانية

ـ العلاقات الاوكرانية الروسية

ـ العلاقات البولندية البيلاروسية

إضافة إلى ثلاثة ملفات ساخنة وهي:

ـ ملف الانتخابات الفرنسية

ـ ملف كورونا وتداعياته

ـ ملف الطاقة شرق المتوسط

ملف كورونا وتداعياته:

عادت أزمة جائحة كورونا إلى الواجهة بعد ظهور متحور أوميكرون الشديد العدوى مع عودة الحديث عن موجات جديدة لتفشي هذا الوباء تجاوزت في حدتها الموجات السابقة بعد تسجيل نسب غير مسبوقة في عدد المصابين وما ينجر عنه من تداعيات صحية واقتصادية واجتماعية.

فالمنظومة الصحية بدأت تتهاوى أمام ارتفاع الضغط على المستشفيات. في بعض البلاد الأوروبية مثل فرنسا هناك أزمة مضاعفة بسبب النقص الفادح في الطاقم الطبي لعوامل عدة منها استقالة عدد من الممرضين من عملهم لرفضهم التلقيح، أو بسبب الغياب أيام إجازة نهاية السنة..  وقد دقت الاوساط الطبية ناقوس الخطر وطالبت الحكومةَ بإجراءات صارمة خاصة في فترة الاحتفالات برأس السنة الميلادية وقبل العودة إلى الدراسة.

ومن نتائج انتشار جائحة كورونا إلغاء العديد مع الرحلات الجوية واللجوء إلى العمل في البيوت وهو ما يذكّر بالإجراءات التي طبقت في بداية الجائحة والتي كانت لها تداعيات سلبية على الاقتصاد. وإذا تعطلت الدورة الاقتصادية تتضرر الحياة الاجتماعية وترتفع موجة الاحتجاجات الشعبية. وهو ما تخشاه الحكومات لان عدم الاستقرار الاجتماعي ينعكس بدوره على الوضع السياسي.

وبات تعدد موجات انتشار الوباء في أوروبا مصدر أرق لأصحاب القرار في هذه القارة التي تعيش تحديات داخلية أهمها ارتفاع نسبة الشيخوخة وتفاقم الازمة الاقتصادية، علاوة على التحديات الخارجية وأهمها الازمة مع روسيا التي انعكست من خلال توتر العلاقات الأوكرانية الروسية وتوتر العلاقات البولندية مع بيلاروسيا، حيث تبرز روسيا بوتين كقوة منافسة للناتو على المستوى الأوروبي.  

توتر العلاقات البولندية مع بيلاروسيا

ويتابع العالم مأساة آلاف اللاجئين الهاربين من البؤس في أوطانهم والحالمين بحياة أفضل في الاتحاد.  لكنهم بقوا عالقين على الحدود البيلاروسية -البولندية.. ويتهم الاتحاد الأوروبي بيلاروسيا بالإضرار بمصالح الاتحاد من خلال تشجيع المهاجرين على عبور الحدود. ويذكّر هذا الوضع المأسوي بالمشهد الذي ساد الحدود التركية-اليونانية سنة 2015. بيد أن الجديد في المشهد الحالي دخول قوى كبرى على الخط بين مساندة أطلسية حظيت بها بولندا مقابل مساندة روسية لنظام بيلاروسيا، وهو ما ينذر باحتمال تدهور الأوضاع نحو اشتباك حدودي، وتصاعد التوتر بين روسيا ودول حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي بل ومخاطر مواجهة روسية – أطلسية مباشرة.

توتر العلاقات الأوكرانية الروسية

ومما زاد الامر تعقيداً اندلاع أزمة على الحدود الأوروبية الشرقية بين أوكرانيا وروسيا. وتلوح مؤشرات التصعيد بدخول حلف الناتو على الخط والحديث عن انخراط أوكرانيا في هذا الحلف واعتبار روسيا هذا الامر بمثابة الاستفزاز العسكري لها.  

وتجد أوروبا نفسها في كماشة بين الولايات المتحدة وروسيا، وهو الوضع الذي يذكّر بأجواء الحرب الباردة ما قبل تسعينات القرن الماضي. ومن بين الملفات محل مقايضة خط الغاز من روسيا إلى ألمانيا والتهديد الغربي بإلغاء الاتفاقية مع روسيا في موضوع الغاز إذا فكرت في غزو أوكرانيا.  

