السياسة الكويتية الإقليمية.. رسائل الأمل والسلام

لم يكن عبثاً أن تحصل الكويت عام 2018م على المرتبة الأولى –وفق تصنيف الأمم المتحدة– في مؤشر السلام بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن ثم نجاحها بالإبقاء على أن تكون في مقدمة التصانيف التالية؛ إذ جاء ذلك انعكاساً لمدى التزامها بالمعايير الدولية التي تسعى لتحقيق أكبر قدر من السلام بالمحيطين الإقليمي والدولي من خلال علاقات متناغمة مع الدول المجاورة، وعدم الاصطفاف مع أطراف التنازع، فضلاً عن تناغم داخلي وانخفاض معدلات الجريمة، وتراجع الأعمال الإرهابية، وهي مهمة بات يدرك الجميع أنها ليست سهلة في عالم تملؤه الصراعات السياسية والاقتصادية والدينية، وأحيانا الإثنية والمذهبية، بل وتتجاذبه المصالح المتناقضة التي تضطر أو تسوغ لبعض الدول والكيانات أن يصبح طرفاً في تلك النزاعات.

الحقيقة أن الالتزام الكويتي بمعايير تحقق السلام وفق المؤشرات المتعارف عليها لا يقتصر على فترة 15 عاماً التي استحدث خلالها هذا المؤشر الذي طرحت معاييره الـ24 عام 2007م، بل هو امتداد لنهج الدولة الكويتية منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى الآن؛ حيث حرصت الكويت على أن تنأى بنفسها عن المشاركة في أي تصعيد يخل بالسلام، ومن ثم كان اعتبار الحوار والدبلوماسية والمبادرات السلمية وتقديم المساعدة وغض الطرف عن التباينات السياسية والأيديولوجية خيارات أفضل للتعاطي مع العديد من الملفات المعقدة في منطقة توصف بأنها الأقل سلاماً بالعالم، فيما لم تتراخَ في أن تكون بمقدمة المشاركين في الدفاع عن الحقوق المشروعة.

الكويت حرصت على النأي بنفسها عن المشاركة في أي تصعيد يخل بالسلام وقدمت الدبلوماسية في تعاملاتها

لعل من نافلة القول الحديث عن الأهمية الإستراتيجية لمنطقة الخليج العربي، فهي واحدة من أهم مناطق إنتاج الطاقة في العالم، حيث تنتج أكثر من ربع الإنتاج العالمي من النفط، وتضم ثلثي الاحتياطي منه، وهي -بلا شك- أسباب تجعل أعين العالم مسلطة عليها تتابع عن كثب كل ما يجري فيها.

لكن رغم عظم أهمية امتلاك المنطقة لهذه الموارد التي ساهمت في التنمية الاقتصادية والارتقاء بالمستوى المعيشي للشعوب، فإنها كانت سبباً في أن تشهد العديد من النزاعات السياسية والحدودية، ساهم في تشكلها وتفاقمها –لأسباب اقتصادية وسياسية- العنصر الأجنبي الذي كانت له اليد الطولى بالمنطقة حتى بعد منتصف القرن الميلادي الماضي.

وبرز من هذه القضايا الخلافية بالمنطقة حديث إيران المتكرر عن حقها في البحرين، واحتلالها للجزر الإماراتية، ونزاعات حدودية بين البحرين وقطر، وبين المملكة العربية السعودية والإمارات، وبين السعودية وقطر، والتنافس على جزيرة البريمي بين السعودية وعُمان والإمارات، ومؤخراً الخلاف الذي نشب بين قطر من ناحية وكل من السعودية والإمارات والبحرين من ناحية أخرى، ووصل إلى فرض حصار ثلاثي على قطر ومحاولة عزلها، قبل أن يندمل هذا الجراح وتعود اللحمة من جديد.

ولا ينكر أي راصد للتطورات في المنطقة حجم الجهد الذي بذلته الكويت لأجل رأب الصدع وتقريب وجهات النظر في هذه الأزمة (القطرية الخليجية) الذي أسفر بعد سنوات من العمل عن تهدئة ومصالحة خليجية كان أول من بشر بتحقيقها وزير الخارجية الكويتي.

ولقد مارست الكويت دوراً مهماً ومحورياً في كل هذه القضايا؛ فساهمت في الدفاع عن حق البحرين ودعمها في ترسيخ استقلالها وسيادتها ورفض المحاولات الإيرانية للتدخل في شؤونها؛ ما وطد أواصر العلاقة بين البلدين، وشجع البحرين للمشاركة ضمن قوات “درع الجزيرة” التي أُرسلت لتحرير الكويت، بينما قامت القوات البحرية الكويتية بالمشاركة ضمن قوات “درع الجزيرة” بالبحرين لصد التهديدات التي واجهت أمنها خلال أحداث فبراير 2011م.

كما أكدت الكويت مراراً حق الإمارات في جزرها، ومطالبة إيران بإنهاء احتلالها، والدخول في مفاوضات مباشرة مع الإمارات أو إحالة القضية لمحكمة العدل الدولية، فيما لم تتوان عن تقديم المبادرات لحل النزاعات الحدودية؛ ما كان له أثره الإيجابي على تجاوز هذه النزاعات والتوصل لتفاهمات تحفظ العلاقات الطيبة، تجسد ذلك مثلاً في دور الوساطة الكويتية لنزع فتيل التصعيد بين الإمارات وعُمان على خلفية النزاع على “واحة البريمي”.

