مطلوب حماية النشء من تغلغل اللغات الأجنبية عبر الرقمنة

 

أكد د. خالد عزب الأكاديمي ومدير إدارة المشروعات بمكتبة الإسكندرية أن عدداً من المجتمعات العربية يعاني من ظاهرة “الإستلاب اللغوي والثقافي” الذي باتت تعاني منه اللغة العربية، والتي تتمثل في مزاحمة اللغات الأوروبية خاصة الإنجليزية والفرنسية لها في الحضور والاستعمال اليومي، مما يترك أثراً سلبياً على الأجيال الصاعدة وعلى مصير اللغة والهوية العربية.

استخدام الحرف العربي في العمران يربط الأجيال الجديدة بلغتها

   جاء ذلك في محاضرته التي ألقاها “أون لاين ” في مختبر السرديات والخطابات الثقافية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك التابعة لجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، تحت عنوان: “اللغة والأدب، تحديات الوجود والهوية.

  وتابع قائلاً: “إن الحل الأنجع لإعادة الاعتبار للغة العربية ككيان لغوي ووعاء ثقافي، يكمن في التركيز على النص وجمالياته، الشيء الذي يخلق علاقة فنية ونفسية متينة بين الأطفال واللغة العربية، إلى جانب العودة مجدداً إلى استخدام الحرف العربي في العمران، لما له من تأثير بصري وجمالي باعث على حضور اللغة العربية الدائم في الذاكرة الحية للأجيال”.

وأوضح أن هناك علاقة جامعة بين علم الآثار واللغة والأدب، إذ أن الغوص في الزمن يرينا عدة حقائق، من بينها أنه كان في العصر المملوكي بمصر حياة أدبية مفعمة بالحيوية، حيث كان الناس يستمتعون بالأدب في كل مكان في الشارع والمقهى والمسجد والمدرسة، وذلك وفق أشكال الأدب المتاحة والمتعددة، التي تجمع بين ما هو شعبي وما هو رسمي.

نحتاج لموسوعة جديدة لتاريخ اللغة العربية والأدب العربي

الثقافة الشعبية تربط الأجيال الجديدة بلغتها 

وأشار د. خالد عزب إلى دور “الحكواتي” -الراوي الشعبي للقصص- في نشر هذه الثقافة وإشاعتها بين الناس، عبر طرقه الخاصة في استمالة المتلقي وتشويقه، منها القصة الممتدة التي يجزئها إلى قصص صغيرة تحكى منها قصة كل ليلة، كما وقف عند مفهوم “أحدوثة”، التي تعني – وفقاً لتعبيره – إحداث حديث غير موجود من قبل، وهي قصة تُروى في ليلة واحدة وتقف، عكس القصة الممتدة أو الطويلة.

  ولفت الإنتباه إلى أنه كانت هناك ميزة أساسية افتقدها العصر الحديث، وهي فكرة التأليف الجمعي حيث شهدت تلك الفترة ازدهار هذا النوع من التأليف الذي كان شائعاً ومتأصلاً، إذ أن “ألف ليلة وليلة” الشهيرة، التي كتبت في النسخة البغدادية، كتبت النسخة الأخيرة القاهرية منها في عهد العصر المملوكي.

وأوضح أن هذا ما يدعو إلى طرح عدة أسئلة، حول ما إذا كان تاريخ الأدب العربي قد كتب فعلاً، إذ أن ما كتبه المستشرق “كارل بروكلمان” وبعده “شوقي ضيف” وإصدار”موسوعة كامبريدج” الأخيرة المتعلقة بالأدب العربي، لا يستحضر التأليف الجمعي للعقل العربي للأدب، وهذا ما ينطبق – أيضاً – على تاريخ اللغة العربية، الذي لم يدرس بطريقة كافية وشافية، مما يؤكد علي حاجتنا الماسة إلى موسوعة جديدة لتاريخ اللغة العربية والأدب العربي.

   ولفت الانتباه إلى أن اللغة بمعجمها وتركيبها ودلالاتها هي المرآة التي تعكس مختلف التصورات في ثقافة أي مجتمع، إذ إنها يجب أن تبقى لصيقة بتطورات الزمن عبر الاستعمال، حتى تكتسب حيثيات التعبير الواعي بالزمن المواكب لتحولاته وشتى انعطافاته المتعددة.

“معجم ” مجمع اللغة العربية بالقاهرة ربط “العربية” بمستجدات العصر

علم جغرافيا اللغة يكشف المزيد من الزوايا

  وأوضح د. خالد أن علم “اللغة التاريخي” يعد فرعاً من فروع علم اللغة، فعندما يدرس علم اللغة التاريخي مجموعة من اللغات ذات قرابة، فإنه من الممكن معرفة قصة تغير الأصوات والألفاظ والقواعد اللغوية في تلك اللغات المدروسة، مما سهل ظهور علم جغرافيا اللغات، الذي جاء تلبية لاتجاه دراسات اللغات إلى العديد من الزوايا الجديدة.