إلا أن الملاحظين يستبعدون تطور التصعيد إلى حد الصراع المفتوح بالنظر إلى موازين القوى العسكري المتوازنة بين الناتو وروسيا، إضافة إلى كون بايدن له في مصلحة في الابقاء على جسر تواصل بينه وبين بوتين، لان خصومة بايدن مع الصين تتقدم على أي خصومة أخرى.

وفي انتظار وجود حل دبلوماسي أمريكي روسي، تبقى أزمة العلاقات الروسية الاوكرانية مصدر قلق وتوتر على شرق القارة الأوروبية. واقترحت تركيا تقديم الوساطة بين الطرفين، وهو ما ترفضه أطراف أوروبية لأن مثل هذه الوساطة تعكس مزيدا من الدور التركي الاقليمي، في حين تسعى هذه الاطراف إلى تهميش الدور التركي.  

ملف الطاقة شرق المتوسط

إن الازمة الحالية بين الاتحاد الأوروبي وموسكو وتداعياتها من حيث احتمال تعطيل موارد الطاقة الروسية في الوقت الذي يتضاءل فيه احتياطي الغاز في بحر الشمال تمثل في مجموعها مصدر قلق أوروبي متصاعد في ظل الظروف الاقليمية غير المستقرة. وتتجه الانظار إلى الطاقة البديلة في شرق البحر المتوسط حيث يقدَّر مخزون الطاقة بـ 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي غير المكتشف والقابل للاسترداد من الناحية التقنية. وتحوّل شرق المتوسط إلى منطقة سباق بين القوى الراغبة في امتلاك هذه الطاقة، في ظل سياسة محاور تنذر بتصعيد محتمل في أي وقت. فلا غرابة أن يستضيف رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نتنياهو رئيس الوزراء اليوناني أليكسيس تسيبراس والرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس خلال اجتماع ثلاثي في القدس لمناقشة النفط والغاز في شرق البحر المتوسط في 8 ديسمبر 2016.  

مقابل الشراكة اليونانية- الإسرائيلية- القبرصية، نشط المحور التركي القبرصي (قبرص التركية) عبر نزول أنقرة بثقلها واتهامها قبرص اليونانية المتحالفة مع مصر باستغلال حقوق للغاز تعود إلى ملكية قبرص التركية. كما وضعت تركيا إحدى سفنها البحثية المضطلعة بالأنشطة المختصة بالاهتزازات الأرضية قبالة شمال قبرص في أكتوبر الماضي. وتبين بذلك مدى مراهنة أنقرة على موارد الغاز في شرق المتوسط.

هنا دخلت فرنسا على الخط في سياق سياسة المحاور واصطفاف باريس مع المحور المصري القبرصي اليوناني ضد تركيا التي استطاعت أن تكسب الرهان في الساحة الليبية وتزيح فرنسا التي تحالفت مع حفتر لوأد الربيع العربي في ليبيا.. ووصلت أزمة العلاقات الدبلوماسية الفرنسية التركية إلى حد تبادل العبارات غير الدبلوماسية بين رأسي السلطة في فرنسا وتركيا (ماكرون واردوغان) علما بأن كلا الرئيسين ينتظرهما استحقاق رئاسي مصيري، سنة 2023 في تركيا وسنة 2022م في فرنسا.    

ملف الانتخابات الفرنسية

تستعد فرنسا إلى انتخابات رئاسية في الربيع المقبل، وهي محطة جد مهمة بالنظر إلى حجم الدور الفرنسي على المستوى الأوروبي والدولي، إلى جانب القطب الالماني الذي شهد بدوره تغييرا سياسيا بخروج أنغيلا ميركل من السلطة بعد 16 عاماً من منصب مستشارة ألمانيا من 2005 إلى 2021م. وأصبح أولاف شولتس رابع مستشار لألمانيا من الحزب الاشتراكي.

وتكتسي الانتخابات الفرنسية القادمة صبغة خاصة لوجود وضع جديد تمثل في صعود أقصى اليمين بشكل غير مألوف. ذلك أنه وإلى وقت قريب كانت مارين لوبان Le Pen الشخصية المرشحة لمنافسة ماكرون Macron في الدورة الثانية من الانتخابات القادمة. وهو السيناريو المعتاد في الدورات السابقة والمفضل بالنسبة لاي مرشح مقابل لوبان، لأنه يدفع جل الناخبين لقطع الطريق أمام تيار أقصى اليمين بالتصويت لمنافس لوبان. 

لكن العديد من المحللين تحدثوا عن احتمال نجاح تيار أقصى اليمين في هذه المرّة من إحداث مفاجئة في الدورة الرئاسية القادمة بأن يفوز بالمرتبة الاولى في ظل نوع من التراجع لمرشح الاغلبية الحالي ماكرون.