لا يمكن تجاهل الدور الإنساني الذي تمارسه الكويت بشأن العراق رغم جرح الغزو الغائر

والحقيقة أن الحكمة الكويتية في التعاطي مع الأزمات لم تتجل في النزاعات الواقعة ما بين الدول الجارة فحسب، لكنها شملت أيضاً الخلافات التي تعد الكويت طرفاً أصيلاً فيها، ومنها خلافها الحدودي البحري مع إيران، وخلافها الحدودي مع السعودية، والخلاف الحدودي مع العراق، فكعادتها غلبت الكويت لغة الحوار والاستجابة لمبادرات الحل السلمي والإبقاء على علاقات التعاون والالتزام بالمعاهدات الحدودية الموقعة في عام 1913 أو 1922م.

كما لا يمكن أن نتجاهل الدور الإنساني الذي كانت ولا تزال تمارسه الكويت بشأن العراق؛ فالكويت وبشهادة الجميع لم تستسلم للجرح الغائر الذي سببه لها العراق فتسامت على هذا الجرح ونفذت على مدار العقود الماضية عدة مبادرات إنسانية بمئات الملايين من الدولارات لصالح العراقيين باعتبارهم شعباً شقيقاً ترتبط معه بروابط الجوار والدين.

المعضلة الإيرانية

ربما تمثلت خطورة الثورة الإيرانية التي نجحت في الوصول للحكم عام 1979م في أنها أضفت على الصراعات الإيرانية العربية -خاصة مع بلدان الخليج- بعداً دينياً مذهبياً سبب الكثير من الإشكاليات لهذه الدول، ليس على المستوى الخارجي فقط، لكن على المستوى الداخلي أيضاً، إلا أن المتفق عليه هو أن أطماع إيران وسياساتها المستفزة والمثيرة للقلاقل تعود لما قبل هذه الثورة بعقود طويلة، تمتد بامتداد الصراع بين الدولة العثمانية التي مثلت المذهب السُّني، والدولة الصفوية التي مثلت المذهب الشيعي، وهو صراع شهد محاولات متبادلة لبسط السيطرة ومد النفوذ لهذه البلدان.

ولعل نظرة استقرائية لتطورات العلاقات الكويتية الإيرانية وطريقة إدارة الكويت لهذه العلاقة منذ استقلالها عام 1961م تشير لأمرين مهمين:

أولهما: وعي الكويت بحقيقة أهداف ومشاريع إيران.

الكويت آثرت التركيز على نقاط الالتقاء مع إيران لتوثيق التعاون الثنائي رغم التباينات الكثيرة بالمواقف

وثانيهما: قدرة الكويت على التركيز على ما يمكن أن يكون نقاط التقاء بين البلدين للانطلاق لتوثيق التعاون الثنائي، ومن ثم قدرتهما على التواصل والحوار، إذ رغم التباينات الكثيرة في المواقف بينهما حول العديد من الملفات سواء المتعلقة بالعلاقة البينية كالحدود البحرية بينهما -حقل الدرة- أو غير المتعلقة بهذه العلاقات كالحرب العراقية الإيرانية التي امتدت لثماني سنوات وساندت خلالها الكويت العراق ضد إيران بعد فترة من الحياد، أو رفض الكويت للحرب الأمريكية على العراق عام 2003م في مقابل دعم إيراني لها، أو مشاركة الكويت في التحالف الداعم للشرعية باليمن ضد الحوثيين المدعومين من إيران، أو موقف الكويت من القضية السورية حيث اعتقادها بعدم وجود حل عسكري للأزمة، وبأهمية العمل للتوصل لتسوية سياسية وفقاً لقرارات مجلس الأمن خاصة القرار (2254)، وبيان جنيف لعام 2012م أو غيرها من الملفات.. فإن ذلك كله لم يدفع الكويت لقطع شعرة معاوية مع إيران لاعتبارات سياسية تتعلق بالانتماء المذهبي لقطاعات من الشعب الكويتي، أو لأسباب اقتصادية تتعلق بتحصل الكويت على المنتجات الزراعية واحتياجاتها من الغاز الإيراني، وهي الرسالة التي قدرتها إيران إلى حد ما، انطلاقاً من وعيها بتأزم علاقاتها بالعديد من القوى الإقليمية والدولية؛ ما يفسر استمرار قنوات التواصل بين البلدين سواء عبر الأنشطة الاقتصادية أو تبادل زيارات المسؤولين.

وهنا يجدر بنا أن نؤكد أن السياسة الكويتية فيما يخص المعضلة الإيرانية تكشف بجلاء عن عبقرية في الأداء والتوازن السياسي؛ فالكويت لم تتخلَّ للحظة واحدة عن انتمائها العربي وانحيازها للقضايا والحقوق العربية، وهو أمر يعلمه الجميع، فيما لم تصل مواقفها السياسية حد القطيعة مع إيران، حيث لم يعد التعاون المشترك اقتصادياً مرهوناً بالمتغيرات السياسية المتلاحقة، غير أنه وبذات الوقت لا يمكن مطلقاً اتهام الكويت بالاصطفاف مع طهران مثلما حدث مع بعض الأطراف.

فعلى سبيل المثال، رغم المشاركة الكويتية بـ”عاصفة الحزم”، فإنها لم تتردد في استضافة جولة من الحوار بين الفرقاء اليمنيين؛ بل أعلنت مجدداً استعدادها لاستضافة جولة أخرى من المشاورات تحت رعاية الأمم المتحدة للتوصل لاتفاق سياسي شامل نهائي مبني على المرجعيات الثلاث (المبادرة الخليجية، مخرجات الحوار الوطني، قرارات مجلس الأمن)؛ بل إنها لم تفتأ تدعو إيران بين الحين والآخر لاتخاذ تدابير جادة للبدء في حوار مبني على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتخفيف حدة التوتر، والحفاظ على سلامة الملاحة البحرية؛ بما يساهم في إرساء علاقات قائمة على التعاون والاحترام المتبادل.

Exit mobile version