 وشدد على أن التطبيقات التقنية، يمكن أن تكون داعمة للغة العربية، إذ أن اللغة العربية في العصر الرقمي لم تعد لها ضفاف أو حدود جغرافية تمنعها من التغلغل والانتشار، والهجرة صوب دول مثل دول آسيا وأوروبا، إلا أنه في نفس الوقت، كانت سبباً لتأثر الأجيال الجديدة باللغات الأجنبية وبثقافتها وبخاصة الإنجليزية، وذلك على حساب حضور اللغة العربية كلغة وثقافة وهوية.

  ولفت إلى وجود علاقة كامنة بين علم الآثار واللغات وجذورها، وهذه العلاقة تزداد يوماً بعد يوم حتى أفرزت لنا ما يعرف الآن بالحفريات اللغوية، التي تسبر أغوار اللغات القديمة لتقف على التأثيرات وتستخرج العلاقات بينها وبين اللغات الحية.

وضرب مثالاً لذلك وهو تأثير اللغة السومرية غير المباشر على اللغة العربية، الذي حدث بواسطة اللغة الأكادية، واللغة الفارسية المتأثرة باللغتين المذكورتين.

وأشار إلى العلاقة بين المصرية القديمة وبين اللغة العربية، ووجود مشتركات مهمة تشمل وجود حرف الحاء وحرف العين، وشيوع المصدر الثلاثي، وغلبة الفعل المعتل الآخر فيهما، وإلحاق الصفة فيهما بالموصوف مع التماثل بينهما جنساً وإفراداً وجمعاً.

المعجم اللغوي لمجمع اللغة العربية بالقاهرة

وأضاف د. خالد عزب – بأن هناك عدة مشتركات بين اللغة المصرية القديمة ولغات المنطقة، منها تلك التي تجمعها مع اللغة الأمازيغية، وقد تمخض عن هذا الاهتمام ظهور علم اللغويات الاجتماعية، المهتم بالطرق التي جعلت من اللغة مشيدة للمجتمع وواضعة لطابعه الخاص.

  ثم تطرق لموضوع اللغة الأم، وأوضح أن القول باللغات السامية أصبح من الماضي، إذ فقد معناه وحُجّيّة استمراره في ظل تطور علم اللغة التاريخي والحفري والعلوم اللغوية التي تكشف عن المشتركات بين اللغات، وهذا الطرح الجديد، يحتاج إلى إقامة معجم يجمع هذه المشتركات.

  وتساءل عن تغير مفهوم التعاون مع اللغة، في ظل تقدم اللغات وتداخلها، وأهمية المصطلحات، واعتبار كمها مؤشراً على الطفرة العلمية والثقافية والنهوض والتقدم الذي يشمل كل المجالات.

وأشاد بمجمع اللغة العربية بالقاهرة والدور الريادي الذي قام به في العقد الثالث والرابع والخامس من القرن العشرين، والذي تمثل في إدخال كلمات جديدة تعبر عن مستجدات التقدم العالمي والعلمي، سواء من خلال الاشتقاق أو من خلال القياس على المستوى الصوتي للغة العربية، الشيء الذي يدل على أن اللغة العربية قادرة على مواكبة روح العصر واستيعاب التغيرات الجديدة، وهذا ما يثبته معجمها التاريخي. 

ضرورة إحياء الأدب العربي لربط النشء بلغتهم

   ويختم د. خالد عزب محاضرته بطرح إشكالات متعددة، همت بالأساس اللغة العربية ورهاناتها ومحددات استمرارها وارتباط وجود الأدب العربي بذلك، وربط وضعها بمستقبل الهوية في المنطقة العربية، وقيامه بتوجيه الدعوة للاهتمام بالنماذج المندثرة من الأدب العربي، كالموشح والموال والزجل، والعمل على إعادة إحيائها، قبل التحدث عن وجود آداب غربية وعن ضرورة الاستفادة منها.

يذكر أن المحاضرة افتتحها منسق أشغال المحاضرة د. إبراهيم أزوغ بتقديم عام عن المحاضر د. خالد عزب، أبرز فيه بعد كلمة الترحيب بالضيف باسم مختبر السرديات والخطابات الثقافية لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، مؤكداً أن د. خالد عزب وجه من الوجوه الفكرية والثقافية العربية التي أغنت المكتبة العربية بأبحاثها المتعددة الروافد، وخاصة في الجماليات.

 وأشار إلى أن د. خالد عزب الذي يشغل منصب مدير المشروعات بمكتبة الإسكندرية، يحمل صفة محاضر من عدد من الجامعات العالمية المرموقة، مثل جامعة القاهرة وجامعة الإمارات العربية المتحدة وميلانو وجامعة أوكسفورد والسوربون، وله من الأعمال المنشورة ما يزيد عن خمسين كتاباً بين المشترك والمُنفرد.

وختم د. إبراهيم أزوغ منسق المحاضرة، بالإشادة بموسوعية مداخلة د. خالد عزب واصفاً إياها بالمحاضرة العابرة للتصورات والمناهج والحقول المعرفية، ثم فتح أمام المتابعين للمحاضرة باب المناقشة.

Exit mobile version