في هذا السياق، غيّر ايريك زمور Zemmour  – يهودي من أصل جزائري- الرهانات بدخوله في المعترك الانتخابي من الباب الكبير، وبروزه كمنافس قوي لطرف سياسي له وزنه في الساحة السياسية الفرنسية متمثلا في اقصى اليمين، حيث استطاع زمّور أن يخطف الاضواء  من مارين لوبان زعيمة التجمع الوطني المحسوب على أقصى اليمين.. وبدأت المعادلة تتغير بوجود وجهين لنفس التيار بما يعني تفتيته، وكأن زمّور جئ به لمهمة خاصة وهي تسهيل الأمر على مرشحي اللوبيات للوصول إلى سدة السلطة بدون تهديد من أقصى اليمين. ولا يهم في الاخير إن كان ماكرون Macron  أو باكراس Pecresse  منافسته من اليمين الجمهوري أو كريستين توبيرا Taubira من الحزب الاشتراكي من يفوز بكرسي الرئاسة ولكن المهم هو قطع الطريق أمام تيار أقصى اليمين الذي يدق باب السلطة في فرنسا خاصة في المحطة القادمة.

ويجتهد الرئيس ماكرون في بروزه كحارس أمين للمصالح الفرنسية في الداخل والخارج متأثرا بشخصية ديغول من خلال مواقف قوية في ملفات أبرزها الاعلام الفرنسي، وعلى رأسها الازمة مع بريطانيا.  

توتر العلاقات الفرنسية البريطانية

فالعلاقات الفرنسية البريطانية تشهد توترا ملحوظا منذ تنفيذ اتفاقية بركسيت Brexit  وخروج بريطانيا من دائرة الاتحاد خاصة في ملفي الهجرة و الصيد البحري. وتبادل الطرفان الفرنسي والبريطاني الاتهامات بعد غرق قارب وعلى متنه مهاجرون غير نظاميين ومن بينهم نساء وأطفال يريدون الالتحاق ببريطانيا. ففي حين تتهم بريطانيا فرنسا في التقصير في حراسة حدودها، تتهم باريس لندن بعدم الحزم في الاجراءات القانونية الخاصة بالهجرة غير النظامية بما يغري العديد من المهاجرين بالمغامرة بكل الطرق ولو بقطع بحر المانش بقوارب مكتظة في ظروف غير آمنة.

أما على مستوى الصيد البحري، فإن صيادي البحر الفرنسيين يشتكون من ضغوط بريطانية ومنع تقديم رخص صيد في المياه البريطانية لفائدتهم وفق معاهدة العلاقات لما بعد «بريكست»، ووصل الامر إلى حد التهديد الفرنسي بمنع سفن الصيد البريطانية من الرسو وإنزال حمولاتها في موانئ منطقتي نورماندي وبروتاني الفرنسيتين، والتهديد أيضا بحرمان جزيرتي جيرسي وغيرنوسي التابعتين للتاج البريطاني من التيار الكهربائي. وتقع الجزيرتان على بعد أميال قليلة من الشاطئ الفرنسي.

ووصل التوتر بين الطرفين الفرنسي البريطاني إلى أقصاه في ظل الأزمة الكبرى المتعلقة بما يسمى «صفقة القرن» بين كانبيرا وباريس، واتهام بريطانيا بتشجيع رئيس الوزراء الأسترالي على نقض عقد هذه الصفقة واستبدال غواصات أميركية تعمل بالدفع النووي بالغواصات فرنسية الصنع. علاوة على الدور البريطاني الرئيسي في إقامة التحالف الثلاثي (الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا) المسمى «أوكوس»، واستبعاد فرنسا منه وبقية الدول الأوروبية.

ولم تنجح قمة مجموعة العشرين في روما في ردم الهوة في العلاقات الفرنسية البريطانية، وبقيت الازمة تراوح مكانها وقابلة للتصعيد في أي وقت.

ومن خلال ما تقدم، يتبين مدى تعقّد المشهد السياسي وتداعياته على الواقع الأوروبي خلال سنة 2022م بالنظر إلى العديد من الملفات الساخنة العالقة والتي تشكل مصدرا للتوترات الداخلية والإقليمية تستفيد منها إدارة بايدن في تعزيز قيادتها للحلف الاطلسي وفي سياستها الخارجية إزاء قوتي روسيا والصين.   

Exit mobile version